إعادة توظيف الألحان ظاهرة قديمة عبرت الحدود بين فضاءات الغناء وبَنَت لها أرضية مشتركة قاومت تغير الأزمان والأحوال

شعار كتاب الأغاني الثاني

عاشت الموسيقا العربية ، منذ أن بدأت تتكون ، كلغةٍ موسيقية متميزة ، على تزاوج الكلمة واللحن. كانت الكلمة ، في غالب الأحيان ، هي الأسبق للولادة ، لتكون أساس اللحن القادم ، تحمل المعنى المغنى ، الذي ينقل إلينا صورة عن المجتمع في زمن ولادتها ، معبراً عن مشاعر إنسانية ، أو عن واقع معاش، ثم يأتي اللحن ، متوافقاً معها ، ضمن معاييرَ اختلفت من عصرٍ لآخر. ففي فترة سابقة ، كان المهم أن يتوافق إيقاع اللحن مع إيقاع الشعر ، ثم تداخلت هذه القاعدة ، اعتباراً من بداية القرن العشرين ، مع محاولة التعبير عن المعنى ، بحيث ترسم الجملة اللحنية ، صورة صوتية تترجم مضمون النص ، فتقربه من حس المستمع وعقله ، متزامنة في ابتداعها ، مع تطور القيمة الفكرية للنص المغنى، وخاصة في مجال الأغنية الدنيوية.

وقد مرت الكلمة المغناة بمراحل تطور متعددة ، قد نعرض لها في دراسة لاحقة ، ولكن السمة الأساس لها ، والتي رافقتها حتى بداية العصر الحديث ، كانت تتمثل في كون قيمتها الفكرية ، أضعف من القيمة الجمالية للحن، وليس أدل على ذلك إلا اعتراض ابن منظور في كتابه ” مختار الأغاني “، على القيمة الجمالية والفكرية لنصوص الأصوات ( الأغاني ) الثلاثة ، التي تم اختيارها من قبل اللجنة التي شكلها هارون الرشيد ، لتمثل الغناء العربي في ذلك الزمان ، والتي كانت السبب في تأليف كتاب الأغاني نفسه.

من هنا ، نشأت ظاهرة إعادة توظيف الألحان ، على ما أعتقد ، حيث كانت الألحان ، في كثير من الأحيان ، تجرد من نظمها القديم ، وتكسى بنص آخر ، يلائم وظيفة جديدة ، في فضاء غنائي جديد ، فيكسبها ذلك استمراراً وحياة ، ويجعلها ترسي قواسم مشتركة بين فضاءات الغناء المتنوعة ، إلى أن تتغير الأحوال ، وتنشأ الحاجة إلى معان جديدة ، فتعاد الكرة من جديد ، أو تتغير أذواق الناس فتذوب الألحان في ذاكرة التاريخ ، أو تتطور عناصر اللغة الموسيقية، فتتشكل ألحان جديدة ، تحتوي في خلاياها ، ألق الألحان القديمة ، ونبض العصر الجديد.

متى بدأت ظاهرة إعادة توظيف الألحان ؟ ما هي محرضاتها في مختلف مراحل تطور الغناء العربي ؟  وهل  غابت في عصرنا هذا ؟

الشكل الأول للتحريض :  الحاجة ، في الفضاء الغنائي ذاته ، إلى أغانٍ بنص جديد ، أكثر ملاءمة للمكان والزمان

القدود الحلبية

 منذ زمن بعيد ، اشتهرت مدينة حلب ، بنمطين من الغناء خاصين بها ، سمي الأول : الموشحات ( الأندلسية في صورتها ) الحلبية ، والثاني : القدود الحلبية ، وهما نمطان من الغناء ، الثاني منهما صورة مبسطة عن الأول . لن أستطيع في هذه العجالة أن أتوقف عند هذين النمطين ، تاركاً ذلك إلى فرصة أخرى ، ولكن اتصال أحدهما : القدود الحلبية ،  في جانب منه بموضوعنا ، يحتم علي أن أضع تعريفاً سريعاً لها:

القدود الحلبية ، مخزون كبير من الألحان المبهجة البسيطة ، أنتجتها عبقرية ملحني تلك المدينة ،التي شهدت حتى نهاية القرن التاسع عشر ،  ولعدة قرون انقضت ، مكانة تجارية واقتصادية مرموقة ، حققها موقعها الاستراتيجي، على مسار القوافل المتجهة من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أوربا ، ومن أقصى جنوب الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي، إلى أقصى شمال العالم الإسلامي.

كان ذلك المخزون اللحني ، متبدل النص حسب الحال ، وتغير الظروف والرجال، متطوراً باستمرار ، كماً ونوعاً ، تبعاً لإنتاج الملحنين ، و لرافد آخر كانت تؤمنه القوافل التجارية الوافدة إلى حلب. كانت تلك القوافل تنقل غناء بلادها الأصلية ، وتتلاقى في خانات حلب، حيث يحصل نوع خاص من المثاقفة ، بينها وبين مطربي وملحني المدينة، ينتج عنه حفظ الألحان الوافدة ، وتحويلها إلى لهجة المدينة الدارجة ، لتدخل المخزون اللحني الضخم ،وتساهم في سهرات حلب اليومية، التي كان يقيمها كبار التجار يومياً ، للتخلص من عناء المتاجرة، في زمن لم يكن قد ظهر فيه التلفاز ، لينهي تلك اللقاءات المتكررة بين المتلقي والمبدع.

 كانت عملية التحويل تتم ، مَثَلها مَثَل طريقة استبدال أي نص جديد بنص قديم للحن سائر، بحيث يكون النص الجديد على ( قد) اللحن ، أي على قد إيقاعه الموسيقي ، والعناصر الموسيقية في نصه الأصلي ، حسبما سنشرح لاحقاً. كان الناتج الجديد يسمى دوماً: القدود الحلبية ، وهي الألحان الناتجة ، في حلب ، عن إعادة توظيف ألحان محلية ، حسب مقتضيات تغير العصر ،  أو وافدة ، عبر تجريدها من نصوصها القديمة ، محلية كانت أو بلهجة أو لغة أخرى ، وإكسائها بنصوص جديدة، باللهجة المحلية ، لتتلاءم مع أذواق المستمعين ، من كبار التجار، الذين كانوا ، أهم ممولي الغناء.

عندما انتقلت ألحان حلب إلى مصر ، على يد شاكر الحلبي ، حوالي العام 1830 ، بقيت بلهجتها الحلبية ، كما يقول قسطندي رزق في كتابه الموسيقى الشرقية ، إلى أن أتى عبده الحمولي ، كبير مطربي مصر في نهايات القرن التاسع عشر ، ليعدل نصوصها ، متجهاً بها إلى العامية المصرية ، ( فيما يمكن تسميته بالقدود المصرية ) ، ومنها ما كان يعاد إدماجه في مخزون حلب من القدود الحلبية ، بلهجته الجديدة ، أي بالعامية المصرية ،  إلى جانب إدماج  الألحان الجديدة المولَّدة في مصر ، بالعامية المصرية أيضاً ، بعد أن شاع الغناء بها ، في بدايات القرن العشرين ، بتأثيرٍ من انتشار الأسطوانات القادمة من مصر ، ثم بتأثير من الإذاعة والأفلام المصرية.

 الشكل الثاني : ألحان سائرة في فضاء غنائي ، تقدم بكلمات جديدة ، في فضاء وظيفي مختلف

الطقوس الدينية السريانية

في القرن الرابع الميلادي ، قام الشاعر مار أفرام السرياني ، باستبعاد كلمات غير ملائمة ، ووضع كلمات جديدة ، لألحان دنيوية شائعة ، لتوظيفها في أغانٍ ، تقدم في إطار الطقوس الكنسية السريانية.

الموشح الأندلسي والموشح المكفر

بشكل مشابه ، و منذ القرن الثالث عشر الميلادي ، أرسى الإمام محي الدين ابن عربي ، وأئمة آخرين للتصوف ، وبخاصة في الأندلس، أسلوباً جديداً لرفد عالم التصوف بالألحان ، بعد أن تم اعتماد الغناء ضمن طقوسه. سمي هذا الأسلوب : الموشح المكفر. كانت الأندلس في تلك الفترة تختزن أعداداً كبيرة من الموشحات الأندلسية المغناة أساساً في مواقع الغناء الدنيوية . وكان عالم التصوف يفتقر إلى الألحان المساعدة على أداء الغناء ضمن طقوسه ، وهكذا نشأ الموشح المكفر، وهو عبارة عن لحن لموشح دنيوي ، يجرد من نصه الأصلي الملائم للغناء الدنيوي ، ويكسى بنص جديد، يلائم الأغراض الجديدة. وبما أن اللحن أصبح مساهماً بشكل أو بآخر في طقوس التصوف، فإنه سيساهم في التكفير عن ذنوب صاحبه ، كما أنه سيساهم كذلك في التكفير عن ذنوب من نظم نصه الجديد ، مما استدعى تسميته بالمكفر.

انتقل هذا الأسلوب مع الإمام ابن عربي ،عندما استقر في دمشق ، للإقامة فيها ، وسار هذا الأسلوب حتى أيامنا هذه ، إذ  أصبح من الممكن أن تجد لحناً لموشح ، يتوافق مع عدد كبير من النصوص الصوفية الجديدة، المصاغة شعراً ، مما دفع أحد أهم من نظموا على هذا الأسلوب ، وهو الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، إلى أن يذكر اسمه في صلب نصه الخاص ، كنوع من التوقيع، خوفاً من أن ينسب لغيره في وقت لاحق!

القدود الحلبية و القدود الصوفية

 بعد انتشار أسلوب الموشح المكفر في الطقوس الصوفية ، ، انتبه الشيخ النابلسي ( توفي عام 1730 م ) ومن بعده آخرون ، كالشيخ عمر اليافي ( توفي عام 1818 م ) ، والشيخ أمين الجندي الحمصي ( توفي عام 1841 م ) ، إلى مخزون حلب الكبير من ألحان القدود والموشحات ، وإلى الألحان الشعبية في دمشق والمدن الأخرى ، فقاموا جميعهم ، والنابلسي أولهم ، بوضع نصوص شعرية جديدة لها على الغالب ، وبالعامية أحياناً ، من صياغتهم ، تلائم أغراض طقوس التصوف ،   وهكذا نشأ ما يمكن أن نسميه القدود الصوفية ، التي كثيراً ماكان يعاد إدماجها في مخزون حلب اللحني ، لتدخل في نسيج القدود الحلبية ، أو موشحاتها ، بنصها الشعري أو العاميّ  الجديد ، كما أن الملحنين في حلب ، كانوا كثيراً ما كانوا يضعون ألحاناً جديدة ، لتغنى في الإطار الدنيوي والصوفي ، من خلال اختيار نصوص ملاءمة للحالتين.

تجدر الإشارة أخيراً ، إلى أن بعض الباحثين من الأدباء ، توقفوا عند نظم الشيخ أمين الجندي لقدود صوفية ، سارت في حلب ، ودخلت عالم الغناء الدنيوي ، ليعتمدوا أن القدود الحلبية حمصية المنشأ ، ويتبعهم آخرون دون تمحيص ، وهذا طبعاً غير صحيح ، فالقدود الحلبية أصلاً ألحان سائرة بنصها العامي ذي الطبيعة الدنيوية ، و حتى لو كانوا قالوا بأن القدود ” الصوفية ” ذات أصل حمصي ، لكانوا جانبوا الصواب مجدداً ، إذ أن أساسها ، مطبقاً على الموشحات ، وُلد  في الأندلس ، مع ولادة ” الموشح المكفر ” ، كما ورد أعلاه ، ثم انتقل إلى دمشق ، مع الشيخ محي الدين بن عربي ، ليعتمده الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، مسقطاً إياه أيضاً على ألحان القدود الحلبية ، ليتبعه الشيخ عمر اليافي ، ثم الشيخ أمين الجندي ، وبين النابلسي والجندي مائة عام ، ولكان حرياً بنا بالتالي ، لمقاربة الواقع ، أن نقول بأن الوثائق الموجودة بين أيدينا  تنبئ بأن القدود الصوفية ، ذات أصل دمشقي ، نسبة للشيخ عبد الغني النابلسي ، بنيت على مبدأ أندلسي ، جرى تطويعه محلياً ، في دمشق ، ليستند إلى ألحان سائرة ، هي القدود الحلبية .. والله أعلم

صورة من ديون الشيخ النابلسي لموشح على عروض أغنية

صورة لليافي على عروض أغنية

صورة نص لليافي على عروض اغنية تركية

 الشكل الثالث  من أشكال التحريض.. ملحن يوظف لحنه القديم في مجال جديد..

يكون اللحن عادة ، أعز ما يكون، على قلب صاحبه أي الملحن، الذي تعب في صياغته ليكسو به نظماً ، قد تكون الظروف قد اضطرته للتصدي لتلحينه، فإن غابت تلك الظروف ،أمكن أن يحافظ عليه عبر نص جديد، كما يمكن أن يدفعه إلى ذلك ، ظهور مجال توظيف جديد، يمكن من خلاله تقديم اللحن نفسه بنظم آخر.

مثال على الحالة الأولى : ابن سريج في كتاب الأغاني  

يروي كتاب الأغاني ، أن إسحق الموصلي ، اختلف مع إبراهيم بن المهدي ، حول عدد أصوات ابن سريج. قال اسحق: لقد غنى ثمانية وستين صوتاً ، وقال ابن المهدي: ما تجاوز قط ثلاثة وستين .ثم جعلا ينشدان أشعار الصحيح منها حتى بلغا ثلاثة وستين ، وهما يتفقان على ذلك ،ثم أنشد إسحق بعد ذلك أشعار خمسة أصوات أيضاً ، فقال ابراهيم: صدقت، هذا من غنائه ، ولكن لحن هذا الصوت ، نقله من لحنه في الشعر الفلاني، وهكذا.. قال إبراهيم:كان ابن سريج رجلاً عاقلاً أديباً ، وكان يغني الناس بما يشتهون ،فلا يغنيهم صوتاً مدح به أعداءهم ولا صوتاً عليهم فيه عار أو غضاضة ، فيعدل الأشعار على الألحان نفسها.

مثال على الحالة الثانية : أبو خليل القباني

مثالنا هذا سينقلنا إلى عصر آخر.. إلى نهايات القرن التاسع عشر ، في الشام ، حيث كان يعيش ملحن آخر ، وضع ألحاناً ، لتلائم توظيف الغناء السائد ، ثم سعى ، هو نفسه ، لابتداع وظيفة جديدة، فلم يعد النص الأصلي يلائمها . استبدل بالنص القديم نصاً جديداً ، فأكسب لحنه استمراراً وحياة. لم يبق إلا أن نتعرف على الملحن الذي أبدع وظيفة جديدة للغناء العربي.. إنه الشيخ أحمد أبو خليل القباني.

كان القباني أعظم فناني عصره ..أتقن أولاً نظم الموشحات ونصوص الأغاني الشعبية ، وتلحينها ، وأداء رقص السماح ،وهو نوع من الحركة الإيقاعية المرافقة لغناء الموشحات . توجه القباني بعد ذلك ، وبتأثير من خيال الظل الشائع في ذلك الزمان، الى ابتداع المسرح الغنائي العربي ، حيث استطاع ، وبجهود فردية ،اتقان التمثيل،وتصميم الملابس ، وكتابة المسرحيات ، فوجه جهوده ومواهبه مجتمعة ، لدعم هذا المنبر الجديد للغناء،الذي تمازجت فيه،كما سعى ، الألحان الجميلة ،مع العبرة والموعظة الاجتماعية والدعوة إلى مكارم الأخلاق. وهكذا كان لابد من تغيير مضامين الأغنيات التي تغنى في مسرحياته ، والتي سبق له تلحينها ، لكي تتلاءم مع المواضيع التي يطرقها. لم يكن على القباني إلا أن يعدل النصوص بحيث تتلاءم مع ألحانه السائرة، أو مع ألحان أخرى أحبها الناس. كان من الممكن طبعاً أن يلجأ  دائماً إلى تلحينٍ جديد ، كما فعل في أقسام أخرى من مسرحياته ، ولكنه أراد الاستفادة من محبة مشاهدي مسرحه ، لتلك الألحان التي أحبوها ، فتجذبهم إليه ، في البداية، مما يساعده على الانتشار.

الشكل الرابع للتحريض..تعريب أو استبدال نص لحن جميل.. بدوافع مختلفة ..

الحالة الأولى:إعادة توظيف ألحان الشام والعراق القديمة لتتوافق مع الشعر العربي

كان الغناء العربي ،الذي نشأ في الجزيرة العربية ، في العقود السابقة لظهور الإسلام ، بسيط الألحان في بداياته،يعتمد على ترنم منغم بالشعر ، يؤديه الشاعر نفسه . وكان لظهور وظيفة المغني – الملحن المتخصصة ، أثره في دفع الملحن الجديد للبحث عن مصادر لحنية جديدة، تساعد على إثارة خياله الموسيقي. وبما أن الرحلات كانت وسيلة المثاقفة الوحيدة في ذلك العصر ، فقد سافر ابن مسجح و ابن محرز ، قطبا الغناء في بدايات العصر الأموي ، إلى الشمال العربي (الشام والعراق) ، الذي كان متطوراً في مجال الألحان ، نظراً لرقي الموسيقا في الحضارات العربية القديمة التي سكنته من جهة ، ولتأثره موسيقياً ، بالغناء البيزنطي والموسيقا الفارسية من جهة أخرى. قام الاثنان، كما روى كتاب الأغاني بالإطلاع على الألحان الشائعة هناك وأعادا بناءها لتتوافق مع بناء الشعر العربي.

الحالة الثانية:استبدال نص لحن جميل

يمكن هنا أن نورد ثلاثة أمثلة على هذه الحالة:

1- هارون الرشيد وأبو العتاهية:  ركب هارون الرشيد زورقه ذات يوم ، في نزهة على نهر دجلة، وراح البحارة يتغنون بلحن جميل يخففون به عناء التجديف الطويل. أعجب الرشيد باللحن ، ولكنه تأذى من لغة الملاحين الفاسدة، ومن المعاني العادية التي بني اللحن عليها.أراد الرشيد أن يعدل النظم ، فطلب إلى الفضل بن الربيع أن يكلف شاعراً بهذا ، فقال: أبو العتاهية هو الشاعر الوحيد القادر على أن ينظم على إيقاع اللحن. ولما كان أبو العتاهية في السجن ، فقد طلب الرشيد أن يقوم بالمطلوب ، دون وعد بإطلاق سراحه. وفعلاً نظم أبو العتاهية أبياتاً ، قصد منها إزعاج الرشيد ، لأنه لم يطلق سراحه ، مطلعها:

خانك الطرف الطموح          أيها القلب الجموح

 وعندما غنى الملاحون الشعر، بكى الرشيد تأثراً ، فلما رأى الفضل ذلك، أومأ إلى الملاحين، فسكتوا.

 2- سيد درويش والألحان الشامية:

أقام سيد درويش في شبابه الأول ، مدة طويلة في بلاد الشام ، اختلف الباحثون في تقديرها ، فمنهم من قال بأنها لم تتجاوز سنة ونصف ، ومنهم من أورد أنها وصلت إلى خمس سنوات . ما يهمنا هنا أن سيد درويش في مسرحه الغنائي ، استعان بألحان شامية ، غنيت بنظم جديد ، يلائم المسرحية التي غنيت فيها، وبلهجة شامية أحياناً  للدلالة على أصل اللحن ، كما قدم ألحاناً شامية بنص جديد ، في ذكرياته أثناء إقامته في سورية ، ومن ذلك لحنه : ونا مالي هي اللي قالتلي ، الذي بناه على اللحن الشامي : يا مال الشام. الأداء لبهية المحلاوية

<

3- الأخوان رحباني و تعريب الأغاني الأوربية :

اعتمد الرحابنة ، في بداياتهم ، التي اتسمت بظهور شاعريتهم قبل موهبتهم التلحينية، على تقديم أغنيات أوروبية سائرة بعد تعريبها ، وكذلك تعريب ألحان الأرجنتيني إدواردو بيانكو الذي عاش في بيروت لسنوات ، واشتهرت ألحانه على إيقاع التانغو ، وذلك عبر كتابة نص جديد لها ، لتغنيها السيدة فيروز .. لم يتوقف الرحابنة عن هذا الأسلوب ، حتى بعد تطورهم في مجال التلحين، ومن ذلك مثلاً توظيفهم للحن السمفونية 40 لموتزارت في أغنية ياأنا ياأنا.

الحالة الثالثة: تعريب الغناء البيزنطي .

تم في القرن التاسع عشر ، تعريب قسم كبير من الألحان البيزنطية ، المؤداة ضمن الطقوس الكنسية ، بحيث أصبحت تؤدى باللغة العربية . لم تكن هذه العملية سهلة ، كما أن نجاحها ليس مثبتاً ، نظراً لاعتماد الجملة اللحنية في الغناء البيزنطي على طول الكلمة المغناة ، دون أن ترتبط بإيقاعية اللفظ ، وهو أساس الغناء العربي ، ودون أن تشكل ، من خلال تتالي الجمل اللحنية ، إيقاعاً واضحاً منتظماً.

الشكل الخامس للتحريض ..‎الحاجة إلى حفظ الموسيقا الآلية..

كانت الموسيقا العربية ، التي وجدنا أنها كانت مرتبطة بالكلمة المغناة، تحفظ مشافهة في غالب الأحيان . كانت هذه الطريقة ممكنة مع الغناء، ولكنها ، في واقع الأمر لا تلائم الموسيقا الآلية.

عندما انتقل التراث الأندلسي إلى المغرب العربي بعد خروج العرب من الأندلس ، طرحت مشكلة حفظ المقاطع الآلية، أي التي تؤديها الآلات الموسيقية فقط ، ضمن النوبات الأندلسية . لم يجد الأشقاء المغاربة مجالاً لحفظ تلك الألحان، إلا عبر ( تعميرها بالكلام ) حيث ينظم نص يلائمها وتتحول إلى مقاطع غنائية ضمن النوبات ، ويطلق عليها في هذه الحالة تسميات خاصة للدلالة على العنصر المضاف إليها.

أشكال أخرى لتحريض إعادة توظيف الألحان القديمة…

يمكن أخيراً أن نعدد أشكالاً خاصة أخرى :

1-  التنافس بين المشاركين في سهرة غنائية ، على إضافة مقطع محلي اللهجة ، جديد في كل مرة ، يتكرر فيها اللحن نفسه ، ومن قبل مغن مختلف ، بغية إظهار القدرة على مقاربة معان جديدة أو التفاخر أو هجاء المنافسين، وهذه طريقة تلائم طبعاً الألحان الشعبية البسيطة ، وقد شاعت أساساً في أزجال أرياف بلاد الشام.

 2-  طرح أسلوب موسيقي جديد لتقديم الألحان القديمة ، وهي طريقة طبقها الرحبانيان ، في بداياتهما ، فاستعانا بألحان قديمة ، شعبية كانت أم من الموشحات ، لتقديمها بأسلوب خاص بهما ، بعد وضع نص جديد لها ، مستفيدين من صوت فيروز الاستثنائي ، في إكساب تلك الألحان القديمة حلّة جديدة.

3-  التعبير عن وحدة التراث العربي ، وذلك عبر إعادة توظيف لحن من منطقة عربية ، عبر تجريده من نصه الأصلي، وإلباسه نصاً ‎جديداً باللهجة العربية المحلية، كما فعل مطربون خليجيون مع التراث الغنائي اليمني ، أو كما فعل المطرب محمد عبده مثلاً في أغنية: لو وفيت ، إذ بني اللحن على لحن أبي خليل القباني : بالذي أسكر من عرف اللمى ، بكلمات جديدة خليجية. من الجدير بالذكر أن هذا الموشح تم إعادة توظيفه مرات عديدة .

 وصف مبسط لأسلوب صياغة النص الجديد للحن القديم ، يبين صعوبة الموضوع

يعتمد أسلوب الصياغة على توافق الموسيقا الداخلية في النصين القديم والجديد ، بما يساير إيقاع اللحن .. وهناك قاعدتان أساسيتان لإنجاح عملية الصياغة:

1-  يصاغ النص الجديد (على قد ) الإيقاع الموسيقي للحن الأصلي ، و و بنفس طول الجملة اللحنية المغناة ، المرتبطة بما يقابل المقطع الجديد من المقطع القديم.

2-  يراعى في النص الجديد أن تتتالى الأحرف بحيث يحافظ ما أمكن على موسيقا النص القديم الداخلية. فمثلاً إن كان هناك حرف صوتي في المقطع القديم يمد عنده اللحن ، فلا بد من تواجد حرف صوتي مماثل في النص الجديد ، ليحقق مد اللحن في الموقع نفسه.  وفي الواقع فإن أغلب حالات الاستبدال لا تحقق المطلوب.

سأطرح مثالاً هنا اخترته من القدود الحلبية ، حيث جاء النص القديم، الذي لايزال سائراً في الغناء الدنيوي ، بلهجته العامية ، ثم أنتقل إلى النص الأحدث ، كما صاغه الشيخ أمين الجندي شعراً لغايات الغناء الصوفي.

النص القديم:

 يا هويدالك يا هويدالي      نارك ولا جنة هلي

النص الجديد:

 قد لذَّ لي ياعذَّلي           حب الغزال الأكحل


لنعرض الموضوع على مستوى الكلمة الواحدة : من حيث الإيقاع اللغوي ، هناك توافق بين كلمتي : ( يَهْوَيْدَلَكْ ) و ( قَدْ لَذَّ لي ) ، فيما تُغنى كلمة يهويدلك  ، في ضرورة توافقها مع إيقاع اللحن أثناء أداء الإغنية ، بإضافة ألفٍ للمد بعد الدال كما يلي: يه وي دا لك ، ويقابلها في النص الجديد: قد لذ ذا لي ، بإضافة ألف مد بعد الذال ، وهناك مبدئياً توافق مقبول بين الكلمتين موسيقياً ، إن قبلنا أن تُلفظ ( قد لذّ لي ) على الشكل : ( قد لذ ذا لي  ) ، ما يفسد النص شعرياً!

يمكن الآن لزيادة الإيضاح ، أن أعطي مثالاً معاكساً ، في أبسط صورة ممكنة ، يبين التوافق بين النص القديم والجديد ، من حيث إيقاع الشعر  ، وفساده موسيقياً : لنأخذ الأغنية السائرة :   تحتِ هودجها وتعانقنا  وما يقابلها في النص المشهور على اللحن ذاته :  يا إمام الرسل يا سندي .


من ناحية الإيقاع الشعري هناك توافق مقبول ، وفق التالي:

تَحْ ْتِهو دَجْ ها – وُتْ عا نَقْ نا

يا إما مَرْ رُسْ – لِيا سَنَ دي

و يفسُدُ هذا التوافق أثناء الغناء ،  إذ يتبين أن مقابل ( ها ) حيث يمتد اللحن ، هو ( رُسْ ) حيث لا يمكن مد اللحن على ساكن ، ما يجبر المغني على إضافة واو مدٍ بين الراء والسين ، لتصبح ( روس ) ما يفسد اللفظ تماماً ! يمكن متابعة ذلك ، من خلال التسجيل المرفق للأغنيتين متتاليتين ، بصوت الأستاذ صباح فخري

وهنا ملاحظة هامة ، إذ أن هذا الفساد في اللفظ ، في النسخة المغناة شعراً ، يثبت أن الأصل هو اللحن الدنيوي ، الذي يتوافق فيه النص مع اللحن ، في مدوده ،  و أن النص الشعري الصوفي ، جاء لاحقاً ، على عكس الشائع ، في دراساتٍ لباحثين كبار ، درسوا الموضوع من الناحية الشعرية فقط ، دون أن يلقوا بالاً إلى الناحية الموسيقية !

 الظاهرة مستمرة في الغناء المرتبط بطقوس التصوف والغناء الشعبي.

الملاحظ أن ظاهرة إعادة توظيف الألحان كانت شائعة في فترة سبقت القرن العشرين. وأعتقد أن السبب كان يكمن في ندرة الملحنين في تلك الفترة ، مقابل وفرة الشعراء و ناظمي كلمات الأغاني .  وفي الواقع ، لو عدنا لاستعراض أشكال تحريض إعادة توظيف الألحان ، لوجدنا أنها تمثلت أساساً في مجالات افتقدت الملحن المبدع ، وهذا ما نلاحظه في أجواء طقوس التصوف ، حيث ينقل لنا تاريخه ، شهرة العديد من المنشدين ذوي الصوت الجميل ، والذين عرفوا بحفظهم لمئات التواشيح والقصائد ، دون أن يؤكد على مصدر الألحان أو ملحنيها ، بل يكتفي بذكر مطلع الموشح الدنيوي ، أو القد الذي جاء النص الجديد متوافقاً مع لحنه. يمكن ملاحظة استمرار أسلوب توظيف الألحان ، في عالم التصوف ، حتى أيامنا هذه ، في سورية على الأقل، حيث درجت العادة على وضع نصوص جديدة لأغلب الأغاني السائرة ، من ألحان مشاهير الملحنين كالأستاذ محمد عبد الوهاب أو الشيخ زكريا أحمد أو الشيخ أحمد أبي خليل القباني، حيث يتم إدراجها ضمن وصلات التواشيح الصوفية ، حسب مقامها الموسيقي وحيوية إيقاعها ، ما يؤكد مرة اخرى ، ومن خلال استمرارية هذا النهج ، على أن الأصل في القدود ، هو اللحن الدنيوي ، الذي يصار إلى توظيفه ، من خلال إلباسه نصاً جديداً ، لغايات طقوس التصوف والإنشاد الديني.

 تبقى الملاحظة نفسها ، حول استمرار ظاهرة إعادة توظيف الألحان ، صالحة في عالم الغناء الشعبي والريفي ، إذ يتم إضافة مقاطع غنائية جديدة ، تتلاءم مع اللحن ، دون إلغاء المقاطع القديمة ، وقد نجد اللحن نفسه يغنى في مدن مختلفة، بنظم مختلف ، كما في الدلعونا وع الياي ..

غياب مؤقت في الغناء الدنيوي إلى حين

غاب أسلوب إعادة توظيف الألحان عن أجواء الغناء الدنيوي ، في فترة نهضة الموسيقى العربية المعاصرة ، بقوالبها الغنائية المعروفة والمتقنة ، كالموشح والدور والقصيدة والمونولوج الرومانسية والحواريات ، وذلك ابتداء من بدايات القرن العشرين، مع وجودها ضمن أجواء الغناء نفسه في عصور سابقة. أعتقد أن هذا يعود إلى أن مجالات توظيف الغناء في الفترات الماضية ، والتي امتدت منذ الفترة التي حل فيها الضعف بالدولة العباسية ، وحتى نهاية القرن التاسع عشر ، كانت محكومة بمجال واحد ، في الغالب ، وهو السهرة الغنائية . في تلك السهرة ، كان من الممكن تقديم أعمال قديمة أو جديدة ،دون أي تحريض محدد لتقديم الجديد، بينما لم يكن هذا ممكناً ،‎ أيام كان المجال الأهم لتوظيف الغناء ، يتجسد في أدائه في حضرة الخليفة، الذي كان يطلب في كل ليلة ، كما هو معروف، (أصواتاً جديدة) ، مما ساعد على تنشيط ظهور طبقة من الملحنين الكبار ، وثق لهم كتاب الأغاني ، ووثق للأصوات ( الأغاني ) كثيرة العدد ، التي أنتجتها عبقرياتهم التلحينية .

اعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر، تشكلت حالة مشابهة حرضت تقديم الجديد ، حيث ظهر المسرح الغنائي ، ثم ظهرت الأسطوانة، وتبعتها السينما والإذاعة والأغنية المؤداة على المسرح .. وهي مجالات تتطلب أعمالاً غنائية جديدة باستمرار ، يصعب تصور حاجتها إلى أسلوب إعادة توظيف الألحان ، إضافة إلى أن حقوق التأليف والتلحين، أصبحت محفوظة بالقانون ، للملحن والشاعر، ولورثتهما بعد الوفاة ، وتقابل نسبة من عائد بيع النسخ المطبوعة . تسبب هذا كله ، في ظهور طبقة مشابهة من كبار الملحنين ، للطبقة التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي ، توثق لها ، ولنتاجها ،عشرات الكتب.

 يمكن القول إذاً ، بأن ظهور أو غياب أسلوب توظيف الألحان ، مرتبط بوجود الملحن المتميز أو غيابه ، مع الإشارة إلى أن ظهوره كان دوماً مرتبطاً بنشاط السوق الغنائية ،وتعدد مجالات توظيف الناتج الغنائي الجديد.

عودة مستترة!

لابد من الإشارة أخيراً ، إلى سيطرة أسلوب مستتر لإعادة توظيف الألحان ، في غناء اليوم ، وهو إعادة توظيف أجزاء من ألحان سابقة شائعة ، بسيطة على الغالب ، مع إخفاء الأصل ما أمكن ، من خلال الاقتباس أو التوليد ، مع وضع كلمات جديدة ، تفتقد الأبعاد الفنية الجمالية والتعبيرية ، وهو ما أودى بالغناء العربي إلى الوقوع في هاويةٍ من التسطيح و الضعف ، قد يستلزم الأمر مرور مدة طويلة ، قبل أن يخرج منها.. إن خرج!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.