الارتجال في الموسيقى العربية : تاريخه و آلياته ..ألقه وغيابه!

شعار كتاب الأغاني الثاني

الدكتور سعـد الله آغا القلعة مرتجلاً في دار أوبرا القاهرة

مقدمة

جسَّد الارتجال ، على طول مسيرة الفن ، لحظة الإبداع الإنساني الأكثر إشراقاً وكثافة وعمقاً ، وفي وقت تخلى فيه الغرب عن الارتجال منذ قرون، إلا فيما ندر ، استمر الشرق في الحفاظ عليه مدة أطول ، إلا أن الظروف التي أصبحت تحكم مسيرة الإبداع في الشرق ، والتي تقترب مع الوقت من مثيلاتها في الغرب ، بدا أنها ستؤدي إلى تخلي الشرق بدوره عن الارتجال ، إذ ابتعد المغنون ، مثلما  الشعراء ، عنه ، رغم تمسك قلة من  الموسيقيين به، لأنه مجالهم الوحيد لإبراز تميّز قدراتهم ومعارفهم ، فيما يؤكد الواقع العام أن كنز الفنون العربية : الارتجال ، في طريقه إلى الضياع.

الارتجال ومحرضاته .. تاريخياً

 الارتجال إبداعٌ وليدٌ في اللحظة نفسها ، يعتمد على استثارة العاطفة والإحساس ، و على الشعور بضرورة التعبير عن اللحظة ، ويستند أساساً  إلى عوامل محرضة تثير العاطفة ، والرغبة في التعبير عنها.  وقد تتمثل العوامل المحرضة لارتجال الشعر في لقاء الشعراء مثلاً في سوق عكاظ ، عندما يصفون بيئتهم ويعبرون عن أحوالهم ، أو في لقاء جرير والفرزدق في مساجلاتهما التي عرفت بالنقائض ، يرتجل الأول فيفخر بنفسه ويهجو خصمه بقصيدة ذات وزن وقافية ، فيرد عليه الثاني بالفخر والهجاء مرتجلاً قصيدة تماثل الأولى في الوزن والقافية ، أو في لقاء أبي القاسم ولي عهد إشبيلية وصديقه ابن عمار ، يطرح الأول شطرة بيت يرتجلها ، وينتظر من صديقه إكمال البيت على قافية الشطرة الأولى ووزنها.

وقد يكون المكان محرضاً آخر للارتجال ، كما حدث مع أبي القاسم نفسه وصديقه ابن عمار ، في إحدى نزهاتهم ، عندما مرّا قرب نهر  لعبت الريح بمائه ، فقال أبو القاسم وقد ذكّره منظر تموجات الماء بالزرد الذي تلبسه الفرسان قبل المعركة فقال: ” نسج الريح على الماء زرد ” ، ثم وجه كلامه لابن عمار قائلاً : أجز ،  وأبطأ ابن عمار في الرد  وسادت فترة من الصمت ،  وإذ بصوت نسائي يكمل: ” أي درعٍ لقتال لو  جمد ” ، وكانت تلك الحادثة سبباً في زواج الأمير أبي القاسم من الفتاة التي  أكملت ذلك البيت بذلك الإيجاز.

وقد يريد الشاعر أن يرتجل فلا يجد اللقاء ولا المكان ، وهذا ما كان يحدث  لأبي السماع البصير المصري ، الذي كان حسن الصوت ، يتغنى بالشعر  مرتجلاً حسب أسلوب غريب: كان يختار قصيدة معروفة ذات بحر وقافية  ، فيشدو بها في صوت حنون ، أمام من جلسوا يستمعون إليه ، مؤكداً على  الإيقاع والقافية ، إلى أن يحس بأنه تمثلهما ، فيروح في ارتجالٍ آنيٍ عبر أبيات جديدة ، بناها على وزن الأبيات الأولى وقافيتها ، وكانت هي التي حرضت قدرته على الارتجال.

 تحريض الارتجال في الغناء لم يكن بعيداً عن هذه الأساليب.. فالحدث المفاجىء  أو اللقاء أو المكان .. كلها محرضات لارتجال الغناء .. لنأخذ  النوح مثلاً ، وهو شكل من الغناء المرتجل ، يعبر عن الحزن العميق ، لدى  فقد عزيز أو صديق. النائح :  ابن سريج أو الغريض في العصر الأموي مثلاً ، كان يعيش الحدث ، يستلهم منه ، ويزيد في التأثير ، بكاء أهل  الفقيد والمكان الغامض، والألوان السوداء القاتمة ، فينطلق في نوح لم يسبق له أن عاشه.

 وكان لقاء المغنين كافياً أيضاً لتحريض الارتجال، فها هو ابن عبد  ربه الأندلسي يصف في كتابه ” العقد الفريد” مجلس غناء  ، اجتمع فيه المشدود و زنين و دبيس ، كان الأول يبتدئ مرتجلاً لشعر ما  على قافية ووزن فيتغنى به ، ثم يليه الثاني متَّبِعاً ذات القافية و الوزن ، فالثالث ، حسب الأسلوب ذاته، ثم تعود الدورة الى الأول.

 الارتجال في الغناء والموسيقى  وجدلية علاقته مع الصنعة

مع الوقت ، تحول الارتجال في الشعر ، إلى اعتماد ماسمي البديهة فالروية ، نتيجةً لغياب  المشافهة في تناقل الشعر، ودخول الشعراء عالم الكتابة والصنعة  ، مبتعدين عن حفظ آلاف الأبيات واختزانها ، كمرحلة أولى لابد  منها في بناء الشاعر .

  لكن الغناء العربي استطاع المحافظة على تقاليده في الارتجال حتى الربع الأول  من القرن العشرين ، رغم أن الارتجال في الغناء عملية معقدة  ، لا يقدر عليها إلا من اكتسب خبرة موسيقية طويلة ، واختزن المقامات  الموسيقية ، ومسالكها النغمية ، وخلاياها اللحنية ، وأساليب تجسيد شخصياتها المختلفة،  إذ لا يستطيع مطرب أن يرتجل ، إلا معتمداً على قاعدة  عريضة من الدراسة و الخبرة ،  ومخزون كبير من الرصيد الموسيقي و التجربة ، ما جعل العلاقة  بين الارتجال و الصنعة جدلية بامتياز ، فلا ارتجال دون اختزان  القواعد الموسيقية الرئيسة، التي تستثار كلها في لحظات الارتجال  ، وبشكل لا شعوري ، لتكون حاملاً ثرياً للتعبير عن عواطف وأحاسيس آنية ، ولا اكتمال للصنعة والتفوق بدون قدرة مميزة على استكشاف مسالك لحنية جديدة عبر الارتجال.

فلننظر ، في مجال تقريب الأمر ، في اختيار الشاعر ، عندما يرتجل ، للوزن الشعري الملائم للحالة النفسية التي ستعبر عنها القصيدة المرتجلة ، وكذلك القافية المعبرة بموسيقيتها عن المعنى والمضمون، و مع أن اختياراته قد تكون بحد ذاتها ارتجالاً ، فالسؤال الذي يطرح : ألا يعتمد الشاعر في ذلك ، على المخزون الهائل من الأسس  والقواعد التي تمثَّلها وتفاعل معها فيما سبق ؟

 لنتوقف مثلاً عند قول أبي فراس الحمداني لابنته وهو على فراش الموت :

أبنيتي لا تجزعي                كلُّ الأنام إلى ذهابْ

ألم تعبر الباء الساكنة التي توقف صوته عندها ، عند انتهاء البيت ، في صمت  كئيب ، عن انقطاع الحياة..؟ هل درسها دراسة وهو على فراش الموت أم اختارها لاشعورياً بناتج حصيلته الهائلة من القواعد والأسس من جهة ، وحسه المبدع  من جهة أخرى؟

المطرب المبدع ، في السياق ذاته ، يختار أولاً القصيدة الملائمة للحالة النفسية التي سيطرت عليه  ، أو للمضمون الذي سيقاربه ، حسب المحرضات العامة إن وجدت ، وقد  يكون اختياره للقصيدة التي سيغنيها ارتجالاً بحد ذاته ، ثم يختار   المقام الموسيقي ، و هذا الاختيار قد يحكمه جوُّ المقام ، و ملاءمته لجوِّ القصيدة، والعواطف التي تعبر عنها ، مستنداً في ذلك إلى خبرته في الأجواء التي يعبر عنها مقام موسيقي معين ، و قد يكون اختيار المقام  ارتجالاً بحد ذاته، بالأسلوب ذاته الذي اختار أبو فراس عبره  الباء الساكنة ، كروي لقصيدة نظمها وهو على فراش الموت.

تقوم الموسيقا بمهمة تحريض المطرب على الارتجال ، إضافة إلى العناصر الأخرى  المؤثرة ، كاللقاء مع الجمهور ، ومكان الأداء ، ويكون ذلك  عادة عبر تقاسيم ارتجالية على آلة موسيقية ، يقوم بها العازف الرئيسي في  الفرقة المرافقة، فيهيئ الجو العام لدخول عالم المقام الموسيقي الذي  تم اختياره ، والموسيقي هنا ، وهو البادئ بالارتجال ، بحاجة أيضاً إلى التحريض ، الذي يتجسد عادة عبر مقطوعة موسيقية على المقام  نفسه ، تعزفها الفرقة الموسيقية ، إن وجدت ،أو حسب أسلوب أبي السماع البصير  ، حيث يلجأ في بداية ارتجاله ،إلى جمل موسيقية مطروقة في التقاسيم  ، حفظها عبر سماعه الطويل لغيره من العازفين ، إلى أن يدخل في  جو المقام الموسيقي، وتبدأ لحظة الإبداع الآني في ارتجاله.

بناء الارتجال

تميزت الموسيقى العربية باعتمادها ، في عدد كبير من أنماطها الغنائية على الارتجال،  فالموال ، والقصيدة المرسلة ، والتغني بلفظة يا ليل ، والمقام العراقي ، والعتابا ، والصوت الخليجي ، مثلاً.. كلها أنماط تعتمد على هذا الأسلوب المبدع  في  التعبير الآني عن قدرة صوتية ، أو عن تمكنٍ في المقامات الموسيقية ، وأساليب  إبراز شخصيتها ، أو عن عاطفة جياشة ، أو عن أجواء موسيقية  مبتكرة.  بل إن الارتجال كان يدخل في صلب عملية التلحين وتشكيل اللحن  بصورة نهائية ، إذ كان الملحن يضع اللحن الأساسي ، ويترك للمؤدين ، في ظل الافتقاد إلى التدوين ، واعتماد التناقل الشفاهي، حرية التصرف في اللحن في كل مرة يعيدون فيها تقديمه ، ما جعل المؤدين يتنافسون في ابتكارات جديدة ، سرعان ما تندمج في نسيج اللحن الأصلي ، وتصبح جزءاً أصيلاً فيه . وفي السياق ذاته ، كانت مكونات السهرة الغنائية ، تفسح في المجال أمام المطربين ، لاستعراض قدراتهم الصوتية ومعرفتهم العميقة في خصائص الموسيقى العربية وقواعدها ، من خلال غناء المواويل والقصائد المرسلة.

ولم يكن أداء المعزوفات الموسيقية بعيداً عن هذا الأسلوب ، ففي الأسلوب القديم للعزف في التخت الشرقي ، كنا نجد أن العازفين يعتبرون اللحن هيكلاً أساسياً ، لهم حرية التصرف في تنفيذه ارتجالاً ، بعد حفظ هيكله الأساسي سماعاً ، حيث يستقل كل عازف بتصرفات وتلوينات آنية ، خلال النبضات الضعيفة لإيقاع اللحن ، على أن يتحد الجميع على اللحن الأصلي في النبضات القوية للإيقاع ، ما كان ينتج في كل مرة صورة فنية جديدة للّحن لا تتكرر.

وبالمقابل ، وأمام الأنماط الغنائية المعتمدة على الارتجال ، نجد أنماطاً و قوالب موسيقية تعتمد عليه أيضاً ، ومنها التحميل ، عندما تعزف الفرقة الموسيقية لحناً مكرراً ، ثم تنفرد آلة موسيقية كل مرة ، في تقاسيم موزونة مع الإيقاع ، على المقام الأصلي للتحميل ، في ما يشبه الحوار الارتجالي بين الآلات الموسيقية.

لابد من التأكيد أيضاً ، أن عملية الارتجال ليست عملية عشوائية مرتجلة بحد ذاتها ، خاصة في الارتجالات الفردية للمطرب أو العازف ، إذ تعارف المطربون والموسيقيون منذ زمن طويل ، على بناء محدد ومتشابه للتقاسيم والارتجالات الغنائية ، و على مسار أساسه دوائر لحنية تتقلص  وتتسع وتتواصل حسب الحال ، سنصفه ، بالنسبة للتقاسيم ، في التالي:

تبدأ التقاسيم عادة ، بنقرات قوية صدامية تبرز ثقة العازف بنفسه ، وتولد الرنين الموسيقي المطلوب الذي سيحيط به ، و يدخله فوراً في أجواء مثيرة للخيال والإبداع ، كما تشدُّ إليه انتباه الجمهور ، فالجمهور يجذبه العازف الواثق بقدراته من البداية. تكون نلك النقرات في منطقة الأصوات المنخفضة أولاً ، في دوائر لحنية أولى قصيرة المدة ، مع قفلات تبرز المقام الأساسي ، و يراعى فيها في كل مرة الابتكار ، وعدم تكرار القفلة ذاتها ، إذ أن ذلك سيعد ضعفاً عند العازف في حال التكرار . وكثيراً ما تكون هذه الدوائر الأولى متشابهة ومتكررة عند العازفين ، يعتمدون فيها على مخزونهم اللحني ، وعلى رنين الآلة الموسقية ، لإدخالهم في حالة انتقالية تمهيدية ، بحثاً عن أجواء جديدة . ثم يأتي دور الدوائر اللحنية المرتجلة في منطقة الأصوات المتوسطة ، التي تتسع وتصبح مدتها أطول ، وتخف فيها درجة توظيف الجمل اللحنية المتداولة ، لصالح جملٍ لحنية  بنت لحظتها ، مع إبراز أجناس المقام الأساسي الموسيقية ، وتفرعاتها ،  حتى الوصول إلى منطقة الأصوات الحادة ، حيث تصبح الدوائر واسعة المساحة ، و تفسح في المجال للعازف ( أو المغني ) لإبراز خياله الموسيقي ، والدخول فيما يسمى ، عند أهل الموسيقى ، لحظات التجلّي ، التي تجعله يدخل في جملٍ لحنية جديدة غير مسبوقة ، تستثير طرب المستمعين ، خاصة عندما يعتمد مساراتٍ للمقامات ، فيها الكثير من الابتكار ، الذي أساسه ، ألا يكون المسلك ناشزاً عن أذن المتلقي ، خاصة عند الانتقال من مقام إلى آخر. وقد يتنافس العازفون في إيجاد أقصر و أسلس السبل للانتقال بين مقامات ، بينها تباعد لحني كبير ، سواء على مستوى الدرجات الصوتية ، أو درجة الاستقرار ، معتمدين في ذلك على توليد دوائر لحنية تنتج أجناساً موسيقية مشتركة ، أو درجات استقرار مشتركة ، تسمح بالتنقل بين المقامات في يسر وسلاسة ، قبل أن يتم التمهيد بحنكة وبراعة للعودة وإنهاء التقاسيم،  مع قفلة حيوية ومبتكرة.

تجدر الإشارة إلى نوع نادر من الارتجالات التأملية الحرة ، التي اقتصرت على عالم الموسيقى دون الغناء ، و التي لا تتقيد بهذا الأسلوب ، إذ أنها تشهد من البداية جملاً لحنية تتشابه كثيراً مع البوح العاطفي ، حيث تفيض المشاعر تدريجياً ، لترسم عالماً من الخيال ، يدخل فيه العازف ، ويجول في أساليب تعبيرية ، تتصادم فيها الجمل اللحنية ولا تتواصل ، في أسلوب درامي ، يخاطب المشاعر ، ولا يبحث عن استثارة الطرب.

أهم التحديات التي يطرحها الارتجال

يحتاج الارتجال إذاً إلى تحريض، لأنه إبداع آني ، وقد تقوم الموسيقى ، فتشيع  في الشاعر أجواء تدفعه إلى ارتجال الشعر ، أو تثير في المطرب  الرغبة في البحث عن مسالك نغمية جديدة ، وكذلك قد تؤثر في الرسام المعاصر، الذي يبدأ لوحته التجريدية ، بتوزيع ألوانه بشكل ارتجالي ، محرضاً  انفعالاته عبر سماع الموسيقى التي يحبها ، أو التي تلائم الحالة النفسية  التي يعيشها،ثم يضيف إلى تلك الألوان ويضيف، قبل أن يتكشف  له وضع لوني ، فيتابع فيه فيبرزه، وتكون اللوحة قد انتهت.

 و بقدر ما كان لقاء الجمهور دائماً العامل الأهم في تحريض الارتجال ، بقدر ما كان يحوِّل الارتجال إلى مغامرة حقيقية ، من خلال كونه ، في واقع الأمر ، حواراً ثنائي الاتجاه بين المرتجل والمتلقي . يطرح هذا اللقاء تحديات كثيرة على الفنان ، فالجمهور العارف بخبايا الألحان وخفاياها ، يجسد تحدياً للفنان ( الموسيقي أو المغني ) في إثبات النفس أمامه ، والجمهور غير المتابع ، يجسد تحدياً مماثلاً في القدرة على التأثير فيه ، وفي حال أحس الفنان بأن هذا الحوار بينه وبين الجمهور لم يُبنَ ، فقد يتحول هذا إلى شعور يتنامى عنده بسرعة ، أن جميع المقامات الموسيقية تستعصي  عليه ، وأن جميع المسالك النغمية مقفلة أمام خياله ، وأن هذه الحال قد لا تتغير ، مهما حاول ، للخروج منها ، أن يستعين بما تحفظه  ذاكرته من قواعد الارتجال التي توضحت ملامحها عبر مئات السنين ، وتناقلتها الأجيال  السابقة ،  أما إن تحقق ذلك الحوار واتصل ، وهي حالة نادرة تتطلب مشاركة  حقيقية من قبل جمهور يتواصل مع ما يدور أمامه من إبداع حقيقي، فإن المطرب ( أو الموسيقي ) يصبح قادراً على توليد خواطر موسيقية لم يسبق  له أن عاشها ، كما أنه من المستبعد أن يتذكرها بعد انقضاء ذلك اللقاء .

من المهم التأكيد على أن التواصل الحقيقي لا يتطلب بالضرورة ردود فعل حيوية من الجمهور ، فالهدوء أحياناً أساس التواصل ، والصمت قد يكون ” ثقيلاً ” ، وقد يكون ” معبراً ” ، يولد تيارات غير مرئية يحس العازف أو المطرب إن كانت موجودة أو غائبة ، خاصة إن كان ارتجاله تأملياً ، ذو طابع فكري تعبيري ، فإن أحس المرتجل بتلك التيارات تتصل ، وتنشئ الحوار بينه وبين الجمهور ، فإن هذا يعطيه دفعاً ينقله إلى عوالم ليس بإمكانه أن يصل إليها منفرداً.

 بالمقابل ، و في كثير من الأحيان ، وعندما يتعذر التواصل ، في التقاسيم التطريبية مثلاً ، سيضطر العازف ( أو المغني ) لاستحضار مخزونه اللحني  من الجمل اللحنية المطربة ، دفعاً للمغامرة ، وإلا فقد الجمهور ، وتحولت مواجهته إلى مغامرة خاسرة ، تحسب عليه فيما يأتي من الأيام.

وفي الإطار ذاته  ، قد يتحول العزف التأملي  والتعبيري أيضاً ، وهو إبن اللحظة ومشاعرها ، إلى مغامرة ، إن أغلقت مسالك التأمل والارتجال أمام العازف وهو يواجه الجمهور . سيسعى الفنان في البداية إلى تلمس طريقه لتحقيق التواصل مع الجمهور ، فيعطي لنفسه فسحة من التأمل ، وخلال لحظات ، يمكنه أن يحكم على مدى استجابة الجمهور لذلك ، ومدى تشكل تيارات التفاعل بينه وبين الجمهور ، فإن حكم بأن التيارات تشكلت ، فقد يلجأ إلى إعطاء نفسه فترة أطول من التأمل والتعبير  ، والعازف المجيد المقتدر هو الذي يجعلها تتناوب مع لمحات تطريبية جماهيرية متزنة ، مع ختام تطريبي بذروة نشطة قبل الختام ، ولكنه إن حكم بأن مزاج الجمهور غير مهيأ لمتابعة التأمل والتعبير ، فسرعان ما سيجد نفسه مضطراً لاعتماد المخزون التطريبي، خشية الدخول في مغامرة خاسرة، ستحسب دائماً عليه.

وكثيراً ما يحس العازف بأن  مسارات التأمل مغلقة أمامه ، بسبب مزاجه الشخصي في تلك اللحظة ، وأن طريق الإبداع غير سالكة، مع أنه يكون قد أحسن اختيار الزمان والمكان المناسبين ، واختزن كل ما يلزم لكي ينفذ العمل الإبداعي! لابد له أيضاً في هذه الحالة أيضاً من اللجوء إلى المخزون التطريبي ، وإلا تحولت المواجهة إلى مغامرة أخرى خاسرة.

بالنتيجة ، ومع مرور الوقت ، وتحولات ذوق الجمهور ومزاجه ، و تزايد المغامرات الخاسرة ، انصرف العازفون عن مواجهة الجمهور في ارتجالات حقيقية ،  وغاب تراث فني عربي أصيل ، لابد من العمل على استعادته .

يندرج المكان  وعناصره أيضاً ، كما رأينا ،  في السياق ذاته ، كعنصر من عناصر التحريض ، فالارتجال في بيت عربي عريق في قلب دمشق أو حلب القديمة ، يختلف عن الارتجال في استديو التسجيل الصوتي الأصم ، إذ لاشك في أن المكان العابق بالتراث المعماري ، سيجد صداه في رنين أوتار العازف ورعشات صوت المغني ، ما سيساعد المرتجل على الوصول إلى ما لم يكن يحسب أنه قادر على الوصول إليه. بالمقابل لايقدم استوديو التسجيل أو أجواء التصوير التلفزيوني أي عنصر يساعد على الارتجال : إضاءة تبهر البصر ،  ظلمة محيطة ، صوت المخرج مسموع يعطي التعليمات للمصورين ، تأخير بدء التصوير لساعة أو ساعتين لأن الإضاءة غير جاهزة ، تعطل الكاميرا في منتصف التسجيل ،  انتهاء شريط التسجيل قبل أن ينتهي الارتجال إن طال ، وفوق كل هذا : الافتقاد إلى المحرض الأهم : الجمهور.

 الحوار الموسيقي المرتجل ، بين آلتين موسيقيتين .. أو أكثر

يعتبر الحوار الموسيقي المرتجل ، بين آلتين موسيقيتين ،  أو أكثر ، عمليةً ذهنية فريدة ، وتجربة موسيقية ملهمة ، وتحدياً كبيراً ، إذ يتطلب حضوراً ذهنياً عالياً ، يستلهم المخزون الفكري الموسيقي المتراكم في الوجدان ، على مر السنين ، وانتباهاً إلى الموجات الموسيقية التي يبثها الشريك في الحوار ، حاملةً الصياغات اللحنية للأفكار ، و تمعُّناً في مقاماتها ، وأجوائها ، وانتقالاتها عبر الدرجات الصوتية ، و كذلك إلى الطاقة التي تبثّها ، والدفق العاطفي الذي تنشره ، لكي يكون الرد في سياقها جاهزاً ، بأفكار موسيقية تتفاعل معها ، أو تفتح محاور جديدة ، تطرح أفكاراً بديلة ، عندما يتولد الإحساس بأن الأفكار الأولى استنزفت مدلولاتها ..

أسباب انحسار الارتجال

إضافة إلى صعوبات الارتجال الموصوفة أعلاه ، فقد أضافت التكنولوجيا ، ووسائل نشر الموسيقى الأخرى ، و أشكال تقديمها للجمهور ، عناصر إضافية أسهمت في انحسار الارتجال.

كانت الأسطوانة ، وهي أول شكل من أشكال التصنيع الموسيقي التي عرفتها الموسيقى العربية ، قد حفزت الإبداع في عالم الموسيقى  ، ونشره ، ولكنها بالمقابل تدخلت في صيغه ، بحكم قيودها التصنيعية ، فضغطت مدة العمل الموسيقي ، لتحقيق المدة التي يمكن تصنيعها ،  ما استتبع مع الوقت إلغاء الارتجال الذي لايضبطه الزمن . و رغم أنه في بدايات تسجيل الأسطوانات ، كان يتم استحضار عدة أفراد إلى استوديو التسجيل لتشجيع المطرب والعازف ، إلا أن الارتجال غاب ، كما جمهوره المتواضع ، عن تسجيل الأسطوانات ، مع مرور الزمن.

أسهمت الأسطوانة أيضاً في تثبيت اللحن في الأذهان كما سجله المطرب ، ليصبح الأساس الذي لا يخالفه أحد ، مما ساعد على  انتشار القصائد والمواويل المرتجلة أصلاً في استوديو تسجيل الأسطوانات  ، وحفظها ، لتصبح  ألحاناً سائرة ، وأسهم التكرار في ظهور المواويل  الملحنة مسبقاً ، لتسير ويحفظها الفنانون والجمهور ، كما  في مواويل الأستاذ محمد عبد الوهاب ، التي غناها أولاً في حفلاته ، ثم  ثبتها عبر نشرها مستقلة ضمن اسطواناته  ،وأخيراً  في قصائد الأستاذ صباح فخري ومواويله ، بل وحتى في ارتجالاته ضمن الأغاني ، التي أبدعها أولاً في حفلاته ، ثم تكامل شكلها التلحيني عبر تكرارها  فيها، مما أدى إلى حفظها ،عبر التساجيل المطروحة للحفلات ،من قبل المطربين، ، فكرروها ، وإلى حفظها من قبل الجمهور ، فأصبح يؤكد  دائماً على طلبها.

بالمقابل لابد من الاعتراف بأن التسجيل أصبح له دور إيجابي ، في تسجيل اللحظات النادرة ، عندما يتمكن الموسيقي أو المطرب من الدخول في تجليات غير مسبوقة ، فتسجل ويعيد المرتجل وغيره اختزانها في مخزونهم الموسيقي ، الذي سيكون جاهزاً في أي لقاء جديد مع الجمهور، إن توفر ذلك اللقاء المباشر مع الجمهور ، الذي تقل فرصه يومياً.

على التوازي ، أسهم المسرح الغنائي في انحسار الارتجال ، فالغناء الجماعي فيه تطلب تثبيت الألحان مااستدعى بالضرورة  حذف الارتجال،  وتبسيط تضاريس اللحن التطريبية. ولما كان الغناء الفردي المعتمد على استعراضات صوتية طويلة  ، يتعارض مع الفرجة المسرحية، ويجعل العناصر الدرامية في المسرحية غير مفهومة ، في وقت تتطلب فيه سرعة تصارع الأحداث في الحبكة الدرامية ، مقاطع صوتية سريعة ، فقد تم تقييد الغناء الفردي إلى أقصى الحدود الممكنة .

ولما كان  المسرح الغنائي ، من أوائل محرضات التدوين الموسيقي ، بسبب الحاجة إلى ضبط العمل الجماعي بين الفرقة الموسيقية والمجموعات الصوتية ، فقد أسهم هذا مجدداً في تقليص مساحات الارتجال ، سواء في المسرح الغنائي أولاً ، ثم في الأعمال الإذاعية لاحقاً ، التي بدأت منذ الخمسينات تعتمد على تقنية التسجيل المسبق المبني على التدوين.

ولم تخالف السينما الغنائية ، ثم التلفزيون ، هذه القاعدة ، فقد جرت العادة أن يتم تسجيل الأغنية صوتاً في استوديو التسجيل ، ثم يأتي دور التصوير ، ما كان يتطلب من المغني أن يحرك فمه وكأنه يغني ، فيما يدور التسجيل الصوتي ، وكثيراً ما كانت أخطاء الحركة ، البادية للعيان بوضوح ، تحرج المغني والمخرج ، ما أدى مع الوقت ، إلى استبعاد الارتجال عن السينما الغنائية ، ولاحقاً عن التلفزيون في بداياته ، قبل أن يتمكن من نقل الحفلات مباشرة.

وأتت آلة التسجيل ، وانتشرت بين الناس ، لتؤكد ما كانت قد بدأته الأسطوانة ، فإضافة إلى التأثير السلبي على قدرة المطربين على الارتجال ، فقد تحولت المسجلة ، تلك الأداة السحرية ، إلى معلم  افتراضي، يجد فيها المطرب الناشىء، وسيلة رخيصة الثمن ، تساعده على حفظ الأغاني السائرة ، القديمة منها والجديدة ، وليس عليه إلا أن يحفظ ما ورد  في التسجيل ، موالاً  كان أم أغنية ، حرفاً بحرف ، ليقدمه للناس، كما  حفظه ، دون أن يكون قد فهم أو حفظ ، في تعجله للوصول إلى النجومية السهلة  ، قواعد وأسس اللغة الموسيقية العربية، التي لا يمكنه بدونها  أن  يصبح مطرباً حقيقياً من جهة ، ودون أن يعرض نفسه لمغامرة  الارتجال الموصوفة سابقاً ونتائجها الأكيدة في حالته ، من جهة أخرى  .

أسهم هذا الواقع ، في تعود الجمهور على سماع الألحان والارتجالات  المكرورة ، و افتقاد التفاعل مع أي ارتجالات جديدة.

وتفاقم الوضع عندما برزت ظاهرة فرق  الغناء الجماعي ، كحل بديل لتراجع الأصوات الفردية القادرة ، التي عُرفت حتى النصف الأول من القرن العشرين ، خاصة أنها ، تلك الفرق ، اعتمدت على معايير الأداء الأوركسترالي والكورالي ، و على الفرقة الموسيقية الكبيرة ، في حفلاتها ، و على وجود قائد للفرقة ، تتركز  مهمته في توحيد الأداء ، ما تطلب ضبط الأداء الموسيقي والغنائي الجماعيين ، وتسطيح  التضاريس اللحنية ، في صورة مناقضة كلياً لأسلوب الأداء في التخت الشرقي ، الموصوف أعلاه ، الذي كان يعتمد على حرية العازفين في الأداء الموسيقي ، والمطرب في تجلياته الصوتية.

يمكن القول إذاً أن دخول تقنيات التسجيل عالم الموسيقى العربية ، أثَّر  بشكل أساسي في توجيه ذوق الجمهور إلى طلب الألحان المعروفة ، بما  فيها الأنماط التي كانت ترتجل،  فأصبحت تطلب بلحن متكرر . ولكنها، أي   تقنيات التسجيل ،لم تكتف بهذا ، بل ساعدت على تقليص فرص اللقاء المباشر بين المبدع والمتلقي ، ذلك اللقاء الذي طالما شكل محرضاً مهماً للارتجال.

 كلمة أخيرة..

  تراجع الارتجال في عالم الغناء العربي تراجعاً كاملاً ، و أصبح في  أغلب الأحيان تكراراً مسطحاً لما أبدعه كبار المطربين التقليديين ، وقد  اشترك غالبية نجوم اليوم وجمهورهم في الوصول إلى هذه الحالة المؤسفة ، التي  سوف تؤدي في حال استمرارها دون علاج ، إلى ضياع كنز من أثمن كنوز  الموسيقى العربية ، لم يعد يدافع عنه إلا قلة من المطربين التقليديين ، و قرّاء القرآن الكريم ، فيما يسعى  موسيقيون كبار ، على ندرتهم ، للحفاظ على الارتجال ، إذ وجدوا فيه نافذة للتعبير  عن مشاعرهم وأفكارهم ، عبر أسلوب جديد أمكن تسميته  الارتجال التعبيري التأملي ، وهو الأسلوب الارتجالي الحقيقي الوحيد الباقي حالياً في ساحة الموسيقى العربية ، ومن المتوقع ، في غياب اهتمام المؤسسات المعنية بالموسيقى ، أن يتابع الارتجال مسيرة انحساره ، إلا إن أمكن إعادة توفير الظروف التي تكفل للأجيال الجديدة ، القدرة  على امتلاك الأسس اللازمة ، للإقدام على مغامرة الارتجال الحقيقي ، مع ما يتطلبه ذلك من معرفة بالقواعد و سعة في الخيال، وهذا ما نأمله.

 د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading