محمد القصبجي في ذكراه ..

شعار كتاب الأغاني الثانيالملحن الذي سبق عصره وقدم ألحاناً أكثر تطوراً في عالم الموسيقى

تميزت جمله اللحنية بالابتكار وعدم الاقتباس أو الاستيحاء

عندما أتذكر محمد القصبجي , تقفز إلى خاطري ثلاث صور متعارضة.. الأولى: تلحينه في عام 1928 لمونولوج (إن كنت أسامح) الذي حقق عبر صوت السيدة أم كلثوم أكبر عدد من الأسطوانات المباعة في العقود الأولى من هذا القرن ، حيث أكدت تلك الصورة تجاوب الجمهور مع أسلوبه التلحيني .. والثانية: إجماع النقاد على أن القصبجي كان الملحن الذي سبق عصره فقدم عبر تعاونه مع السيدة أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد ، أعمالاً كانت الأكثر تطوراً في عالم الموسيقى العربية والثالثة: صورته وقد اعتزل التلحين عام 1948 مكتفياً، وحتى وفاته في الخامس والعشرين من شهر مارس (آذار) عام 1966 ، بموقع عازف العود في فرقة السيدة أم كلثوم.

أليس عجيباً أن يتقاعد ملحن أجمع النقاد والذواقة على أنه الأكثر تطوراً ؟ألا يعكس هذا مدى الخلل الذي أصاب الموسيقى العربية في النصف الثاني من القرن العشرين..؟

قد تتساءل عزيزي القارئ عن الأسباب التي دفعت محمد القصبجي إلى اعتزال التلحين قبل وفاته بمدة طويلة ، مع بقائه في أجواء الغناء والموسيقى من خلال ممارسته العزف على العود إلى جانب السيدة أم كلثوم في أهم فرقة موسيقية في زمانها ، وقد يدفعك هذا التساؤل إلى الشك بأن اعتزاله كان قسرياً بشكل ما. سأحاول من خلال هذه السطور أن أتبين الظروف التي أدت إلى اعتزال محمد القصبجي التلحين قبل الأوان.

القصبجي و المسار التلحيني الواضح..

لا بد أولاً من التوقف عند نقطة محددة في فن القصبجي ، قد تكون هي التي ساهمت ، في تأكيد تطور فكره الموسيقي من جهة ، وفي دفعه للاعتزال من جهة أخرى ، وهي تجنبه إغراق ألحانه بالعناصر المألوفة التي تحقق المباشرة ، وابتعاده في غالب الأحيان ، عن محاولة التأقلم مع تغيرات السوق الغنائية. لقد كان يتابع مساراً رسمه لنفسه لتحقيق الأغنية العربية المتطورة كما يراها ، بحيث كانت أعماله المتتالية نماذج متجانسة تعبر كل منها بأمانة عن ملامح فكره الموسيقي المتطور.. وأعتقد أن أسلوبه توافق في البداية مع ما تطلبه السوق الغنائية لأنه بدأ رحلته الموسيقية دارساً على يد والده الشيخ علي القصبجي والفنان الكبير كامل الخلعي ، منطلقاً من الواقع السائد في السوق الغنائية ، والمعتمد على تفاهم ما بين المبدع والمتلقي حسب أساسيات مشتركة ، وعندما ظهرت محاولاته الأولى في التطوير باتجاه الرومانسية ونشرتها الأسطوانات التي سادت في العشرين من هذا القرن ، كأداة إيصال رئيسة استقبلها الجمهور بترحاب كبير ، لأنها لاءمت تطور الذوق العام ،  خاصة وأن ناشرها كان صوت السيدة أم كلثوم الساحر ، ولكن المسارين اللذين تلاءما في البداية ، مسار تطور فكر القصبجي الموسيقي , ومسار تطور الذوق العام ، سرعان ما افترقا بحلول نهاية الثلاثينات ، بفعل الظروف المحيطة ، والتي كان من أهمها ، غياب دور الأسطوانة ، كأداة إيصال رئيسة تلائم المدرسة الرومانسية ، وقيام الحرب العالمية الثانية التي غيرت ملامح السوق الغنائية ، واتجاه السيدة أم كلثوم إلى تقديم أغانيها على المسرح مبتعدة عن السينما والأسطوانة  ، ومعتمدة في ذلك على أعمال الشيخ زكريا أحمد التي تلاءمت مع ذوق جمهور الحفلة في الأربعينات ، الباحث عن استثارة الطرب ، ثم على أعمال الأستاذ رياض السنباطي ، الذي استطاع تطوير السوق الغنائية في الخمسينات ، عبر مزج ملامح فن الشيخ زكريا ، مع جرعة معدلة من ملامح فن القصبجي المعتزل ، إضافة إلى اتجاه الأستاذ محمد عبد الوهاب ، وكذلك الأستاذ فريد الأطرش إلى التجديد بأساليب أخرى ، اعتمدت على الإذاعة والسينما في إيصال نتاجها .. وهكذا بدا أن المدرسة الرومانسية التي تزعمها القصبجي ، لم تعد تجد لها مجالاً ، بعد أن اقتسم كبار الملحنين أدوات الإيصال الجديدة وتلاءموا معها.

لم يستجب القصبجي لهذه التغيرات وفضل الاحتفاظ بالمسار الرومانسي الذي رسمه ،  فكان ضحية احترامه لفنه ولنفسه ولتغير ملامح السوق الغنائية.

الرومانسية أولاً وأخيراً ..

ولد محمد القصبجي في عام 1892 ، العام ذاته الذي شهد ولادة سيد درويش. عاش الاثنان طفولتهما وشبابهما الأول في فترة كانت تسيطر فيها أشكال موسيقية تعتمد على توليد الطرب لدى المستمع عند سماعه الأعمال الغنائية السائدة . اتجه سيد درويش إلى الأغنية الجماعية وتطوير المدرسة التعبيرية في المسرح الغنائي ، واتجه القصبجي منذ منتصف العشرينات ، إلى الأغنية الفردية البعيدة عن التطريب ، والمعتمدة على استخدام الصوت الساحر ، كالآلة الموسيقية. كان القصبجي في ذلك متأثراً بالمدرسة الرومانسية ، التي شاعت في الفترة نفسها في مصر ، عبر المدارس الأدبية والشعرية المتنوعة التي تبنتها.

رفض إغراق ألحانه بالعناصر المألوفة لدى الجمهور

تميزت المدرسة الرومانسية أصلاً بمحاولة التعبير عن تقلب المزاج وتصارع العواطف والحس المرهف والإعجاب بالذات ، وهكذا حاول القصبجي أن يعبر موسيقياً عن هذه العناصر ، مبتعداً عن محرضات الطرب ، كتكرار الجملة اللحنية ومتشابهاتها ،  وتصاعدها التفاعلي قبل القفلة النهائية ، فطوَّر قالب المونولوج الرومانسي في مراحل ، غايتها التوافق مع عناصر المدرسة الرومانسية العامة ، فعبر عن تقلب المزاج ، بتغير إيقاع اللحن ، بحيث أصبح العمل الغنائي مقاطع متتالية ، تتناوب فيها الإيقاعات البطيئة والسريعة مع المقاطع المرسلة ،  وكذلك عبر إعطاء الفرقة الموسيقية دوراً أوضح في اللوازم الموسيقية المتعارضة مع الغناء للتعبير عن صراع العواطف ، متعاوناً مع الشاعر الأستاذ أحمد رامي ، الذي وضع صياغة للنظم متغيرة الأوزان والقوافي  ، ومعتمداً على صوت السيدة أم كلثوم العجيب ، لتحقيق المدود الصوتية التي تحقق الإحساس بروعة الجمال ، وعلى رامي أيضاً في التعبير عن مضامين تعبر عن الإحساس بالظلم.

الجمل اللحنية

ولم تظهر هذه الملامح دفعة واحدة ،  بل كانت في مراحل متتابعة ، وكلما زاد وضوحها في أعماله ، كان ذلك على حساب العناصر التقليدية في الغناء المعتمد على الطرب.  وهكذا غاب التكرار شيئاً فشيئاً ، وكذلك التصاعد التفاعلي ، والقفلة ، ليتحول المونولوج الرومانسي إلى أغنية ، تنطلق من بدايتها إلى نهايتها دون أي تكرار فيها ، وهو ما سمي بالمونولوج المطلق.


وكان أن تميزت الجملة اللحنية عند القصبجي بأنها جديدة تماماً .. لا اقتباس فيها ، ولا استيحاء ، ولا توليد .. جمل جديدة كل الجدة ، على المستمع أن يصغي إليها بانتباه ، ليتابعها ، دون أن تذكره هذه الجمل اللحنية ، بأي جملة لحنية مطروقة أو مكررة ، فيأنس إليها .. وكانت مونولوجاته حافلة بالمدود الصوتية ، حيث لم يعد المعنى المغنى ضرورياً للفهم.. المهم .. أن يفهم المستمع الجو العام للنظم ، ولكن المهم أكثر ، كان إطلاق الصوت الرائع دائماً في حدود لا نهائية ، تختفي فيها الإيقاعية تماماً في لحظات طويلة .. وكأنه أسلوب صوفي في الأداء ، ابتعدت فيه الكلمة واختفى اللحن إلى الظل ، ليبقى جمال الصوت المطلق ، وكأنه لا أسمى ولا أحلى. كان هذا مقبولاً في العشرينات ، مع موجة الرومانسية التي شاعت والاسطوانة ، كأداة استماع وإيصال للغناء الذي يسمع في البيت وفي هدأة الليل.. ولكن أدوات إيصال الغناء الأخرى ، كالسينما والإذاعة والمسرح  ، لم تتوافق مع هذا الأسلوب..السينما تتطلب فهم الكلمة المعبرة عن حدث درامي ، مع قبولها أحياناً للمدود الصوتية ذات الإيقاع البطيء ، والإذاعة تتطلب الأغنية القصة التي قد تقبل المقاطع المرسلة أحياناً ، ولكن المسرح أداة الإيصال الوحيدة التي اعتمدتها أم كلثوم ، يتطلب التكرار والتطريب ، لأن الجمهور يحب أن يتشكل العمل الغنائي من مقاطع متغيرة الألحان ، تتناوب دوماً مع مقطع متكرر ، مما يساعد المستمع على حفظه والترنم بلحنه لدى كل تكرار جديد له، وعندما غابت تلك العناصر، إضافة إلى جدة الجملة التلحينية  ، ابتعد الجمهور عن فن القصبجي..

وظهر أن توجهات القصبجي لا رجعة عنها ، لأنه عندما قبلت أم كلثوم في 1943 ، أن تكلفه بتلحين عمل جديد تغنيه على المسرح, ، اختار مونولوج (رق الحبيب) ، من نظم رامي ، على أسلوب المونولوج المطلق ، مبتعداً فيه عن أي تكرار أو تصاعد تفاعلي .

القصبجي وأم كلثوم ..

ولكن ماذا عن موقف السيدة أم كلثوم في هذا الموضوع ? ألم يكن يجدر بها أن تساعد الملحن الذي ساندها في بداياتها ، وساهم بقسط كبير في تثبيت مكانتها ، مستغلة سيطرتها الكاملة على جمهورها ، مثلما فعلت عندما دعمت أغنية فكروني ، التي لحنها الأستاذ محمد عبد الوهاب،عندما لم تستطع تلك الأغنية لدى أول تقديم لها ،  أن تقف أمام رائعة السنباطي (الأطلال) ، فغيرت في أسلوب أدائها عندما قدمتها للمرة الثانية ، وأضافت من الارتجالات المبهرة ما قرب الجمهور منها ؟  هنا لا بد من التوقف عند نقطتين :الأولى تتجسد في أن السيدة أم كلثوم سعت لكي تبقى دائماً في قمة الغناء العربي ، واستطاعت ذلك عبر فهمها لضرورة تعديل المسار حسب متطلبات السوق الغنائية  ، فبعد أن اعتمدت على أبي العلا محمد والقصبجي في البدايات ، جاء دور زكريا أحمد  ، ثم السنباطي  ، وصولاً إلى محمد عبد الوهاب ، وهذا ذكاء واضح على المستويين الفني والشخصي ، ولكنه يتطلب أحياناً غياب عناصر فنية رائعة ، لأن السوق الغنائية المتأثرة بجملة من العوامل لم تعد تطلبها ، مما قد ينتج عنه حرمان الحركة الفنية الخالصة من أهم عناصر نموها وتطورها  ، بمعزل عن تغير أذواق الناس ، والثانية تتجسد في أن القصبجي ، عندما لم تستجب السيدة أم كلثوم لرغبته في متابعة الخط الرومانسي التعبيري التجديدي ، اتجه بتشجيع من الأستاذ فريد الأطرش ، إلى التعاون مع صوت أسمهان الساحر ، وهو صوت توفرت فيه القدرات اللازمة للقيام بالمهمة نفسها ،  ولم يتجه إلى الغناء في الحفلات ، بل تابع تقديم نتاجه عبر السينما والإذاعة..


وعندما لم تشجعه أم كلثوم على متابعة تعاونه مع أسمهان فلم يستجب ، ثم لم يمهل القدر أسمهان لتتابع المسيرة ، ظهر أن كل شيء قد انتهى ، وأن على الملحن الكبير أن يستريح .. مكتفياً بتلك اللحظات التي تتيحها ارتجالات السيدة أم كلثوم ضمن أغانيها ، لكي يندفع في خواطر موسيقية على آلة العود ، ومنتظراً أياماً أفضل تُفهم فيها ألحانه .. فانقضى عمره دون أن يكون ذلك ..

وهاهي ثمانية وعشرون عاماً تنقضي دون أن يظهر أن روائعه ستحقق الاهتمام في المستقبل القريب..  ولا أدل على ذلك إلا مرور ذكرى ولادته المئوية منذ عامين ( 1992) ، فلم تشهد إلا نسبة بسيطة من الاحتفالية التي شهدها العام نفسه ، في الذكرى المئوية لولادة زميله سيد درويش.

د. سعد الله آغا القلعة

نشر هذا المقال في صحيفة الرأي العام الكويتية عام 1994

Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.