قصيدة أيها النائم وتحليلها الموسيقي والإنساني : عندما رثت أسمهان نفسها دون أن تدري!

شعار كتاب الأغاني الثانيفي عام 1944 ، وتحديداً في 10 تموز 1944 ، أي قبل رحيلها عن هذه الدنيا بأيام ، صورت أسمهان قصيدة أيها النائم ،التي كانت ستغنيها في سياق فيلم غرام وانتقام . أتت هذه القصيدة ضمن أحداث الفيلم ، لترثي بها زوجها الذي قتل .


تعتبر هذه القصيدة ، التي جاءت  ، من كلمات الأستاذ أحمد رامي ، وألحان الأستاذ رياض السنباطي ،  إلى جانب قصيدة ” أيها الراقدون ” ، للأستاذ محمد عبد الوهاب ، من أهم ما قدمه الغناء العربي في الرثاء ، وتأتي أهميتها الاستثنائية ، من أن أسمهان ، في أدائها  لهذه الأغنية ، و دون أن تعلم ، كانت ترثي نفسها ! إذ جاء عرض الفيلم بعد وفاتها . ويغلب لدي الظن بأنها كانت تستشعر قرب نهايتها .. يؤيد هذا التوقع : ما رواه أحمد رامي من أنها كانت والسنباطي يبكيان ، و هي تؤدي الأغنية مراراً ، قبل التسجيل ، و كذلك  الأداء الدرامي المعجز غير المسبوق الذي قدمته أسمهان ، أثناء تسجيل الأغنية.

البناء
جاءت القصيدة على مقام النهاوند ، في لحن مرسل لجميع أبيات القصيدة ، خلا من الإيقاع ، مجسداً سعي السنباطي لجمع الأصالة ( القصيدة الغنائية التقليدية المرسلة والمرتجلة التي كانت مسيطرة قبل عبده الحمولي في مصر وبقيت سائدة في حلب ) والمعاصرة ( التعبير اللحني عن أجواء نص درامي )  ، في عمل غنائي واحد. اختص كل بيت من أبيات القصيدة بلحن خاص ، ماجعلها بعيدة عن أي تكرار ، وذلك وفق قالب القصيدة الغنائية التقليدي ، إلا في البيت الأخير ، الذي جاء بلحن مختلف. ولكن تقاطع الموسيقى مع الغناء ، في خلايا لحن البيت الواحد ، وكذلك ختامها المعلق ، جعل أسلوب تلحينها تجديدياً يقترب من قالب المونولوج.

في هذه القصيدة الغنائية ، خرج اللحن ، الذي جاء على مقام النهاوند ، عن  إطار التطريب ، ليتحول إلى فضاء تعبيري درامي عالي المستوى ، أثبت السنباطي فيه ، أن باستطاعة المقامات الشرقية الأصيلة ، الوصول إلى درجات عالية من التعبير الدرامي ، مع المحافظة على الروح الشرقية للحن ، حسبما أثبتت المشاهد التي بنيت على مقامي البيات والراست .

أداء أسمهان
أشير  هنا إلى أن أسمهان ، في أدائها لهذه الأغنية ، أسبغت على اللحن أبعاداً مأساوية مؤثرة ، وخاصة عند قولها ” إلا حبَّه ” ، ” و أغفى ” ، ” ثم ولّى ” ، ” وحبيبٌ راح عني ظله ” ، ” الفطاما ” ، كما أن أنفاسها المختنقة ، كانت تفضح ارتباط مشاعرها بالنص ، خصوصاً  عند قولها  ” وانضحوه بدموعي وانثروا حوله قلبي الذي أضحى حطاماً”  ، حيث نقَّل السنباطي ، في تلحينه لكلمة حطاما ، صوت أسمهان ، في امتدادات على أصوات موسيقية مختلفة ، وكأنّ كل صوت منها ، يُمثّل جزءاً من هذا الحطام، كما أنهى اللحن ، دون أن يعود إلى استقرار مقام النهوند ، الذي هو في البداية المقام الأساسي للّحن ، وإنما ترك الختام هائماً عبر الأصوات  الموسيقية ، دون أن يختم اللحن ، كما تهيم الروح عندما تفارق الجسد.

ورد تحليل القصيدة الموسيقي والتاريخي ضمن حلقات البرنامج التلفزيوني ” أسمهان” ، بما في ذلك تسليط الضوء على العوامل التي أدت إلى تعاون الأستاذ رياض السنباطي مع أسمهان في مجال القصائد تحديداً.

التحليل الموسيقي التفصيلي للقصيدة
لنتابع الآن تسجيل القصيدة الصوتي ، مع الكلمات والتحليل الموسيقي الكامل ، من خلال الاستماع إلى التسجيل ، و تحريك سجلات الجدول ، مع سير التسجيل الصوتي من خلال المؤشر الموجود أسفل يمين الجدول ..

النصالتحليل الموسيقي
مقدمة موسيقية مقدمة موسيقية مرسلة على مقام النهاوند ، وهو مقام القصيدة الأساسي ، أكسبت اللحنَ إيقاعية خفية مأساوية ، من خلال تضاريس لحنها ودفقاته العاطفية
أيها النائم عن ليلي سلاما لم يكن عهد الهوى إلا منامانشير هنا إلى أداء أسمهان لكلمة " النائم " مضمخةً أياها بتنهدات خفية
لم يكد ومض المنى يبسم في خاطري حتى غدت روحي ظلامالحن متفاعل مع لحن البيت الأول ، يبدأ البداية ذاتها ، ثم يخرج عنه . نشير هنا إلى أداء أسمهان لمقطع " حتى غدت روحي " معبرة عن تحسر واضح
أملٌ في مهجتي هدهدته ثم ولى وهو لم يعدُ الفطاماتعبير عن التحسر في توقف اللحن بعد تخافضه عند كلمة الفطامى عند ورودها للمرة الأولى قبل تكرار البيت
وحبيبٌ راح عني ظلُه ورماني بين آمالي اليتامىانتقال لمقام البيات عند وحبيبٌ - ننشير هنا إلى قدرة أسمهان الصوتية على إبراز الُعرب الصوتية المجسدة لمقام البيات الشرقي الأصيل بشكل نقي و صافٍ ، كما نتوقف عند اللازمة الموسيقية المعبرة التي تلي هذا البيت
يا ندامى الراح من كرم الهوى جفَّت الكأس على أيدي الندامىاستمرار للحن على مقام البيات مع استمرار ملامح التعبير عن المعنى في اللحن والأداء ، كما نتوقف أيضاً عند اللازمة الموسيقية المعبرة التي تلي هذا البيت
كنت لا أشتاق إلا حبّه فسقانيه و أغفى ثم نامااستمرار مقام البيات – نشير إلى أسلوب أسمهان في التعبيرعن كلمات : " حبه" " وأغفى " " ثم ناما " مع عودة إلى مقام النهاوند..
وسِّدوه بين أضلاعي فقد ضمه قلبي حنانا و غراماانتقال لمقام الراست مع الناي – لحن أول لهذا البيت و تاليه على مقام الراست
وانضحوه بدموعي وانثروا حوله قلبي الذي أضحى حطاماتعبير مؤثر يحمل ملامح ثورة الألم ، وتعبير بشكل أول عن كلمة حطاما في تنقلات صوتية متخافضة حتى استقرار اللحن
وانضحوه بدموعي وانثروا حوله قلبي الذي أضحى حطاما عودة لمقام النهاوند وهو مقام القصيدة الأساسي في لحن ثانٍ للبيت الأخير تمهيداً للختام من جهة وانتقالاً لأجواء الاستسلام بعد ثورة العواطف . تنقلات صوتية على كلمة حطاما للتعبير عن الحطام حيث نقَّل السنباطي صوت أسمهان ، في امتدادات على أصوات موسيقية مختلفة ، وكأنّ كل صوت منها ، يُمثّل جزءاً من هذا الحطام .. وختامٌ معلق هائم للحن كما تهيم الروح وهي تغادر الجسد .. ولكنه من جهة أخرى يحقق الختام التقليدي المعلق لقالب المونولوج الرومنسي الذي اقتربت منه القصيدة في أجوائها اللحنية

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.