أمير الكمان سامي الشوا : جمع فن حلب ونهوض القاهرة وحقق مكانة غير مسبوقة نافست نجومية كبار المطربين في عصره!

شعار كتاب الأغاني الثانيعازفٌ بارع على الكمان و معلمُ و مؤرخٌ وباحثٌ موسيقي ، شارك في تسجيل التراث الغنائي ، و سجَّل التراث الموسيقي ، و بلغ مكانة لم يبلغها موسيقي آخر في عصرٍ احتكر فيه المطربون النجومية!

سامي الشوا

عائلة موسيقية
ولد سامي الشوا في القاهرة لأسرة حلبية شكلت تراثاً معروفاً في عالم الموسيقى . كان جده الأكبر يوسف عازفاً على الكمان في بداية القرن الثامن عشر ، أسس فرقة موسيقية سماها ” نوبة الشوا ” ، مع أشقائه أنطون على الكمان ، و عبود على العود ، وحبيب على الإيقاع ، وابنه الياس ( جد سامي ) على القانون. عزفت هذه الفرقة في احتفالات النصر على العثمانيين التي أقامها إبراهيم باشا نجل محمد علي باشا في حلب عام 1830.
كان أنطون الشوا والد سامي عازفاً على الكمان أيضاً ، ولد حوالي العام 1851 وتعلم العزف في إطار عائلته الموسيقية. سافر إلى مصر في عام 1867 وعزف في حفل زواج أنجال الخديوي إسماعيل ، فحصد نجاحاً كبيراً ، وكان له إسهام كبير في انتشار هذه الآلة بسرعة في الفرق الموسيقية المصرية ، كما شارك في العزف مع فرقة محمد عثمان ثم عبده الحمولي .
أقام أنطون في القاهرة لسنتين ، ثم عاد إلى حلب واستقر فيها لسنوات. عاد إلى القاهرة في عام 1883 ، وتزوج من لويزا شلحت ، وأقام في حي باب الشعرية. عاد إلى حلب مرة أخرى عام 1889 ليقيم فيها لمدة عام ، ثم ليعود مجدداً إلى القاهرة ، فيقيم فيها حتى عام 1892 ، حيث عاد واستقر في حلب نهائياً ، ليبقى فيها حتى وفاته على 1914.

شهرة مبكرة
تسببت رحلات أنطون المتكررة بين حلب والقاهرة في غموض المكان الذي ولد فيه ولده سامي ، في الأدبيات التي تناولت الموضوع ، إلا أن الشوا أورد في مذكراته أنه ولد في القاهرة عام 1889.
أبرز سامي حبه للموسيقى ولآلة الكمان منذ صغره ، ولما عارض والده ذلك ، تعاونت أمه مع جده إلياس لإقناع والده بتعليمه العزف على الكمان ، وسرعان ما أصبح سامي مشهوراً ببراعته. كان عمره 10 سنوات عندما واجه الجمهور لأول مرة في حفلة أقيمت في مدينة حلب ، ثم اشترك بعدها في العديد من الحفلات.
في عام 1904 ، أرسله والده إلى القاهرة ، وكان عمره 15 سنة. التقى هناك بمنصور عوض ، صديق والده و عازف العود الشهير الذي كان يعمل لحساب شركة أسطوانات غرامافون. دعمه منصور لكي يسجل مع كبار المغنين في بدايات القرن العشرين ، فأصبح سامي يأخذ مكان عازفي الكمان المعروفين في القاهرة ، أمثال إبراهيم سلهون، في حال تغيبهم عن التسجيلات ، أو عن حفلات يوسف المنيلاوي و عبد الحي حلمي.

أقام سامي في القاهرة لعدة سنوات في منزل خاله يوسف بك شلحت الواقع في باب الشعرية ، حيث رأى النور ، لكنه لم ينقطع عن زيارة مدينته حلب كل عام.

توفرت له فرصة العزف في صالون ساويرس بك ميخائيل ، أمام حضور كبير من رجال السياسة والأدب والموسيقى،  كما أتيحت له فرصة العزف بشكل منفرد في حفلة أقيمت في حديقة الأزبكية في القاهرة ، فانتزع إعجاب الحاضرين في المناسبتين ، ما مهد له أن يشق طريقه بسرعة ، فأصبح يدعى وهو في مقتبل عمره لمرافقة جميع الفنانين والموسيقيين الكبار في مصر ، كما أعجب أمير الشعراء أحمد شوقي بعزفه ، فاصطحبه في عام 1910 في زيارة إلى استامبول ، عاصمة العثمانيين.

استدعته “شركة جرامافون” لمصاحبة بعض المطربين في تسجيلاتهم، ونظراً لنجاحه في إدارة التسجيلات ، فقد كلفته عدة شركات للأسطوانات لإدارة عملية تسجيل التراث الموسيقي العربي ،  وتنفيذها مع فرقته الموسيقية.

بدأ العزف مع أم كلثوم في أولى حفلاتها العامّة في الثاني من تشرين الأول عام 1926 على مسرح دار التمثيل العربي بالقاهرة ، واستمر عازفاً في فرقة ام كلثوم لسنوات عديدة ، كما ضمّه لاحقاً محمد عبد الوهاب إلى فرقته الموسيقية ، وسرعان ما سلَّمه قيادة الفرقة ، حيث استمر الشوّا في قيادتها لعدة سنوات.

عبد الوهاب في بداياته مع سامي الشوا

احتكر الشوّا ساحة العزف على الكمان في القاهرة من أواخر عام 1910 إلى 1930 ، وخاصة بعد وفاة إبراهيم سهلون في عام 1920.  أدار تسجيل التراث الغنائي على أسطوانات ، إذ كان قادراً على ضبط مدة التسجيل ، لتتوافق مع المدة التي يمكن للأسطوانات الأولى أن تحتويها ( 6 دقائق ) ، في عصر تعود فيه المغنون على الارتجال ، وعلى الوقت الممتد أمامهم دون حدود ، فارتبط اسمه بأسماء كبار المغنين ، وأصبح أشهر الموسيقيين في مصر وأهمهم.
وثَّق الشوا علاقاته مع كبار أهل الثقافة والفكر في مصر ، أمثال الشيخ محمد عبده ، وقاسم أمين ، وأحمد شوقي ، بل إنه استطاع إقناع الشيخ علي محمود ، بالسماح له لمرافقته على الكمان ، في تسجيل المديح النبوي” يانسيم الصبا تحمل سلامي” ، في سابقة ، إذ لم يكن المنشدون يتسامحون مع مشاركة الموسيقى لأدائهم المدائح النبوية والابتهالات الدينية. نلاحظ عند الاستماع أن الشوا كان متحفظاً في أدائه ، مراعاة للمناسبة.


الاهتمام بالتعليم
في عام 1906 أسس الشوا مع منصور عوض معهداً موسيقياً يعتمد الأساليب الحديثة في تعليم الموسيقى العربية.أصدر كتباً لتعليم الموسيقى منها كتابٌ لتعليم العود في عام 1921 وكتابٌ آخر في النظريات الموسيقية في عام 1946 ، أسماه كتاب القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية.
أسهم تكليفه من قبل شركات الأسطوانات بإدارة التسجيلات لجميع المطربين والمطربات مع فرقته ، في توثيق التراث الغنائي ونقله لأسطوانات ، ما أنتج تسجيلات موثقة ، إذ أدارها موسيقي عارفٌ بالموسيقى وقواعدها ، أمكن اعتمادها لدراسة ذلك التراث وتعليمه.
شارك سامي الشوا في تأسيس نادي الموسيقى الشرقي ، وأنشأ وقاد الفرقة الموسيقية لمعهد فؤاد الأول للموسيقا العربية منذ منتصف الثلاثينات من القرن العشرين ، وقام بالتدريس في المعهد المذكور.

مؤتمر الموسيقى العربية يحقق له النجومية .. و الاستبعاد!
شارك الشوا في تحضير مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932 ، كما شارك بفاعلية في أعمال  لجنة المقامات والإيقاعات التي بدأت نشاطها منذ عام 1929 ، وأسهمت بشكل كبير في توثيق المقامات والإيقاعات ، وإيضاح مسارها اللحني ، كما أسهمت في تطوير النقاشات العلمية في الموسيقى العربية.
تسببت نجوميته ، التي تجاوزت نجومية المطربين ، وخاصة عندما خُصصت له فقرة خاصة للعزف أمام الملك فؤاد الأول ، اختُتم بها القسم الغنائي والموسيقي في حفل ختام مؤتمر الموسيقى العربية! وكذلك توجه كبار المغنين والملحنين منذ منتصف الثلاثينات إلى الاقتراب من نماذج موسيقى الغرب ، وخاصة في أعمال محمد عبد الوهاب ، وأم كلثوم وملحنيها محمد القصبجي ورياض السنباطي ، وكذلك فريد الأطرش ، مع ما يتطلبه هذا من أساليب في الأداء الموسيقي مختلف عن مدرسة الشوا ، في خفوت نجمه ، إذ لم يعد يطلب للمشاركة في التسجيلات الجديدة.

نقلة نوعية
بمواجهة هذا الواقع ، توجه الشوا إلى مسارين جديدين ، إضافة إلى الاستمرار في تعليم العزف على الكمان : أولاً : تسجيل التراث الموسيقي على أسطوانات لصالح شركة غرامافون مع فرقته الموسيقية ، و ثانياً : القيام بجولات موسيقية في العالم العربي وأوربا و الولايات المتحدة ، مستفيداً من علاقات الصداقة التي أقامها مع كبار الباحثين الموسيقيين الأجانب المشاركين في مؤتمر الموسيقى العربية الأول ، إذ أسهمت تلك العلاقات في دعوته للعزف في مختلف دول العالم.

في المسار الأول ، عمل على تسجيل التراث الموسيقي الآلي ، من بشارف وسماعيات ، إضافة إلى التقاسيم على مختلف المقامات الموسيقية المعروفة والنادرة ، وأعتقد أن ذلك كان لغاية تعليمية أيضاً ، بالتوافق مع إصدار كتابه عن النظريات الموسيقية ، الذي حفل بالمقامات والإيقاعات المستعملة . أسهمت هذه التسجيلات أيضاً في انتشار سمعته كباحث وعارف بأمور الموسيقى و المقامات والإيقاعات.

سجل الشوا مئات الاسطوانات ، وضمنَّها تقاسيم منفردة على آلة الكمان في مختلف المقامات الموسيقية العربية ، وكان من أقدم ما سجل على كمانه المنفرد، أسطوانة ” السماعي الثقيل العربي “، التي نشرها في أوائل القرن العشرين، فشجعت المؤلفين الموسيقيين العرب على التأليف في قالب السماعي الثقيل، مما جعله أشهر قالب للتأليف الموسيقي العربي التقليدي.
سعى في تسجيلاته إلى محاكاة الطبيعة كما جاء في أسطوانات : أعرابي في الصحراء ، طلوع الفجر ، العاصفة ، و إلى التعبير عن العواطف الإنسانية ومنها أسطوانة : تنويم الولد ، وكأنما الطفل يحكي وأمه تغني له ، و إلى مقاربة الأجواء الدينية عندما سجل الأذان ، و الأجواء العاطفية عندما سجل أسطوانات : تأوهات القلب ، وداع الحبيب .. ، إضافة إلى تسجيل الرقصات ، مثل كليوبترا والهوانم وغيرها ، و تسجيل مؤلفات البولكا والمارش ، والتقاسيم على مقامات غريبة مع الابتداء بعرض السلم الموسيقي للمقام .. ومن ذلك أسطوانة تقاسيم على  مقام بسنديدة .. لقد كان فعلاً الأستاذ .. إذ اعتمد أسلوباً تعبيرياً في العزف على الكمان يحاكي أسلوب الغناء ، فكانت آلة الكمان بين يديه وكأنها تنطق!!


و إلى ذلك ذهب أمير الشعراء شوقي، حين قال فيه :
يا واحدَ الفنّ فى أشجى معازفه هذا أوان الثناء العدلِ قد آنا
تلك اللعيبةُ منْ عود ومن وترٍ لولا بنانُكَ لم تجعل لها شانا
قد آنست رحمةً فى الصدر فاتكأت بجانب الأذن تستوحيكَ شيطانا
كأنها عش طيرٍ هاجَ آهله من كل ناحية ينسابُ أشجانا
ضممتها وتواصت راحتاكَ بها ضمّ الوليدةِ إشفاقاً وإحساناً

الاقتراب من عالم الغناء موسيقياً
كان سامي الشوا بارعا في حفظ الأدوار ، ولذا فقد حاول الاقتراب من عالم الغناء ، من خلال تسجيله أغنياتٍ عزفاً على الكمان ، مبتدئاً بتسجيل دوركادني الهوى ” من ألحان محمد عثمان ، مستفيداً من تجربة سابقة لقسطندي منسي على البيانو ، بل إنه عزف لأم كلثوم : غني لي شوي شوي ، في حفلٍ أقيم لتكريمها !


في المسار الثاني ، زار سامي الشوا مختلف البدان العربية ، وسجل أسطوانة من تراث كل بلد زاره ، تحية لذلك البلد ،  ومن ذلك مثلاً تسجيله لحن يلبقلك شك الألماس في تحية للشام .
قام سامي الشوا أيضاً بعدة جولات في الدول الاوروبية ، ومنها ألمانيا وفرنسا ، كما زار الولايات المتحدة عدة مرات ، وكان محل اعجاب وتقدير الرؤساء والملوك ، و نال العديد من الأوسمة.
كان يسجل في زياراته أسطوانات لصالح المعاهد الموسيقية في البلدان التي كان يزورها ، لتبقى وثائق لديها عن الموسيقى العربية ، فأسهم بذلك في نشر التراث الموسيقي العربي عبر العالم.

توفي سامي الشوا في القاهرة في 23 ديسمبر 1965 ، تاركاً تراثاً مهماً ، يعكس المكانة العالية التي وصل إليها في عالم الموسيقى ، ونجومية وازنت نجومية الكبار في عالم الغناء!

د. سعد الله آغا القلعة

حلقات تلفزيونية تعرضت لسامي الشوا

    مقالات تناولت أعمال سامي الشوا

     

     

    Bookmark the permalink.

    Comments are closed.