عندما سيطرت قواعد الشعر العربي على ألحان القصائد الأولى ، فتمسكت أم كلثوم بها ، ليتجه المجددان رياض السنباطي و محمد القصبجي إلى أسمهان!

شعار كتاب الأغاني الثاني

مع شيوع الفكر القومي و قبيل تفكك الإمبراطورية العثمانية ، بنتيجة الحرب العالمية الأولى ، بدأ الملحنون الأوائل ( عبده الحمولي ، أبو العلا محمد ،.. ) بالعودة إلى تلحين القصائد ، بعد أن ساد ، ولفترة طويلة ، تلحين الموشحات والأدوار ، والاكتفاء بالتغني بقصائد الشعر ارتجالاً.

وهنا كان لابد من التوافق المباشر مع ما ساد في الشعر العربي التقليدي من قواعد ، ومنها مثلاً : ضرورة اكتمال الفكرة الشعرية في بيت واحد ،ضمن القصيدة متغيرة الأفكار والصور الشعرية ، واعتبار ما خالف ذلك ، من توظيف أكثرَ من بيتٍ لإكمال الفكرة الشعرية ، ضعفاً لدى الشاعر.

اعتمد ملحنو القصائد الأوائل على الفكرة ذاتها ، مؤسسين للأسلوب التقليدي في تلحين القصيدة العربية ، إذ يختص كل بيت من أبيات القصيدة بجملة لحنية خاصة به ، مثلما يختص كل بيت شعري بفكرة محددة.

تبنى تلك الجملة على مقام موسيقي محدد ، و تمتد على طول البيت الشعري ، إذ تبدأ مع بدايته وتنتهي بنهايته ، وتستقر في ختامها على درجة استقرار المقام الأساسي ، مثلما يستقر البيت الشعري في نهايته على القافية المعتمدة.

تعتمد الجملة اللحنية للبيت الأول على المقام الموسيقي الأساسي وتختتم بدرجة استقراره و يتحقق الانتقال إلى البيت الشعري التالي عبر لوازم موسيقية ارتجالية ، تحدد التفرع المقامي المعتمد للحنه، مع ضرورة التمسك بالعودة إلى استقرار المقام الفرعي في نهاية لحن ذلك البيت ، وهكذا ، حتى الوصول إلى البيت الأخير ، حيث يلزم الأمر أن تعود جملته اللحنية لتعتمد على المقام الأساسي وتختتم على درجة استقراره ، في توافق مباشر أيضاً مع الضرورات الشعرية ، في اعتماد القافية والروي في نهاية كل بيت شعري ، كما رأينا ، ومع ما ساد أيضاً من اعتماد ما سمي بيت القصيد ، وهو البيت الأخير من القصيدة الذي يلخص المعنى العام.

مع الوقت ، ومع تطور فهم الملحنين لأهمية تعبير اللحن عن المعنى ، تعرض هذا الأسلوب للعديد من التجديدات، ساهم فيها محمد عبد الوهاب أولاً ، ثم رياض السنباطي، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، وفريد الأطرش، وغيرهم ليصل بالنتيجة إلى ما سمي الأسلوب التجديدي في تلحين القصيدة.

تجسد ذلك الأسلوب، بتطوير المقدمة الموسيقية، لتعبر عن مضمون النص، إضافة إلى إضفاء التعبير اللحني والأدائي عن المعاني أثناء الغناء، عبر تموجات في اللحن و توقفات فيه ، عند وجود معان جزئية ضمن البيت الواحد، أو تغييرات إيقاعية، يتطلبها التعبير، لتتقاطع مع الموسيقى ،التي أصبحت لها ضرورة تعبيرية ، إذ تقوم بدور حواري مع الأقسام المغناة ، تزيد أحياناً من توتر الأجواء ، أو تسهم في تهدئتها ، ما ألغى التوافق مع قواعد الشعر الموصوف في الأسلوب التقليدي في تلحين القصيدة ، بل وأسهم في تغيير تلك القواعد!

كان السجال بين أسلوبي التلحين واضحاً خلال النصف الأول من القرن العشرين ، و من أمثلة ذلك السجال ما شرحته في برنامجي عن حياة وفن أسمهان ، إذ كانت أسمهان جاهزة لأداء الألحان التجديدية للقصائد التي لحنها السنباطي والقصبجي ، فيما تمسكت أم كلثوم بالأسلوب التقليدي طويلاً ، قبل أن تتخلى عنه لاحقاً.

يمكن متابعة ذلك السجال من خلال هذا المشهد من الحلقة الثالثة  من برنامجي التلفزيوني : أسمهان


سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.