يا أمير الحسن مين قدك في حسنك : عندما استطاع محمد الموجي تجاوز امتحان صعب!

شعار كتاب الأغاني الثاني

شكَّل  فيلم ” ألمظ وعبده الحمولي ” الذي عُرض عام 1962 ، من إنتاج و إخراج حلمي رفلة ،  حدثاً غير مسبوق في تاريخ السينما الغنائية ،  إذ أنه جمع ، ولأسباب تتصل بالدعم الذي حصلت عليه السيدة وردة الجزائرية في بداياتها في مصر ، بعد اكتشافها في سورية ، كبار ملحني مصر ، المخضرمان :  محمد عبد الوهاب  و فريد الأطرش ، والشباب : بليغ حمدي و محمد الموجي و كمال الطويل و علي اسماعيل.

أسلط الضوء في هذا المقال على كلٍ من  ألمظ ، وعبده الحمولي  ، وعلى الفيلم ، من الناحية الموسيقية ، قبل أن أركز على إحدى أغنياته :   يا أمير الحسن مين قدك في حسنك من ألحان محمد الموجي ، و المشكلة التي واجهها الموجي في هذا اللحن ، والتي تجسدت في  أن صوت عبده الحمولي ، كما وصفته أدبيات الموسيقى العربية ، كان صوتاً ساحراً قادراً واسع المساحة ، فيما لم يتمتع  صوت عادل مأمون، الذي أدى دوره في الفيلم تمثيلاً وغناءً ،  بأي صفة من هذه الصفات ، ما جعل اختياره لبطولة الفيلم غير موفق..

وردة الجزائرية وعادل مأمون في فيلم ألمظ

فيلم ألمظ وعبده الحمولي

تدور أحداث الفيلم في نهاية القرن التاسع عشر في القاهرة أيام الخديوي اسماعيل،  ويروي العلاقة العاطفية  التي ربطت بين أهم صوتين في مصر في نهايات القرن التاسع عشر، عبده الحمولي و ألمظ ، والتي انتهت بالزواج ، رغم معارضة الخديوي.
كان عبده الحمولي ، الذي عاش بين عامي 1836 و 1901 ، قد شكل الجسر الحقيقي ، بين غناء حلب المختزِن للتراث الموسيقي العربي في العصور العربية الوسيطة ، و غناء القاهرة المستجد ، إذ كان تعرف إلى شاكر أفندي الحلبي ، الذي سافر من حلب إلى مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر،  خلال حملة ابراهيم باشا إلى سورية ، وهو أحد أهم حفظة الموشحات في حلب ، فدرس على يديه أصول الغناء،  ثم اشتهر لجمال صوته وسعة مساحته ، فعمل في فرقة الشيخ أحمد أبو خليل القباني المسرحية،  فذاع صيته ، إلى أن فتح الخديوي اسماعيل أبواب قصره .. أما ألمظ فمطربة مصرية عاشت بين 1860 و 1896 ، واسمها الأصلي سكينة ، ولكنها لقبت بألمظ لجمال صوتها ( من الألماس بالعامية المصرية ).

البطولة
كان الفيلم من بطولة المطربة الصاعدة بقوة آنذاك وردة الجزائرية،  التي قامت بدور ألمظ في الفيلم،  فيما قام عادل مأمون بدور عبده الحمولي ، وإذا كان اختيار وردة لدور ألمظ مقبولاً ، فقد كان اختيار عادل مأمون لدور عبده الحمولي مثيراً للاستغراب ، نظراً لمساحة صوته المتواضعة ، وطبيعة أدائه  البعيدة كل البعد عن عالم الطرب ، وهو ما وضع الملحنَين كمال الطويل ومحمد الموجي أمام اختبار صعب،  إذ أنهما كلفا بالتلحين له ، فيما أعطيت لعبد الوهاب وفريد وبليغ ألحان وردة ، التي كان صوتها يتفوق بمراحل على صوت عادل مأمون ، مما أضعف إمكانيات الطويل والموجي في تلك المواجهة غير المسبوقة بين الملحنين.

الأغاني
كتب صالح جودت كلمات الأغاني ، و لحن لوردة كل من محمد عبد الوهاب:  اسأل دموع عينيَّ   ، وفريد الأطرش : روحي وروحك حبايب ، و بليغ حمدي :  يا نخلتين في العلالي ، فيما غنى عادل مأمون أغنيتين في الفيلم : يا للي سامعني من ألحان كمال الطويل ،  و يا أمير الحسن مين قدك في حسنك من ألحان لمحمد الموجي ، في إشارة واضحة إلى تفضيل وردة ، حيث سُمح لبليغ أن يلحن لها ، إلى جانب عبد الوهاب وفريد ، لأنه سبق ولحن لأم كلثوم ، فيما خصص لعادل مأمون ملحنان لم يسبق لهما تلحين أغان عاطفية لأم كلثوم ، وكانا من مجموعة الملحنين المحيطة بعبد الحليم حافظ.   لحن علي اسماعيل أنشودة : غني يا مصر، التي غناها كل من وردة وعادل مأمون في الفيلم . اللافت كان استبعاد رياض السنباطي ، وربما كان هو من رفض ، مراعاة لأم كلثوم ، أو هي من رفضت ، إذ كان ملحنها الأثير في تلك الفترة..

سأتوقف اليوم عند لحن محمد الموجي : يا أمير الحسن مين قدك في حسنك.

اللحن

جاء اللحن على مقام النهاوند ، وعلى  قالب الطقطوقة التقليدية ، المكون من لحنين ، أولهما يكرره المذهبجية  ( الكورس )و له نص متكرر  ، ولنسمه اللحن أ ، يتناوب مع لحن ثان للمطرب  ولنسمه اللحن  ب ، يتكرر مع تغيير النص في أغصان الأغنية ، بحيث يتشكل مسار اللحن من التناوب أب أب أب .. . طبعاً هذا القالب مشكوك في صحة توظيفه في هذا اللحن  وغيره من ألحان أغاني الفيلم من الناحية التاريخية ، إذ أن عبده الحمولي عاش  في نهاية القرن التاسع عشر ، والمفروض أن قالب الطقطوقة الموصوف ،  لم يُعرف إلا في القرن العشرين ، فيما كان القالب المعروف للطقطوقة في القرن التاسع عشر بدائياً ، يعتمد لحناً واحداً متكرراً للمذهبجية وللمطرب .. ولكن المشكلة ليست هنا .

خيار غير موفق!
المشكلة التي واجهها الموجي في هذا اللحن كما أسلفت ،  أن صوت عبده الحمولي ، كما وصفته أدبيات الموسيقى العربية ، كان صوتاً ساحراً قادراً واسع المساحة ، فيما لم يتمتع  صوت عادل مأمون بأي صفة من هذه الصفات ، ما جعل اختياره لبطولة الفيلم غير موفق ، ولو كان تم اختيار كارم محمود مثلاً لأداء الدور، لكان اللحن مختلفاً تماماً ، ولكنه كان طرح مسألة التنافس بين وردة وكارم ، وهو ما لم يكن منتجو الفيلم يرضون به ، في سعيهم لإطلاق وردة الجزائرية في عالم الغناء ، لا لوضعها في أي مجال للتنافس.
تسبب هذا الواقع في تقييد اللحن المخصص للمطرب في منطقة الأصوات المتوسطة ، وهي المنطقة التي يستطيع صوت عادل مأمون أن يؤديها بشكل مقبول نسبياً ، فيما قد يختل أداؤه إن لامس منطقة الأصوت الحادة .. ما تعارض مع ضرورة أن يكون اللحن لامعاً حيوياً لمقاربة ما يُعرف عن عبده الحمولي .. و وضع الملحن في مواجهة امتحان صعب ..

الحل!
لم يجد الموجي إلا أن يعتمد على المذهبجية في إضفاء الحيوية على لحنه ، من خلال تضمين لحنهم : أ ، إيقاعية أوضح ، وقفزات لحنية مفاجئة ، ما رفع إمكانيات المقارنة بين لحنه و ألحان الآخرين في الفيلم ، بغض النظر عن أداء عادل مأمون وهكذا كان .. فإن تتبعنا الأغنية سنرى أن اللحظات الحيوية فيها كانت في لحن المذهبجية المتكرر ، أما غناء عادل مأمون فكان هادئاً وبعيداً كل البعد عما يمكن أن نتصوره لأداء عبده الحمولي.. ومع ذلك ، وعبر توظيف المذهبجية ، استطاع الموجي  تجاوز ذلك الامتحان الصعب..
طبعاً الفيلم انتُقد كثيراً لأنه اعتمد على ألحان جديدة ، ولم يوثق لأغاني عبده الحمولي وما كانت تغنيه ألمظ فعلاً ، وهذه أيضاً مسألة أخرى.. قد أتوقف عندها في أحاديث لاحقة.. أما دور حلب ودمشق في إطلاق وردة الجزائرية في عالم الغناء عام 1960، كما أشرت في بداية حديثي ،  ما تسبب في أن تُفتح لها الطرق إلى القاهرة بسرعة ، فيُعدل تسجيل مغناة ” الوطن الأكبر ” الشهيرة ، ليضاف مقطع خاص لها .. فلذلك حديث آخر ..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.