المرحلة الثالثة..الملحن الواحد.. واللون الواحد..
![عبد الحليم وأم كلثوم](https://www.agha-alkalaa.net/wp-content/uploads/2016/03/عبد-الحليم-وأم-كلثوم.jpg)
عبد الحليم وأم كلثوم
ابتداء من عام 1966 ..تضافرت عناصر محاور فن الأستاذ عبد الحليم والتي تمثلت في حالته الشخصية ، والتفاعل مع الفترة السياسية والوطنية والتنافس الفني تضافرت لتوجيه الناتج الفني إلى لون واحد .. الشعبيات .. والملحن الواحد.. الأستاذ بليغ حمدي . كان ذلك لإدراكه للظروف التالية:
1- تدهور وضعه الصحي ،وصعوبة أن يصبغ أغنيته العاطفية بلون قاتم حزين ، وبشكل دائم.
2- الحيرة التي سادت في المرحلة التي سبقت حرب 1967 ، ومشاعر الإحباط التي تلتها ، والرغبة في تغطيتها بلون غنائي جديد.
3- توجه القطاعات الثقافية والفكرية في تلك المرحلة عموماً ، إلى الشعب ، للتعبير عن فنونه البعيدة نوعاً ما عن التوجهات الفنية المحضة.
4- نجاح الأعمال الغنائية الشعبية التي قدمها محمد رشدي بالتعاون مع بليغ حمدي وعبد الرحمن الأبنودي ، وخشية عبد الحليم من تطور مكانة رشدي في المرحلة التالية.
5- توجه السيدة أم كلثوم ، مع ملحنيها الجدد الشبان ، إلى أنماط غنائية أكثر سرعة وإيقاعية ، مما ساهم في جذبها لشرائح من الجيل الجديد ، التي افتقدت الأمل في أغاني عبد الحليم.
6- نقل الأستاذ فريد الأطرش لنشاطه إلى لبنان ، وتوجهه إلى الأغنية الشعبية ذات النكهة الشامية ، من جهة ، وإلى القصيدة بأسلوبها التقليدي ، للتمهيد للتلحين للسيدة أم كلثوم ، من جهة أخرى.
وهكذا تضافرت الظروف لظهور شعبيات بليغ حمدي.. التي أقصت التوجهات الأخرى كلها. تميز الناتج بالإيقاعية والجملة اللحنية ، مع تطوير التنوع في الآلات الموسيقية ، التي لم يعتد الجمهور على متابعتها في مراحل سابقة.
أحصيت هنا ثنائيين أساسيين ، لهما لون واحد ، في مرحلة استمرت منذ 1966 وحتى عام 1970 ..
الثنائي الأول: بليغ حمدي وعبد الرحمن الأبنودي أربعة أعمال غنائية.
الثنائي الثاني: بليغ حمدي ومحمد حمزة: ثلاثة أعمال غنائية ومنها أغنية زي الهوى
لابد من الإشارة هنا ، إلى تعاون الأستاذ عبد الحليم مع الأستاذ الموجي في خط جديد ، لم يشكل ثنائياً مع شاعر محدد ، وإنما تعاون فيه مع شعر الأمير عبد الله الفيصل ، من جهة ، والشاعر مجدي نجيب من جهة أخرى ، في تطوير لشكل الموشح ، تمثل في أغنيتي ” يا مالكاً قلبي ” و ” كامل الأوصاف” .. ولعل ذلك كان نوعاً من التصدي للقصائد التي غناها فريد الأطرش في الفترة ذاتها.. لم يستمر هذا الخط الجديد لطغيان اللون الشعبي الآخر.
المرحلة الأخيرة..الألم ..والضياع..
![عبد الحليم في مرضه](https://www.agha-alkalaa.net/wp-content/uploads/2016/03/عبد-الحليم-في-مرضه.jpg)
عبد الحليم في مرضه
كانت المرحلة الأخيرة في حياة عبد الحليم عابقة بآلام من مصادر متباينة اختلط فيها الخاص بالعام .. فقد انتهى عهد كان ارتبط به ارتباطاً وثيقاً ، مع غياب الزعيم الراحل عبد الناصر ، ما غيَّب العناصر الداعية إلى الاستمرار في الخط الغنائي الشعبي ، الذي كان بدأ فيه قبيل نكبة حزيران ، كما تزامن هذا مع سيطرة هاجس الموت على عبد الحليم ، بعد أن تأكد من أن استمراره في الحياة أصبح مسألة وقت فقط ، فيما بدا ، في الوقت ذاته ، أن تنافسه الفني مع السيدة أم كلثوم قد قارب على الانتهاء ، بعد أن بدأت صحتها تعتل ، وإلغاءات حفلاتها تتكرر، وهو ما كان يحصل أيضاً مع صديقه اللدود ، الأستاذ فريد الأطرش . كانت مرحلة أليمة حقاً ، لأن المحاور التي كانت تصنع فنه ، أو توجهه ، ليكون انعكاساً لها ، ومؤثراً فيها في الوقت نفسه ، اتحدت لتعطي صورة قاتمة تماماً .. وحتى نصر 1973 ، لم يستطع إلا أن يحرض ثلاث أغنيات مرت دون تأكيد إعلامي واضح.
على عكس ما يمكن أن نتوقع بعد هذه المقدمة التي تغص بالألم ، فقد كان النتاج الفني في المرحلة الأخيرة عند عبد الحليم ، التي امتدت من عام 1970 وحتى عام 1977 ، الذي شهد غيابه ، متطوراً تماماً ، لأن الفرح في الغناء ، حقيقياً كان أم تصنعاً ، ينتج ألحاناً خفيفة لطيفة تضج بالحيوية ، ولكنها قلما تنشط المشاعر والأحاسيس ، أما الغناء الذي يطفح بعواطف بسيطة ، كالحزن ، أو بعواطف مركبة ، كالقلق ، أو المعاناة من الوحدة القاتلة ، أو الإحساس بقرب النهاية ، فإنه يولد معالجات شعرية وموسيقية وغنائية حافلة ، غنائياً وموسيقياً ، بالعناصر الدرامية ، التي توجه العمل الفني ، إلى صياغات تمس شغاف القلب ، وتحرض الصور المتصارعة في وجدان المستمع.
تميزت تلك المرحلة ، أيضاً ، بقلة الأعمال الغنائية ، وهذا أمر متوقع ، نظراً للحالة النفسية التي كانت مسيطرة عند عبد الحليم ،و اعتمدت ، إلى جانب أعمال متفرقة أخرى ، على ثنائيين فنيين ، استخدم الأول ، المكون من بليغ حمدي و محمد حمزة ، اللغة العامية ، واعتمد الثاني ، المكون من محمد الموجي ونزار قباني ، على الشعر ، و اتخذت الأغاني ، بغض النظر عن الشاعر والملحن ، شكل الأغنية الطويلة المقدمة على المسرح. كان ذلك ، وخاصة بعد وفاة فريد الأطرش ، نهاية عام 1974 ، و السيدة أم كلثوم ، بداية عام 1975 ، شكلاً من أشكال محاولة سد الفراغ الذي أحدثه غيابهما ، في محاولة ، بدت يائسة ، للاستمرار..
تميزت المرحلة بقلة الأعمال الغنائية الناتجة ، وهي ملاحظة كنا نلاحظها دائماً عند الأستاذ عبد الحليم ، وفي حالات عديدة أخرى ، حيث يتناقص الناتج الغنائي ، عند المطرب ،عاماً بعد عام.
أحصيت لهذين الثنائيين الأغاني التالية:
الثنائي الأول:بليغ حمدي ومحمد حمزة: خمسة أعمال غنائية .
الثنائي الثاني:محمد الموجي ونزار قباني: قصيدتان وهما ” رسالة من تحت الماء ” و ” قارئة الفنجان ” اللتان يمكن اعتبارهما استمراراً قصائد” حبيبها ” ، من ألحان محمد الموجي و ” أنت قلبي ” و ” لا تكذبي ” من ألحان محمد عبد الوهاب.
مسلسل قاهر الظلام
عبرت أغاني تلك المرحلة تماماً عن مشاعر عبد الحليم الغارقة في الضياع و التشاؤم .. و تجسد هذا بشكل خاص في قصيدتي رسالة من تحت الماء و قارئة الفنجان .. ولكن الأعمال الغنائية التي عبرت فعلاً عن مجمل مسيرة حياته العابقة بتفاعل ثري بين الأمل والألم ، أتت في سياق مسلسل ” قاهر الظلام ” عام 1973 ، الذي وثق لسيرة عميد الأدب العربي طه حسين، من كلمات محمد حمزة وألحان محمد الموجي ، في تداخل غريب بين الثنائيين لابد من تفسيره يوماً . لقد مكنت تلك الأعمال عبد الحليم ، و التي كان المقصود منها تجسيد سيرة طه حسين ، من أن يتجاوز في أدائه لها قدراته التعبيرية المعتادة ، إذ أنه وجد في مسيرته هو ، كما أعتقد ، أطيافاً من مسيرة مبدع كُفَّ بصره طفلاً ، فشغل الناس بأدبه و إبداعه.. استطاع عبد الحليم أن يعبر بصدق عن المعاني التي حملتها تلك الأعمال الغنائية ، بنسخها المختلفة ، و بأساليب الأداء المتنوعة التي قدمها فيها ، للتعبير عن تناقضات أحاسيس الأديب الكبير ، وأعتقد أنه كان مؤهلاً لذلك ، إذ أنها عبرت عن واقعه أيضاً : ألم يحرم وهو في ريعان الشباب من نعمة مقابلة لنعمة البصر ، وهي نعمة الصحة ، فيصاب بأول نزيف في المعدة عام 1955 ، وتصبح حياته مهددة يومياً ، لدرجة أنه كان لا ينام إلا عندما تشرق شمس يوم جديد ، فيطمئن .. وينام .. ومع ذلك ، كان على أغنياته أن تعبر عن مشاعر الأمل والتفاؤل ، التي عاشها العالم العربي في الخمسينات ومنتصف الستينات ، فكان عليه أن يتحدى الحرمان ، كما طه حسين ، وألا يستسلم ، ما جعل تلك المعاني تعبر عن مشاعر وأحاسيس و إرادة طه حسين للمستمعين ، ولكنها بالنسبة له ، كانت تعبر عن واقع صعب عاشه ، فتحداه ، وقاومه ، ولم يستسلم له ، ذلك التحدي الذي لم ينته إلا عندما استقرت روحه وارتاحت ، في الثانية الأخيرة التي سبقت رحيله ذات يوم ، على سرير مستشفى في عاصمة غريبة .. يلفها الضباب..
كلمة أخيرة..
نصل الآن ، وبعد هذا الاستعراض السريع لمسيرة الأستاذ عبد الحليم الفنية ، إلى الظاهرة التي ذكرت في بداية المقال.. لا يزال الناتج الغنائي الذي قدمه الأستاذ عبد الحليم مرغوباً بكامله .. على عكس ما يحصل مع السيدة أم كلثوم ، مثلاً ، التي تطلب أغانيها ابتداءاً من مرحلة الخمسينات ..رغم روعة الأعمال التي قدمتها في مراحل سابقة ، وكذلك في حالة أعمال الأستاذ عبد الوهاب ، التي يطلب منها الأغاني القديمة أساساً .
أعتقد هنا أن المحاور ، التي كان الناتج الغنائي للأستاذ عبد الحليم انعكاساً لها ، بتطورها السريع من الأمل ، إلى الألم ، فاليأس ،عبر نكهات في كل مرة ، وبوصفها للحالات التي يمر بها أي شاب في حياته العاطفية والاجتماعية ، استطاعت أن تولد ناتجاً غنائياً صالحاً للتعبير عن مختلف المراحل التي يعيشها أي شاب في أي زمان ومكان ، فكانت كثافة المتغيرات التي عصفت بحياة عبد الحليم ، قد حولتها إلى صورة نقية لأشكال المتغيرات كلها ، التي يعيشها الإنسان في مختلف مراحل حياته ، مما حقق أن تُطلب أعماله كافة ، ومن مختلف الأجيال ، ومن مختلف المواقع .
بقي أن أقول ، إن تنوع الثنائيات ، وتطور الأداء الصوتي ، ونمو صدق التعبير فيه ، على حساب المقدرة الصوتية ، إلى جانب تطور أداء الفرقة الموسيقية ، قد ساهم في تغيير معايير الغناء السائدة ، بعد أن تعود المتلقي عليها ، من خلال إقباله على ناتج غنائي صالح لكل زمان ومكان .. ولكن هذا أفسح المجال ، بالنتيجة ، لكي يدخل عالم الغناء اليوم ، وبعد أن نمت ظاهرة الغناء ذي الإيقاع السريع ، الخالي من أي عنصر في الأداء ، أشخاص تشبهوا بالفنانين ، وقدموا أصواتاً ذات قدرة صوتية محدودة ، وأداء غاب فيه التعبير أصلاً ، مما جعل المتلقي الباحث عن غناء حقيقي ، يتمسك بالتسجيلات التي تركها لنا أعلام الغناء في الوطن العربي عموماً ، والتي تتلون حسب توجه مبدعيها ، من قدرة الصوت ، إلى صدق الأداء ، بانتظار أن يعود الفن إلى ما كان عليه في أمس قريب ، تتمثل صورته الزاهية ، في توازن إبداعي بين مدرستين أساسيتين: مدرسة الغناء القديم المعتمد على قدرة الصوت ، ومدرسة الغناء المعاصر المرتبط بصدق الأداء والتعبير عن الواقع..
كانت أم كلثوم تعتمد دمج المدرستين في توازن فذ بينهما ، وكذلك عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وفيروز وصباح فخري ووديع الصافي.. كل حسب نسب خاصة به .. أما عبد الحليم .. فقد اعتمد المدرسة الأخيرة ، واستطاع عبر عوامل عديدة أن يجعلها صالحة بمفردها ، لكي تحقق له نجاحاً أبقاه في قمة الغناء العربي حتى اليوم ، وقد يبقيه لأجيال عديدة قادمة.
أغاني عبد الحليم حافظ
مقالات تناولت أغنيات غناها عبد الحليم حافظ
- أغنية ظالم لعبد الحليم حافظ : أغنية تجريبية من البدايات اقترب فيها الموجي من أجواء عبد الوهاب و ركز على أجواء فريد الأطرش في بحث عن شخصية غنائية جديدة لعبد الحليم تختلف عن السائد وتقترب من الناجح وتستبعد ما لا يلائم!
- الأصيل الذهبي لعبد الحليم حافظ والأوركسترا : عندما ذهب الغناء العربي ، في تمثُله لأجواء الأعمال الأوركسترالية ، نحو الحدود القصوى!
- دويتو محلاها الدنيا لعبد الحليم وفايدة كامل : عندما أراد عبد الحليم إثبات مؤهلاته في أداء أصعب أساليب الغناء الوافدة وأندرها في الغناء العربي!
- عبد الحليم يواجه المرض في أنشودة الحياة!
- عندما قدم عبد الحليم حافظ 11 دعاءً في رمضان و دعا الله في اثنين منها لكي يتجاوز الظروف الضاغطة التي كان يمر فيها و يحقق الدور الذي يأمل أن يقوم به في هذه الحياة!
- قصيدة لست أدري لعبد الوهاب : حملت أول محاولة معاصرة للتعبير اللحني متعدد الأبعاد عن ضياع الإنسان وحيرته أمام الأسئلة الكبرى في الحياة!
- قصيدة لقاء لعبد الحليم : تجاوزت النجومية الأولى و أسست لشخصية غنائية مستقبلية سترافقه طويلاً !
- كيف تشكلت شخصية عبد الحليم حافظ الغنائية -1: ياللي إنتِ نجوى ف خيالي ألحان مكتشفه عبد الحميد توفيق زكي!
- لماذا لم تقبل أم كلثوم أن يلحن فريد الأطرش لها؟ وماذا عن عبد الحليم؟
- مسلسل قاهر الظلام : عندما عبر عبد الحليم عن الحرمان والتحدي في سيرة طه حسين .. وسيرته.. !!
- يوسف وهبي .. اكتشف نور الهدى ووثق لرحيل أسمهان و قدم عبد الحليم وليلى مراد و محمد فوزي لأول مرة!
أفلام مثل فيها عبد الحليم حافظ
حلقات تلفزيونية تناولت فن عبد الحليم حافظ
- 07- مع الدكتور سعد الله آغا القلعة نحو نهضة موسيقية عربية جديدة – الحلقة السابعة : المساحة الصوتية – في يوم في شهر في سنة : هل كانت مساحة صوت عبد الحليم حافظ محدودة؟
- برنامج نهج الأغاني – الحلقة الثانية – 2 : المعارضة في الشعر رسمٌ على نسق جمل لحنية قديمة عند الأخوين رحباني .. و إعادة توظيف الألحان القديمة ناقلةُ رسائل عند عبد الحليم!
- حياة وفن فريد الأطرش – الحلقة الثالثة والعشرون – 1 : منتصف الخمسينات .. صعودٌ سينمائي مدوٍ لعبد الحليم حافظ .. والسجال يحتدم!
- حياة وفن فريد الأطرش – الحلقة الثالثة والعشرون – 2 : منتصف الخمسينات : السجال بين فريد وعبد الحليم يبعد الأصوات الأخرى..
- حياة وفن فريد الأطرش – الحلقة الثامنة والعشرون والأخيرة – 2 : المرحلة اللبنانية تشعل التنافس الأخير مع عبد الوهاب ولاحقاً مع عبد الحليم!
- حياة وفن فريد الأطرش – الحلقة السابعة والعشرون – 1 : رغم أزمة قلبية خانقة .. تأميم السينما في مصر يوجهه للمسرح الذي يشعل التنافس بينه وبين عبد الحليم و يبعده أكثر عن التلحين لأم كلثوم!
- عبد الوهاب مرآة عصره – الحلقة الثانية عشرة – 1 : منتصف الخمسينات : شفاء أم كلثوم يعيد عبد الوهاب إلى الإبداع وظهور عبد الحليم يعفيه من مواجهة فريد الأطرش!
- عبد الوهاب مرآة عصره – الحلقة الثانية عشرة – 2 : نهاية الخمسينات : استقطاب عبد الحليم والتحضير للتلحين لأم كلثوم بعد دخول بليغ و الموجي دائرة ملحنيها!
تحليل رائع
أشكركم