أيها الراقدون لمحمد عبد الوهاب : أول رثائية متكاملة في الغناء العربي المعاصر ، جسدت في مشهد سينمائي غنائي التعبير عن الألم في أعمق صوره ، وغامرت بتوجيه السينما العربية لاعتماد النهايات المأساوية للأفلام ، بشكل مبكر!

شعار كتاب الأغاني الثاني
في عام 1935 ، قدم محمد عبد الوهاب قصيدة ” أيها الراقدون تحت التراب ” ، من نظم أحمد رامي ، في سياق فيلم دموع الحب ، ثاني أفلامه ، لتكون أول رثائية سينمائية متكاملة لحناً وأداءً.
جاءت القصيدة في ختام الفيلم ، الذي بني على قصة فرنسية رومنسية شهيرة ، للكاتب ألفونس كار ، عرّبها الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي بعنوان : تحت ظلال الزيزفون ، إذ تنتحر البطلة نوال ( نجاة علي ) بعد أن رفض البطل ( عبد الوهاب ) عودتها إليه ، فيرثيها محملاً نفسه في نص الأغنية مسؤولية انتحارها ، ما يجعلها كأغنية ، تسهم في رسم ملامح الأغنية السينمائية ، كما أرساها عبد الوهاب منذ فيلمه الأول ” الوردة البيضاء ” ، عام 1932 ، في أن تأتي الأغنية في سياق الفيلم ، ومعبرة عن مجرياته، مطوراً ذلك لتصبح الأغنية ذروة الفيلم وخاتمته!
أتوقف اليوم عند هذه القصيدة ، في تحليل لعناصرالتعبير الدرامي فيها ، وكذلك الظروف التي وجهت عبد الوهاب إلى الاقتباس فيها ، وفي غيرها ، من الموسيقى الكلاسيكية الغربية.
النص:
أيها الراقدون تحت التراب * جئت أبكي علي هوي الأحباب
كان لي في الحياة من أرتجيه * ثم ولي والعمر فجر الشباب
كان أنسي وكان توأم نفسي * فإذا بي في وحشة واغتراب
أيها النائمون آه لو تسمعون *
أين مني ضريحها أسقيه ذوب قلبي ودموعي
أيها الراقدون آه لو تعلمون
يا من سعيت إليها * يقودني صوت قلبي
يا من جنيت عليها * هذه جناية حبي
أمل راحل وحب مقيم
( في الحنايا من ضلوعي * ها هنا ترقدين * آه لو ترحمين
هذه دموعي تجري * مسترحمًا في دعائي
يا ليت صوتك يسري *  ويستجيب ندائي
) الكلمات بين القوسين غير واردة في النسخة السينمائية
يا نجوم اشهدي إني علي الذكرى أمين * يا غيوم أرسلي الدمع مع الباكي الحزين

وصل عبد الوهاب في هذه الرثائية إلى مستوى عالٍ من التعبير الدرامي، لحناً وأداءً . بنى اللحن على مقام النهاوند ، مع تلوينات على مقامات الراست ( كان أنسي مع قفلة للبيت على البيات ) والبيات ( يا من سعيت إليها ، وكذلك اختتام الأغنية غناءاً ) والصبا ( أملٌ راحلٌ  و كذلك المشهد المحذوف في النسخة السينمائية ) مع ختام موسيقي للاغنية على مقام النهاوند ، واعتمد له أن يكون مرسلاً ، بما يلائم أجواء الرثاء ، مع امتدادات صوتية تلائم قالب المونولوج الرومنسي الذي بني اللحن عليه ، مع توفير التغيرات الإيقاعية التي يتطلبها ذلك القالب ، من خلال إدخال بعض الإيقاع الداخلي في خلايا اللحن ،عند : يا من سعيت إليها ، وذلك لغايتين: توفير متطلبات قالب المونولوج في التغيرات الإيقاعية في اللحن ، وهو ما ينسجم مع نص رامي ، الذي حمل أيضاً تغيرات في إيقاع الأبيات وقوافيها ، و كذلك لغايات تعبيرية ، للتعبير عن فعل السعي ، مع ما يتضمنه من حركة. نلاحظ أن الإيقاع رسمت ملامحه من خلال نبضات اللحن لا نبرات آلات الإيقاع .
حمل أداء عبد الوهاب جرعة تعبيرية كثيفة ، تداخل فيها الغناء مع التأثر العميق . يمكن التوقف عند بعض مواقع التعبير ، من خلال مقارنة ندائه للراقدين في بداية الأغنية ، مع مناداتهم مرة أخرى في سياق اللحن ، حيث تتغير طبيعة التعبير ، من مناداة افتتاحية للأغنية ، إلى مناداة تحمل شحنة انفعالية وعاطفية أوضح ، بعد أن روى للراقدين قصته الحزينة ، مستنكراً ما جرى معه ، مطلقاً الآه بعد ندائه للنائمين الراقدين ، متذكراً أن الحبيبة أصبحت مثلهم ، في نومها الأبدي ، لينقل هذه الشحنة الانفعالية إلى نداء النجوم والغيوم ، وكلها تعبر عن رسالة يريد إيصالها إلى الحبيبة ، التي انتحرت ، بأنه باقٍ على العهد. يمكن التوقف أيضاً عند التعبير على مستوى الكلمة الواحدة عند كلمتي ” العمر ” ، و ” وحشة “.
اعتمد عبد الوهاب في تلحينه لهذه القصيدة لحناً متدفقاً لا تكرار فيه ، ولكنه أدخل التكرار ، من خلال مقطع موسيقي قصير ، كان افتتح به الأغنية ، كمقدمة موسيقية ، ثم كرره على مسار الأغنية ، محققاً من خلاله إدخال عنصري التكرار ، بما يسمح باستجابة أفضل من المستمع ، والتناوب بين الجرعات الانفعالية في اللحن و لحظات الاستكانة والاستسلام ، وهو مقطع مقتبس من سمفونية شوبرت الناقصة ( غير المكتملة لأنها أتت في حركتين فقط فيما يتطلب قالب السمفونية استكمال أربعة ).
وفي رأيي فإن هذا الاقتباس لا يضير العمل ، بل إنني أراه اقتباساً مبرراً ، سواء من حيث ملاءمة السمفونية للموضوع في عنوانها ( السمفونية غير المكتملة ، كما حياة حبيبته في الفيلم لم تكتمل ) أو من حيث أن حياة مؤلفها شوبرت ن كانت قصيرة إذ لم يعش إلا 31 عاماً ، فتوفي في ريعان شبابه ، كما حبيبته ، وهو على كل حال يدل على اطلاع عبد الوهاب المبكر على الموسيقا الكلاسيكية ، وفي اعتقادي كان هذا من أهم أسباب لجوئه للاقتباس ، لكي يُعلم محبيه من الأرسطوقراطيين ، رواد البلاط الملكي المصري ، بمدى اطلاعه على موسيقى يحترمونها ، أمام موسيقى عربية يحبونها فقط! ما يكسبه المزيد من الاحترام ، ولكنه على كل حال استطاع توظيفه لغايات لحنه ، في توظيفه لتشكيل عنصري التكرار والتناوب ، بشكل مبدع!

يمكن الاستماع إلى مدخل أيها الراقدون المكرر من السمفونية الناقصة لشوبرت

مدخل أيها الراقدون المكرر من السمفونية الناقصة لشوبرت

يمكن الاستماع إلى الأغنية بتسجيل الأسطوانة النقي الكامل ( لأن تسجيل الفيلم مختصر ) ما يسمح باكتشاف مواقع التعبير الدرامي في أداء عبد الوهاب:

 


جاءت هذه الرثائية السينمائية ، بعد إرهاصات لرثائيات ذات طابع حقيقي ، أتت أولاً  عند أم كلثوم ، في قصيدة ” إن يغب عن مصر سعد ” ، التي قدمتها عام 1927 ، بعد وفاة الزعيم سعد زغلول ، وعند عبد الوهاب ذاته ، في مونولوج ” الليل بدموعه جاني ” الذي لحنه وغناه على قالب المونولوج الرومنسي  بعد وفاة والده ، عام 1928 ، وفيما بعد ، شهدنا رثائيات أخرى قدمت في رحيل الزعماء ، فيما ندرت الرثائيات التي أتت في أطر غنائية خالصة ، والتي كان من أهمها قصيدةأيها النائم ” لأسمهان ، التي أتت في سياق فيلمها الثاني ” غرام وانتقام ” و كذلك أغنية ” يا دنيا ” لوديع الصافي.

سأناقش لاحقاً حالاتٍ لرثائيات خفية ، ومنها أغنية ” في الليل لما خلي ” لعبد الوهاب عام 1931 ، من نظم أحمد شوقي أمير الشعراء ، والتي عددتها في تحليلي لها ضمن برنامج ” نهج الأغاني ” رثاءً مسبقاً من  شوقي لنفسه ، و قصيدة ” يوم بلا غد ” لفريد الأطرش ، التي يمكن عدُّها أيضاً رثاءً مسبقاً لنفسه ، رغم أنه غناها قبل وفاته بثلاثة عشر عاماً ، مثلها مثل أغنية ” أنا اللي أستاهل ” لأسمهان ، التي تحولت إلى أغنية رثائية بعد أن رحلت أسمهان عن هذه الدنيا ، بعد أيام من تسجيلها ، وكذلك  قصيدةيا منى روحي سلاماً ، التي عددتها رثاءً من فريد الأطرش لشقيقته أسمهان ، من خلال تحليلي لها في برنامج ” حياة وفن فريد الأطرش ” .
سأتوقف أيضاً بالتحليل عند رثائية خفية أخرى ، وهي  أغنية ” عدّا النهار ”  لعبد الحليم حافظ ، التي كانت أول ما غنى  بعد نكسة حزيران 1967 ، معبراً من خلالها عن صدمته وعن ألمه العميق ، وهو الذي كان يتغنى بالقوة  ، للنتائج التي أتت بها نكسة حزيران 1967 ، فرثى بالنتيجة عالماً لم يعد قائماً بالنسبة له بعد ذلك التاريخ.

بالمناسبة : كان النوح شكلاً معروفاً من أشكال الغناء العربي وكان له مختصوه .. ولهذا أيضاً حديث آخر.

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading