آلة الأكورديون في الموسيقى العربية : متى وكيف وأين تم تطويعها لتنفيذ المقامات الموسيقية الشرقية للمرة الأولى؟

شعار كتاب الأغاني الثاني
في المقال التالي نتعرف على آلة الأكورديون ،  و نستعرض بداياتها في عالم الموسيقى العربية ، وفق بنائها الأساسي ، ثم ندقق في محاولات تطويعها الأولى ، لتنفيذ المقامات الموسيقية الشرقية.

الأكـورديون

يرجع تاريخ آلة ( الأكورديون ) إلى منتصف القرن التاسع عشر، وهي آلة ذات منفاخ، تحدث الأصوات فيها عن طريق مرور تيار هوائي، يمر على رِيَش رقيقة معدنية مختلفة الطول، فيسبب اهتزازها إصدار أصوات مختلفة.

يجهز الأكورديون في الجهة اليمنى بلوحة تشبه لوحة مفاتيح ( ملامس ) آلة البيانو، يبلغ عددها في آلة الأكورديون الأكبر حجماً 34 ملمساً ( ثلاثة دواوين موسيقية ) ، منها 20 من الملامس البيضاء التي تعطي الأصوات الأساسية في السلم الموسيقي ، و 14 من الملامس السوداء التي تعطي الأصوات الموسيقية المعبرة عن أنصاف الأبعاد الموسيقية ، و تخصص الملامس في اللوحة اليمنى لأداء اللحن الرئيسي ، حيث يتسبب الضغط على أي مفتاح منها في إصدار الصوت الموسيقي المطلوب.
تُعلَّق الآلة أثناء العزف على كتفي العازف بحاملين من الجلد، كما تختّص اليد اليسرى بحامل آخر من الجلد، يضمن لها أن تظل دائماً قادرة على تحريك المنفاخ لتأمين التيار الهوائي المستمر، فيما تستعمل أصابع اليد اليسرى للضغط على أزرار متوضعة في القسم الأيسر من الأكورديون، تسهم في إحداث نغمات متوافقة تصاحب اللحن الذي يُؤدّى ، عبرالضغط على مفاتيح اللوحة اليمنى ، كما تسهم أحياناً في إعطاء إيقاع اللحن.

الأكورديون من الداخل وطريقة إصدار الأصوات

يوضح الشكل طريقة إصدار الأصوات . يبين الشكل  أعلاه الحالة الساكنة ويبين الشكل في الوسط حالة ضغط الهواء المتجه للأسفل عند فتح المنفاخ فيدخل الهواء من الفتحة الأولى ما يتسبب في اهتزاز الصفيحة أما الشكل إلى اليمين فيبين حالة اتجاه الهواء المعاكسة لدى إغلاق المنفاخ

تبين الصورة المنشورة إلى يسار النص ، طريقة دخول الهواء ، بالاتجاهين ، حسب اتجاه حركة اليد اليسرى وفتح منفاخ الهواء. لدى الضغط على أحد الملامس البيضاء أو السوداء ، باليد اليمنى ، وفتح المنفاخ باليد اليسرى ، يمر الهواء ، عبر فتحات صغيرة ، ويضغط على صفيحات معدنية صغيرة ، لفتح مسار له ، فتهتز تلك الصفيحات ، وينتج عن الاهتزاز إصدار الصوت المطلوب . تختلف أبعاد الصفيحات ، و اتساعات الفتحات ، حسب الأصوات اللازم إصدارها.

لا تستطيع آلة الأكورديون وفق بنائها الموصوف أعلاه ، تنفيذ الأصوات الموسيقية المبنية على أرباع الأصوات ، واللازمة لتنفيذ المقامات الموسيقية الشرقية ، نظراً لأن الفتحات والصفيحات ،  بنيت حسب السلم الغربي المعدل.


الأكورديون في الموسيقى العربية
استخدم محمد عبد الوهاب الأكورديون ، بشكله الأساسي ، لأول مرة في عام 1932 في ” مريت على بيت الحبايب “، وتبعه فريد الأطرش، وبخاصة في أغلب المقاطع المغناة على إيقاع التانغو.

كانت الأدبيات الموسيقية تُجمع ، على أن تطويع آلة الأكورديون ، لتنفذ المقامات الموسيقية الشرقية ، كان أولاً : على يد محمد عبد الوهاب ، في المقدمة الموسيقية للغصن الثاني في أغنية ( هان الود – على مقام البيات ) عام 1962 ، إذ تم تعديل الصوت الصادر عن أحد الملامس فيه ، وفق ما سأشرحه أدناه ، ليؤدي مقام البيات الشرقي المعتمد على ربع الصوت ، بسبب عدم قدرة الأكورديون في شكله الأصلي ، على أداء المقامات الشرقية ذوات أرباع الأصوات ،  و يمكن متابعة المقطع الموسيقي ، الذي جاء فيه الأكورديون المعدل ، في التسجيل التالي ، عند الدقيقة 4:13 منه


وثانياً : على يد بليغ حمدي مع أم كلثوم ، في المقدمة الموسيقية لأغنية ( سيرة الحب – مقام راحة الأرواح ) عام 1964 ، بعد إدخال تعديل مماثل ، مع ملاحظة أن دور الأكورديون هنا ، كان أوضح من دوره في هان الود.


أسلوب التعديل

يتم تعديل الصوت من خلال تعديل أبعاد الصفيحة الخاصة بذلك الصوت ، أو تثقيلها ،  ليتغير الصوت الصادر عنها ، وفق ما تم شرحه أعلاه ، علماً بأن التعديل يتم كل مرة لأحد الأصوات ، بإلغاء الصوت الأصلي ، واستبداله بصوت معدل ،  حسب المقام المطلوب تنفيذه ، و يتم تعيير التعديل بالمقارنة مع صوت صادر عن آلة القانون ، ويستمر تجريب التثقيل حتى يتطابق الصوتان ، و بالنتيجة يختفي  الصوت الأساسي  ويحل محله الصوت المعدل ، أي أن أي تعديل لأحد الأصوات في الأكورديون ، يصبح دائماً ، ما يجعل من المستحيل ، العودة إلى أداء الصوت الأصلي للملمس ، الذي تم تعديله ، مرة أخرى ، إلا بتعديله مجدداً.

ولكن هذا التعديلات في الأكورديون لم تكن الأولى ، إذ كانت هناك محاولة سبقت ذلك بسنوات ، من قبل الأخوين رحباني ، رصدتها أثناء دراستي لحياة وفن السيدة فيروز ، و كانت تلك المحاولة  تحديداً في عام 1957 .


الأكورديون عند الأخوين رحباني

اعتمد  الأخوان رحباني الأكورديون آلة رئيسية في فرقتهما الموسيقية ، منذ أن برزت في الأغاني المعربة التي غنتها فيروز في بداية الخمسينات ، من ألحان ادواردو بيانكو ، على إيقاع التانغو ، و كذلك في الأنشودات الوطنية ، من ألحان الأخوين فليفل ، ثم الأخوين رحباني ، التي سجلت لحساب إذاعة دمشق ، بداية الخمسينات ، فأعطياها دور الآلة التي تعطي الطابع المميز لفرقتهما ، لفترة طويلة.

لنأت الآن إلى نقطة هامة ، تتصل بالنقلات المفصلية في تاريخ الموسيقى العربية ، إذ أدى الأكورديون في أغنية مروج السندس لفيروز ،  التي سُجلت عام 1957 ، و لأول مرة في الموسيقى العربية ،  درجة صوتية تتشكل من ثلاثة أرباع الصوت ، وذلك في الدقيقة 1:20 من التسجيل ، أي في بداية المسمع الثاني ، إذ تم تعديل الصوت الصادر عن أحد الملامس في الأكورديون ، ليؤدي درحة سي نصف بيمول ، وهي درجة استقرار مقام الهزام الشرقي مصوراً عليها ، بسبب عدم قدرة الأكورديون في شكله الأصلي ، على أداء المقامات الشرقية ذوات أرباع الأصوات ، كما أسلفتُ ، فيما يمكن عدُّه سبقاً للأخوين رحباني.


ملاحظة للموسيقيين : مرَّ اللحن على درجة لا دييز عبر الأكورديون ، وكان الأصح لا نصف دييز ، لإبراز مقام السيكاه الأصلي في موقع تصويره ، ولكن هذا كان سيتطلب تعديل صوت ثانٍ في الأكورديون .. وهو ما لم يتم!

يمكن التوقف أيضاً عند استخدام الأخوين رحباني للأكورديون المعدل مرة أخرى في الستينات ، و في الفترة الزمنية ذاتها التي ظهر فيها في مصر ، وذلك في أغنية ع اليادي يام العبيدية لفيروز  ، على مقام البيات ( المحيَّر ).

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.