عبد الحليم حافظ : مسيرة فنية نجحت في مقاومة المرض والإحباط بإشاعة الأمل قبل أن تخمدها نكبات الوطن و اختلاطات الخلايا

المرحلة الثالثة..الملحن الواحد.. واللون الواحد..

عبد الحليم وأم كلثوم

عبد الحليم وأم كلثوم

ابتداء من عام 1966 ..تضافرت عناصر محاور فن الأستاذ عبد الحليم   والتي تمثلت في حالته الشخصية ، والتفاعل مع الفترة السياسية والوطنية  والتنافس الفني تضافرت لتوجيه الناتج الفني إلى لون واحد .. الشعبيات .. والملحن الواحد.. الأستاذ بليغ حمدي . كان ذلك لإدراكه للظروف التالية:
1- تدهور وضعه الصحي ،وصعوبة أن يصبغ أغنيته العاطفية بلون قاتم حزين ، وبشكل دائم.
2- الحيرة التي سادت في المرحلة التي سبقت حرب 1967 ، ومشاعر الإحباط التي تلتها ، والرغبة في  تغطيتها بلون غنائي جديد.
3- توجه القطاعات الثقافية والفكرية  في تلك المرحلة عموماً ، إلى الشعب ، للتعبير عن فنونه البعيدة نوعاً ما عن التوجهات الفنية  المحضة.
4- نجاح الأعمال الغنائية الشعبية التي قدمها محمد رشدي  بالتعاون مع بليغ حمدي وعبد الرحمن الأبنودي ، وخشية عبد الحليم من تطور  مكانة رشدي في المرحلة التالية.
5- توجه السيدة أم كلثوم ، مع ملحنيها الجدد  الشبان  ، إلى أنماط  غنائية أكثر سرعة وإيقاعية ، مما ساهم في جذبها لشرائح من  الجيل الجديد ، التي افتقدت الأمل في أغاني عبد الحليم.
6- نقل الأستاذ فريد الأطرش لنشاطه إلى لبنان ، وتوجهه إلى الأغنية الشعبية ذات النكهة الشامية ، من جهة ، وإلى القصيدة بأسلوبها التقليدي ، للتمهيد للتلحين للسيدة أم كلثوم ، من جهة أخرى.
وهكذا تضافرت الظروف لظهور شعبيات بليغ حمدي.. التي أقصت التوجهات الأخرى كلها. تميز الناتج   بالإيقاعية  والجملة اللحنية ، مع تطوير التنوع  في الآلات الموسيقية ، التي لم يعتد الجمهور على متابعتها في مراحل سابقة.
أحصيت هنا ثنائيين أساسيين ، لهما لون واحد ، في مرحلة استمرت منذ 1966 وحتى عام 1970 ..
الثنائي الأول: بليغ حمدي وعبد الرحمن  الأبنودي  أربعة أعمال  غنائية.
الثنائي الثاني: بليغ حمدي ومحمد حمزة: ثلاثة أعمال غنائية ومنها أغنية زي الهوى


لابد من الإشارة هنا ، إلى تعاون الأستاذ عبد الحليم مع الأستاذ  الموجي في خط جديد ، لم يشكل ثنائياً  مع شاعر محدد ، وإنما تعاون فيه مع شعر الأمير عبد الله الفيصل ، من جهة ، والشاعر مجدي نجيب من جهة أخرى ، في تطوير لشكل الموشح ، تمثل في أغنيتي ” يا مالكاً  قلبي ”  و ” كامل الأوصاف” .. ولعل ذلك كان نوعاً  من التصدي للقصائد التي غناها فريد الأطرش في الفترة ذاتها.. لم يستمر هذا الخط الجديد لطغيان اللون الشعبي الآخر.


المرحلة الأخيرة..الألم ..والضياع..

عبد الحليم في مرضه

عبد الحليم في مرضه

كانت المرحلة الأخيرة في حياة عبد الحليم عابقة بآلام من مصادر متباينة اختلط فيها الخاص بالعام .. فقد انتهى عهد كان ارتبط به ارتباطاً وثيقاً ، مع غياب الزعيم الراحل عبد الناصر ، ما غيَّب العناصر الداعية إلى الاستمرار في الخط الغنائي الشعبي ، الذي كان بدأ فيه قبيل نكبة حزيران ، كما  تزامن هذا مع سيطرة هاجس الموت على عبد الحليم ، بعد أن تأكد من أن استمراره في الحياة أصبح مسألة وقت فقط ، فيما بدا ، في  الوقت ذاته ، أن تنافسه الفني مع السيدة أم كلثوم قد قارب على الانتهاء ، بعد أن بدأت صحتها تعتل ، وإلغاءات حفلاتها تتكرر، وهو ما كان  يحصل أيضاً مع صديقه اللدود ، الأستاذ فريد الأطرش . كانت مرحلة  أليمة حقاً  ، لأن المحاور التي كانت تصنع فنه ، أو توجهه ، ليكون انعكاساً لها ، ومؤثراً فيها في الوقت نفسه ، اتحدت لتعطي صورة قاتمة تماماً .. وحتى نصر 1973 ، لم يستطع إلا أن يحرض ثلاث أغنيات مرت  دون تأكيد إعلامي واضح.

التعبير عند عبد الحليم حافظ


على عكس ما يمكن أن نتوقع بعد هذه المقدمة التي تغص بالألم ، فقد كان النتاج الفني في  المرحلة الأخيرة عند عبد الحليم ، التي امتدت من عام 1970 وحتى عام 1977 ، الذي شهد غيابه ، متطوراً  تماماً ، لأن الفرح في الغناء ، حقيقياً كان أم تصنعاً  ، ينتج ألحاناً  خفيفة لطيفة تضج بالحيوية ، ولكنها قلما تنشط المشاعر والأحاسيس ، أما الغناء الذي يطفح بعواطف بسيطة ، كالحزن ، أو بعواطف مركبة ، كالقلق ، أو المعاناة من الوحدة القاتلة  ، أو الإحساس بقرب النهاية ، فإنه يولد معالجات شعرية وموسيقية  وغنائية حافلة ، غنائياً وموسيقياً ، بالعناصر الدرامية ،  التي توجه  العمل الفني ، إلى صياغات تمس شغاف القلب ، وتحرض الصور المتصارعة  في وجدان المستمع.
تميزت تلك المرحلة ، أيضاً ، بقلة الأعمال الغنائية ، وهذا أمر متوقع ، نظراً للحالة النفسية التي كانت مسيطرة عند عبد الحليم ،و اعتمدت ، إلى جانب أعمال متفرقة أخرى ، على ثنائيين فنيين ، استخدم  الأول ، المكون  من بليغ حمدي و محمد حمزة  ، اللغة العامية ، واعتمد الثاني ، المكون من محمد الموجي ونزار قباني ، على الشعر  ، و اتخذت الأغاني ، بغض النظر عن الشاعر والملحن ، شكل الأغنية الطويلة المقدمة على المسرح. كان ذلك  ، وخاصة بعد وفاة فريد الأطرش ، نهاية عام 1974  ، و السيدة أم كلثوم  ، بداية عام 1975 ، شكلاً من أشكال محاولة سد الفراغ الذي أحدثه  غيابهما ، في محاولة ، بدت يائسة ، للاستمرار..

تميزت المرحلة بقلة الأعمال الغنائية الناتجة ، وهي ملاحظة كنا نلاحظها دائماً عند الأستاذ عبد الحليم ، وفي حالات عديدة أخرى ، حيث يتناقص الناتج الغنائي ، عند المطرب ،عاماً بعد عام.
أحصيت لهذين الثنائيين الأغاني التالية:
الثنائي الأول:بليغ حمدي ومحمد حمزة: خمسة أعمال غنائية .
الثنائي الثاني:محمد الموجي ونزار قباني: قصيدتان وهما ”  رسالة من تحت الماء ” و ” قارئة الفنجان ” اللتان يمكن اعتبارهما استمراراً قصائد” حبيبها ” ، من ألحان محمد الموجي و ” أنت قلبي ” و ” لا تكذبي ” من ألحان محمد عبد الوهاب.


مسلسل قاهر الظلام

عبرت أغاني تلك المرحلة تماماً عن مشاعر عبد الحليم الغارقة في الضياع و التشاؤم .. و تجسد هذا بشكل خاص في قصيدتي رسالة من تحت الماء و قارئة الفنجان .. ولكن الأعمال الغنائية التي عبرت فعلاً عن مجمل مسيرة حياته العابقة بتفاعل ثري بين الأمل والألم ، أتت في سياق مسلسل ” قاهر الظلام ” عام 1973 ، الذي وثق لسيرة عميد الأدب العربي طه حسين،  من كلمات محمد حمزة وألحان محمد الموجي ، في تداخل غريب بين الثنائيين لابد من تفسيره يوماً . لقد مكنت تلك الأعمال عبد الحليم ، و التي كان المقصود منها تجسيد سيرة طه حسين ،  من أن يتجاوز   في أدائه لها قدراته التعبيرية المعتادة ، إذ أنه وجد في مسيرته هو ، كما أعتقد ،  أطيافاً من مسيرة مبدع كُفَّ بصره طفلاً ، فشغل الناس بأدبه و إبداعه.. استطاع عبد الحليم أن يعبر بصدق عن المعاني التي حملتها تلك الأعمال الغنائية ، بنسخها المختلفة ، و بأساليب الأداء المتنوعة التي قدمها فيها ، للتعبير عن تناقضات أحاسيس الأديب الكبير ، وأعتقد أنه كان مؤهلاً لذلك ، إذ أنها عبرت عن واقعه أيضاً : ألم يحرم وهو في ريعان الشباب من نعمة مقابلة لنعمة البصر ، وهي نعمة الصحة ، فيصاب بأول نزيف في المعدة عام 1955 ، وتصبح حياته مهددة يومياً ، لدرجة أنه كان لا ينام إلا عندما تشرق شمس يوم جديد ، فيطمئن .. وينام .. ومع ذلك ، كان على أغنياته أن تعبر عن مشاعر الأمل والتفاؤل ، التي عاشها العالم العربي في الخمسينات ومنتصف الستينات ، فكان عليه أن يتحدى الحرمان ، كما طه حسين ، وألا يستسلم ، ما جعل تلك المعاني تعبر عن مشاعر وأحاسيس و إرادة طه حسين للمستمعين ، ولكنها بالنسبة له ، كانت تعبر عن واقع صعب عاشه ، فتحداه ، وقاومه ، ولم يستسلم له ، ذلك التحدي الذي لم ينته  إلا عندما استقرت روحه وارتاحت ،  في الثانية الأخيرة التي سبقت رحيله ذات يوم ، على سرير مستشفى في عاصمة غريبة .. يلفها الضباب..


كلمة أخيرة..

نصل الآن ، وبعد هذا الاستعراض السريع لمسيرة الأستاذ عبد الحليم  الفنية ، إلى الظاهرة التي ذكرت في بداية المقال.. لا يزال الناتج الغنائي الذي قدمه الأستاذ عبد الحليم مرغوباً بكامله .. على عكس ما يحصل مع السيدة أم كلثوم ، مثلاً ، التي تطلب أغانيها ابتداءاً من مرحلة الخمسينات ..رغم روعة الأعمال التي قدمتها في مراحل سابقة ، وكذلك في حالة  أعمال الأستاذ عبد الوهاب ، التي يطلب منها الأغاني القديمة أساساً .
أعتقد هنا أن المحاور ، التي كان الناتج الغنائي للأستاذ عبد الحليم انعكاساً لها ، بتطورها السريع من الأمل ، إلى الألم ، فاليأس ،عبر نكهات في كل مرة ، وبوصفها للحالات التي يمر بها أي شاب في حياته العاطفية والاجتماعية ، استطاعت أن تولد ناتجاً غنائياً  صالحاً للتعبير عن مختلف المراحل التي يعيشها أي شاب في أي زمان ومكان ، فكانت كثافة المتغيرات التي  عصفت بحياة عبد الحليم ، قد حولتها إلى صورة نقية لأشكال المتغيرات كلها ، التي يعيشها الإنسان في مختلف مراحل حياته ، مما حقق أن تُطلب أعماله كافة ، ومن مختلف الأجيال ، ومن مختلف المواقع .
بقي أن أقول ، إن تنوع الثنائيات ، وتطور الأداء الصوتي ، ونمو صدق التعبير فيه ، على حساب المقدرة الصوتية ، إلى جانب تطور أداء الفرقة  الموسيقية ، قد ساهم في تغيير معايير الغناء السائدة ، بعد أن تعود المتلقي عليها ، من خلال إقباله على ناتج غنائي صالح لكل زمان ومكان .. ولكن هذا أفسح المجال ، بالنتيجة ، لكي يدخل عالم الغناء اليوم ، وبعد أن نمت ظاهرة الغناء ذي الإيقاع السريع ، الخالي من أي عنصر  في الأداء ، أشخاص تشبهوا بالفنانين ، وقدموا أصواتاً  ذات قدرة صوتية محدودة  ، وأداء غاب فيه التعبير أصلاً ، مما جعل المتلقي الباحث عن غناء حقيقي ، يتمسك بالتسجيلات التي تركها لنا أعلام الغناء في الوطن العربي عموماً ، والتي تتلون حسب توجه مبدعيها ، من قدرة الصوت ، إلى صدق الأداء ، بانتظار أن يعود الفن إلى ما كان عليه في أمس قريب ، تتمثل صورته  الزاهية ، في توازن إبداعي بين  مدرستين أساسيتين: مدرسة الغناء القديم المعتمد على  قدرة الصوت ، ومدرسة الغناء المعاصر المرتبط بصدق الأداء والتعبير عن الواقع..
كانت أم كلثوم  تعتمد دمج المدرستين في توازن فذ بينهما ،  وكذلك عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وفيروز وصباح فخري ووديع الصافي.. كل حسب نسب خاصة به .. أما عبد الحليم .. فقد اعتمد المدرسة الأخيرة ، واستطاع عبر عوامل عديدة أن يجعلها صالحة بمفردها ، لكي تحقق له نجاحاً  أبقاه في قمة الغناء العربي  حتى اليوم   ، وقد يبقيه لأجيال عديدة قادمة.

د. سعد الله آغا القلعة

أغاني عبد الحليم حافظ

مقالات تناولت أغنيات غناها عبد الحليم حافظ

أفلام مثل فيها عبد الحليم حافظ

    حلقات تلفزيونية تناولت فن عبد الحليم حافظ

    Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

    2 Responses to عبد الحليم حافظ : مسيرة فنية نجحت في مقاومة المرض والإحباط بإشاعة الأمل قبل أن تخمدها نكبات الوطن و اختلاطات الخلايا

    1. ياسمين says:

      تحليل رائع

    2. aghawebmaster says:

      أشكركم

    • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

      Loading