أسمهان تغني Happy Birthday : أربعون ثانية من الغناء تكشف معلومات كثيرة وتطرح سؤالاً هاماً عن العلاقة بين فيروز وأسمهان!

شعار كتاب الأغاني الثاني

ركزتُ دائماً ، على تحفيز فهم الموسيقى العربية ، واكتشاف مكامن الإبداع فيها ، والمعلومات والاستنتاجات التي تخفيها خلاياها ، إلى جانب الاستمتاع بسماعها ، ما يسهم في إعادة الاعتبار للموسيقى العربية ، أمام مجتمعها.
كما اعتبرتُ دائماً أن أي تسجيل لوثيقة صوتية ، لابد من أن يحمل في خلاياه حقائق كثيرة قد لا يظهرها التوثيق التقليدي للكتابة والطباعة.

أنشر الآن هذه اللمحة النادرة بصوت أسمهان ، للأغنية العالمية الشهيرة الخاصة بأعياد الميلاد ، التي غنتها أثناء حضورها لحفل عيد ميلاد صديقتها ساندي ، ومدتها حوالي 40 ثانية ، كمثالٍ على الكم الكبير من المعلومات ، الذي يمكن أن تختصره لمحة غنائية قصيرة ، فلنستمع إلى الأغنية ثم نطرح السؤال : ماذا يمكن أن نستنتج من الاستماع إليها؟


في تقديري ، هناك أربعة استنتاجات هامة ، على الأقل ، يمكن استقراؤها من الاستماع إلى هذه اللمحة الغنائية القصيرة ، ثلاثة منها تختص بأسمهان ، والاستنتاج الرابع يتصل بالعلاقة بين أسمهان وفيروز!

أولاً: أسمهان و الغناء الأوبرالي

يبين التسجيل أن أسمهان تغني هذه الأغنية العالمية الخاصة بمناسبات عيد الميلاد ، في أسلوب يقترب من أسلوب الأداء الأوبرالي ، دون أن تكون درسته ، ولاشك أنها في أدائها بهذا الشكل كانت تبحث عن تأكيدٍ لمكانتها الثقافية ، في حفلة عيد ميلاد صديقتها ساندي ، التي يحضرها نخبة من المجتمع المصري والبريطاني ، كما أنها تغني مرتاحة ، وهي المعروف عنها كرهها للغناء في حفلات خاصة ، لإحساسها الشديد بالكبرياء ، ولكنها هنا تقدم هدية لصديقتها ، من خلال أداء هذه الأغنية ، وهو ما يرضي كبرياءها.

من المحتمل أن يكون هذا التسجيل قد شاع لاحقاً ، وأوحى لمحمد القصبجي ، بعد سماعه لأساليب الغناء الأوبرالي ، وخاصة في أغنية أصوات الربيع لشتراوس ، التي غنتها إرنا زاك ، و كنت عرضتها في نشرة سابقة منذ أيام ، بأن يفتتح مع أسمهان مسار الحداثة الأوبرالية ، في تلك التغريدة الرائعة : يا طيور ، وهو ما تابعه فريد الأطرش مع أسمهان ، في أوبريت انتصار الشباب.

من المحتمل ، بالمقابل ، أن تكون سجلت هذا التسجيل ، بعد أدائها لتغريدات ” يا طيور ” ، مؤكدة بذلك تمثلها الكامل ، لأسلوب الأداء الأوبرالي ، وارتياحها في أدائه.

ثانياً: أغنية جماعية تؤديها أسمهان منفردة في تعبيرية لافتة

نلاحظ أيضاً أن أسمهان غنت هذه الأغنية ، احتفاءً بصديقتها ، في تعبيرية ملفتة ، ندرَ أن قُدمت هذه الأغنية من خلالها ، وهي الأغنية التي تؤدى عادة جماعياً ، وبشكل حماسي احتفالي ، كما أنها غنتها بمفردها ، أمام المايكروفون ، في فترة كان وجود آلة تسجيل حدثاً بحد ذاته ، ما يعكس إحساسها بمكانتها ، و باختلافها عن الآخرين من جهة ، واحترام الآخرين لحضورها ، في حفلة نخبوية.

أشير أيضاً إلى أن التعبير الذي قدمته أسمهان ، ورغم أنه تعبير عاطفي تجاه صديقة ، في أجواء احتفالية ، لا يفارقه الشجن والحزن الدفين ، الذين رافقا غناءها ، منذ أن علمت في عام 1937 ، أنها فقدت إمكانية الحمل مجدداً ، و توفير طفل ذكر ، وريث لزوجها ، الأمير في قومه.

ثالثاً: لغة أسمهان الإنجليزية:

غنت أسمهان هذه الأغنية باللغة الإنجليزية ، وبنطق سليم وأنيق ، ما يعكس إتقانها لهذه اللغة ، ويفسح في المجال للتمعن في كون هذا ، أحد الأسباب التي سهلت اتصال البريطانيين بها ، للقيام بمهمة وطنية سرية في سورية ، حافلة بالمخاطر.

رابعاً : أسمهان وفيروز

لو قارنا بين أسلوب أداء أسمهان لهذه الأغنية ، والشخصية الغنائية التي برزت في هذا التسجيل، على سبيل المثال لا الحصر ، وأسلوب أداء فيروز لأغنية ” حبذا يا غروب ” ، والشخصية الغنائية التي برزت في تسجيلها ، وخاصة في منتصف الأغنية ، أي حوالي الدقيقة 2:00 . كانت هذه أول أغنية لحنها الأخوان رحباني للسيدة فيروز ، وكانت أتت في فترة البحث عن شخصية غنائية جديدة لفيروز ، ولو تمعنّا  لوجدنا أنه الأسلوب ذاته ، والشخصية الغنائية ذاتها ، التي ظهرت في أغنية عيد الميلاد لأسمهان ، ما يبين لنا ، أولاً : مدى تأثر فيروز بأسمهان ، خاصة أنها ، أي فيروز ، غنت لأسمهان ، أمام لجنة الاستماع في الإذاعة اللبنانية ، في بداية حياتها الفنية ، و ثانياً : أن أسمهان كانت أحد المنابع التي بنيت عليها شخصية فيروز الغنائية ، وإن كانت تلك الشخصية قد ابتعدت بشكل تدريجي عن منابعها ، لاحقاً.

وأخيراً:

هذا تسجيل لأسمهان من 43 ثانية ، استطاع اختزال كمية كبيرة من المعلومات ، إذ بين أنها متقنة للإنجليزية ، و عارفة بأساليب الغناء الأوبرالي ، و أنها تغني بتعبير شديد التركيز ، بغض النظر عن الأغنية التي تغنيها ، ما يقود إلى تبيان أهمية الغناء في حياتها ، كأداة تعبير ، لا كأداة احتفال ، فيما يكشف بالمقابل استنتاجات أخرى ، تتعلق بعلاقة شخصية فيروز الغنائية ، في بداياتها ، بأسمهان.

ألا يجعلنا هذا نتمعن في كميات المعلومات ، التي تختزنها أمهات الأغاني العربية ، والتي تحتاج إلى الكثير من الجهد التحليلي المكثف ، للكشف عنها!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.