آلة القانون: شغلت في عصر النهضة دور الآلة القائدة للفرقة الموسيقية ليتراجع هذا الدور لصالح آلة وافدة ثم قائد الأوركسترا!

شعار كتاب الأغاني الثاني

آلة القانون

تصنف آلة القانون، التي تعود أول إشارة إليها في التاريخ القديم ، إلى منطقة ما بين النهرين ، قبل حوالي 3000 عام ، ضمن مجموعة الآلات الوترية، التي تمتد الأوتار فيها موازية لعلبة الطنين الصوتي بطولها الكامل، ويأتي الاسم ليعبر عن دورها في الفرقة الموسيقية العربية، من حيث كونها الأساس الذي تسير الآلات الموسيقية الأخرى على هديه، فقد كان ضبط الآلات الأخرى يتم بحيث تتوافق معها، كما كان السائد أن يقوم عازف القانون بدور قائد الفرقة الموسيقية، وأن تكون التقاسيم الأساسية لعازف القانون في الفرقة الموسيقية العربية ، خاصة في التمهيد للمطرب في أدائه الليالي ( التغني بياليل ) و الارتجالات في مجال القصائد ، قبل أن يتغير هذا الواقع تدريجياً مع استبعاد عازف القانون عن القيام بدور قائد الفرقة الموسيقية.
كان الأسناذ محمد عبده صالح قائد فرقة أم كلثوم من أهم عازفي القانون في عصره .


آلة القانونتتشكل آلة القانون من صندوق خشبي على شكل شبه منحرف، تمتد الأوتار على طولها فيه، في 26 مجموعة، متدرجة الطول والغلظ، بحيث تتشكل كل مجموعة من ثلاثة أوتار. يضع العازف القانون على حامل خاص عادة، ويقوم بالعزف مستخدماً محبسين خاصين مثبتين في سبابتيه اليمنى واليسرى، ترتبط بهما ريشتان، ينقر بهما العازف على الأوتار لإصدار الأصوات الموسيقية، فتؤدي اليد اليمنى اللحن كاملاً، تساعدها اليد اليسرى، التي تؤدي اللحن ذاته مبسطاً، وعلى طبقة موسيقية أخفض، حسب موقع اليد اليسرى، وقد تشترك اليدان في نقر سريع متناوب لإصدار الأصوات المتصلة، أو المتتالية. ويعتبر ضبط الأوتار موسيقياً، من أصعب العمليات التي يتطلب أن يؤديها العازف كلما اتجه للعزف، خاصة أن الأوتار تكون عادة حساسة لتغيرات الطقس والرطوبة.


من المفيد أن أشير إلى أن آلة البيانو تتشابه في تركيبها مع آلة القانون:  أوتار متناقصة الطول، نظمت في مجموعات، كل مجموعة تتضمن ثلاثة أوتار، وتؤدي صوتاً موسيقياً محدداً، وهي مرتبطة بمفاتيح لضبطها، ما يؤكد الجذور الشرقية لآلة البيانو!
هناك تمايز أساسي بين الآلتين :

  1. في ضبط الأوتار:  يقوم عازف القانون بنفسه بضبط دوزان الآلة،  فيما يقوم بضبط البيانو مختص بذلك،  ولاعلاقة لعازف البيانو بهذه المهمة الشاقة.
  2. في حماية الأوتار وتأثرها بالطقس : الأوتار في البيانو معدنية، محمية ضمن صندوقها، وهي بالتالي أقل عرضة للتغير بسبب الطقس، فيما أغلب أوتار القانون ( عدا بعض الأوتار في منطقة الأصوات المنخفضة ) من النايلون، وهي معرضة بالتالي لتقلبات الطقس في المسارح المكشوفة، ما يؤثر على دقة ضبطها، ويتطلب من العازف أن يعيد الضبط، وأحياناً أثناء العزف!

متى تمكنت آلة القانون من التنقل بين المقامات الموسيقية ومتابعة المطرب في تجلياته؟ ومن كان العلامة الذي نفذ الحل في سورية؟

في بدايات القرن، كانت آلة القانون تضبط، بحيث تؤدي كل مجموعة من ثلاثة أوتار صوتاً واحداً، لزيادة حجم الصوت المنتشر ، يبقى ثابتاً طيلة مدة العزف ، مما يجعل الإمكانية محددة، بأداء الألحان الموضوعة حسب مقام موسيقي ثابت على طول اللحن، دون أية إمكانية للخروج إلى مقام آخر، لأن ذلك يتطلب إمكانية إصدار أصوات موسيقية، تختلف عما ضُبطت عليه الأوتار مسبقاً. / الصورة أعلى اليسار .

كان الحل الأول بان تُضاف عُربة متحركة أو أكثر، توضع تحت كل مجموعة من ، تسمح للعازف، عبر تحريكها أثناء العزف، بتغيير طول مجموعة الأوتار، مايؤدي إلى تغيير الصوت الموسيقي الناتج بما يتوافق مع تغير مقام اللحن. لم يدم هذا الحل طويلاً لأنه كان يعتمد في عملية التحريك، على أذن العازف، لعدم وجود مواقع محددة مسبقاً تسمح بالتعديلات السريعة.

كان الحل الأخير بأن تُضاف عدة قطع معدنية صغيرة ( تسمى العُرَب ) ، تثبت تحت كل مجموعة من الأوتار، تحسب مواقعها بدقة شديدة ، ويمكن للعازف أن يرفع العدد اللازم منها أو يخفضه، لتقصير طول مجموعة الأوتار أو إطالتها، حسب الضرورة، مما يسمح له أن يصدر جميع أصوات السلم الموسيقي العربي، وبالسرعة المطلوبة، مستخدماً يده اليسرى لإجراء التحريك المطلوب، وبالتالي تأدية جميع المقامات الموسيقية، بأبعادها الصغيرة، بل والتنقل فيما بينها بسهولة ويسر.

كان أستاذي في عزف القانون شكري الإنطكلي هو العلاّمة في حساب مواقع العُرب في سورية وكان تثبيتها يستغرق شهراً أو أكثر من العمل ، وعندما ينتهي وتباع آلة القانون في وضعها الجديد كان منها ما يشتريه صانعو القوانين للنقل منها وتثبيت العُرب بالمقارنة السمعية. لاحقاً أعطى الأستاذ شكري معادلات التثبيت لزميلي الأستاذ علي واعظ ، ليحمل عنه الأمانة ، فيما كان صغر سني لا يسمح بذلك.

كان القانون الذي ينفذ الأستاذ شكري  تثبيت العُرب فيه يعتبر قطعة نادرة ، لأن النقل السمعي لم يكن دقيقاً تماماً.

أعتبر نفسي من المحظوظين لأن الأستاذ شكري قبل أن يثبت لي عُرب آلة القانون التي أعزف عليها منذ حوالي 60 عاماً!

يمكن متابعتي وأنا أستخدم العُرب أثناء شرحي المقارن لمقامي السيكاه ( الهزام ) والسيكاه الأصلي


إلى جانب أسلوب عزف الأستاذ عبده صالح كانت هناك أساليب أخرى ومنها مثلاً أسلوب الأستاذ عبد الفتاح منسي الذي اعتمد التقنية وأسلوب الأستاذ محمد عطية الذي اعتمد الأسلوب التعبيري. إليكم هذا التسجيل النادر المقتطف من إحدى حلقات برنامجي التلفزيوني العرب والموسيقى


اتجه العديد من العازفين منذ الخمسينات من القرن العشرين، إلى توليد أساليب جديدة في العزف، تتجه في معظمها إلى إعطاء اليد اليسرى، إمكانية عزف لحن مختلف عما تؤديه اليد اليمنى،وكان شكري الإنطكلي في حلب أول من أبدع هذا الأسلوب، في اقتراب من آلة الكلافسان الغربية، كما اتجه العازفون في العالم العربي في الستينات من القرن العشرين، إلى استخدام عدة أصابع من اليد الواحدة ( اليسرى أو اليمنى) في نقر مباشر على الأوتار، وكنتُ أول من أبرز هذا الأسلوب في العالم العربي، وفق أسلوب التعليم الذي نلته ، على يد أستاذي شكري الأنطكلي عازف القانون في حلب ، مما اقترب بالقانون من آلة الهارب المعروفة في الموسيقى الغربية، فيما شاع هذا الأسلوب مؤخراً، بتأثير من زيادة التفاعل مع الأسلوب التركي في العزف على آلة القانون.


استُخدمت آلة القانون ضمن الفرقة الموسيقية للتعبير عن معان واردة في النص، وكان محمد عبد الوهاب سباقاً في ذلك، عبر أغنيتين وردتا في فيلم “يحيى الحب ” عام 1937 ، أولاهما أغنية “يا دنيا يا غرامي “، عندما انفرد عازف القانون المتميز عبد الفتاح منسي، ليعبر بنقرات واضحة، عن الصحوة من الحلم،التي صورها نص الأغنية، وثانيتهما أغنية ” الظلم ده كان ليه “، كما كان عبد الوهاب أيضاً هو الذي دفع منسي لتقديم عزف منفرد في بداية أغنية فكروني لأم كلثوم عام 1966 ، اعتبر متطوراً جداً في زمانه، ويمكن أن نذكر أيضاً أسلوب استخدام الأستاذ رياض السنباطي آلة القانون للتعبير عن الفؤاد، في مقدمة قصيدة “الأطلال “، التي قدمتها أم كلثوم عام 1965 بأداء جميل من محمد عبده صالح. في الفيديو التالي مقارنة بين أداء عبد الفتاح منسي و عبده صالح لصولو أغنية فكروني


هل كانت أم كلثوم تعزف على القانون؟

في الصورة التالية تبدو أم كلثوم كعازفة ماهرة على آلة القانون!

هل نحن على طريق فقدان آلة القانون لأصالتها و هويتها؟

كثيراً ما يرسل لي متابعون تسجيلات لعازفين وعازفات على آلة القانون من الجيل الشاب ، وهي جميعها تقلد أساليب وافدة لا علاقة لها بالأسلوب العربي ، ما يجعلني أتساءل : لماذا تخلى عازفو القانون على امتداد العالم العربي عن تراثهم العريق ليقلدوا الآخرين .. بدلاً من متابعة تطوير أسلوبهم العربي مع المحافظة على شخصيته الأصيلة؟
العزف على آلة القانون في العالم العربي كانت له تقاليد راسخة .. تطريبية رصينة عموماً .. و هي بشكل عام مختلفة عن الأسلوب التركي-الأذربيجاني-الأرمني المعتمد أكثر على السرعة والتعبير ، وكانت هناك محاولات كثيرة ناجحة لتطوير الأسلوب العربي من الداخل بإدماج عناصر السرعة و التعبير إليه دون التخلي عن شخصيته الأصيلة..
شاع مؤخراً التخلي عن الأسلوب الأصيل ، وعن كل التطوير الذي أنجز ، و اعتماد أساليب عزف على القانون إما وافدة أو مستحدثة ، مع التخلي عن أساليب العزف العربية التقليدية والأصيلة.
الأساليب الوافدة تعتمد السرعة ، و العزف باليدين في منطقة واحدة من القانون ، مع توليد اهتزازات تعبيرية للصوت ، أما الأساليب المستحدثة ، فهي تسعى لتوظيف جميع الأصابع ، لتنفيذ مؤلفات موسيقية غربية شائعة ، بغية إثبات قدرة العازف والآلة على استيعابها ، فيما تعتمد الأساليب التقليدية الأولى على الرصانة ، و تخصيص اليد اليمنى والبسرى لتعزف كل منهما في منطقة صوتية مختلفة ، مع إبراز أجواء المقام الموسيقي ، والتمكن من التنقل بين المقامات في يسر وليونة ، مع الاختتام بالقفلات التطريبية ، وهي الأساليب التي تطورت لاحقاً ، خلال عصر النهضة ، من خلال إضفاء عنصر السرعة و الأبعاد التعبيرية والوجدانية على الأداء ، لتتكامل تلك الأساليب ، وهو ما سبق أن فصَّلت في شرحه في مناسبات عديدة.
بالنسبة لي ، الإبداع في أي مجال فني ، والعزف على القانون ليس ببعيد عن ذلك ، لابد من أن يعتمد على كلمات سحرية ، كثيراً ما تحدثت عنها : الاختزان الواعي لنتاج فترة النهضة الموسيقية العربية الحديثة في القرن العشرين ، ثم التوليد على أحد المسارات التي استقرت في تلك الفترة ، فالسبك من مسارات متعددة ، قبل السعي لتشكيل شخصية فنية خاصة تعتمد ماسبق ، وتضيف أبعاداً جديدة.
بالتالي ، أنا لا أمانع ، وبغية تحقيق تطوير جديد لأساليب العزف على القانون ، في ضم مسارات ، كانت استقرت في عوالم موسيقية قريبة أو بعيدة عن عالمنا الموسيقي العربي ، في سياق عملية السبك الموصوفة أعلاه ، و من ثم البحث عن شخصية فنية جديدة للعازف ، بل إنني كنت سباقاً إلى ذلك منذ سنوات طويلة ، سواء في اعتماد السرعة ، أو في العزف بأصابع متعددة ، أو في توليد الاهتزازات الصوتية التعبيرية ، أو في عزف جمل لحنية كاملة على وتر واحد ، ولكنني فعلتُ ذلك ، معتمداً ألا يقتصر العزف على تلك الأساليب ، وإنما أن تكون إضافة على الأساليب التقليدية والمطورة ، التي يجب أن تُقدم بنفس المستوى من المهارة ، ما أدى إلى تكوين شخصية فنية خاصة بي.
ولذا فإنني أدعو عازفي القانون المعاصرين ، لاستكمال معارفهم في أساليب العزف العربية التقليدية والمطورة ، والوصول فيها إلى درجة عالية من النضج و الاستيعاب والمهارة ، ومن ثم إدماجها في أعمالهم ، لأنه لا يمكن اعتماد أي عازف على القانون ، تقتصر معارفه على الأساليب الوافدة أو المستحدثة ، مهما كانت درجة الإبهار التي وصل إليها أمام متابعيه ، و مهما كانت درجة براعته في عرض الأساليب الوافدة والمستحدثة ، لأنه في اكتفائه بها ، سيكون دائماً مقلداً للآخرين ، متخلياً عن هويته الأصلية ، وما سيفقد مع الوقت آلة القانون ، كما عرفها العالم العربي ، هويتها ووجودها!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading