أسمهان: الهوية، الفرص، التهديدات، الوريث الذي لم يأتِ، التأثير الطاغي، نفي الخيانة.. ورحيلٌ قسري!

السينما.. تهديد.. وفرصة

لابد أنها ستصل.. وتذكرت تجربة مماثلة..لأن زوجها حسن الأطرش لم يطلِّقها، عندما تركته لأول مرة في عام 1938 وغادرت إلى القاهرة، بعد أن ثبت لديها في ذلك الوقت أنها لن تكون قادرة على الإنجاب مجدداً.. فغنت في الإذاعة، والحفلات الخاصة، و لكنه أقدم على ذلك عندما علم أنها تصور فيلماً، سيصل إلى سورية وسيشاهده الأهل والشعب، فيما ولَّد له تهديداً كبيراً…
صحيح أنها سعت هي إلى ذلك، لقد سعت للطلاق، ولكنها لاشك كانت في قرارة نفسها تتمنى ألا يحصل، هي في صراع، تريد أن تحرره منها، ولكنها تتمسك برباطٍ واهٍ بينهما، هو عقد الزواج. ولكنه طلَّقها، لأنه لن يستطيع أن يتحمل رؤيتها تغني في السينما.
ولعلها راحت تفكر مجدداً.. كانت السينما إذاً تهديداً لها، ولكنها بالمقابل، وكما هي العادة، كانت فرصة لها في الغناء، كانت السينما فرصتها الأبرز في مصر، فهي ليست بحاجة للغناء أمام الناس مباشرة، كما في الحفلات الخاصة، كما أن السينما كانت تقدم لها الشهرة والمال. لقد كان من حظها أن السينما قدمت، إضافات كثيرة على الغناء العربي، عبر ملامح جديدة للأغنية السينمائية.
كان ذلك، عندما سعى مخرجو الأفلام، إلى تقديم قصص تعبر عن روح العصر، كما أسهمت الدراما التي تبنى عليها قصص الأفلام، في تطوير التعبير الدرامي في الغناء، حيث أصبحت الأغنية جزءاً من التعبير الدرامي، عن أحداث الفيلم. لقد لاحظت كيف أرسى محمد عبد الوهاب ملامح الأغنية السينمائية، اعتباراً من فيلمه الأول “الوردة البيضاء “، من خلال المونولوجات الوجدانية الرومنسية، والحواريات والأغاني التعبيرية، وتابعت كيف عالج شقيقها فريد في فيلم “انتصار الشباب ” مسألة وجود جمهورين مختلفين من مشاهدي السينما، جمهور الطرب وجمهور الحداثة،حين حفل الفيلم بمختلف الأشكال والقوالب والعناصر المتضادة والمنسجمة في آن واحد.
ومع هذا.. ففي السينما..بقي دور الأغنية الأساسي تعبيرياً، على الرغم من أن أنجح الأغنيات هي ما حققت التطريب والتعبير معاً، وهما لا يتناقضان بالضرورة؛ لقد فهمت أن هذا كان استمراراً للتعبير في المسرح الغنائي الذي طوره سيد درويش في مصر، وتبعه فيه زكريا أحمد، فعزز ظهور السينما الحاجة إلى ظهور التعبير، والتمثيل، والمحاورة، كما فرض الإيقاع السينمائي والمضمون الاجتماعي عناصرهما على ملحن الأغنية السينمائية.
لاشك في أن أسمهان تذكرت هنا كيف تعبت وشقيقها فريد في إقناع المنتجين بأن قصة فيلم “انتصار الشباب ” ناجحة، حتى اقتنع جبرائيل تلحمي صاحب شركة أفلام النيل بذلك، فقبضت هي وشقيقها 3000 جنيه عن الفيلم، وحققت من خلاله فرصة لشقيقها فريد، لكي يلحن، ويغني إلى جانبها، وهذا أيضاً شيء مهم، أن تساعد أخاها، وأن تفتح له الطريق.. و هكذا.. مرة أخرى.. شكلت السينما ثنائية متضادة.. فيها المال، وفيها التهديد المباشر لها أمام أسرتها، حين أوصلتها إلى الطلاق.. السينما في عام 1944 كانت فرصة جديدة لها. كانت هربت من سورية للمرة الأخيرة، وكانت في القدس ليس معها مال، فتأتيها فرصة السينما، وعقد لفيلم جديد، فتطلب بكبريائها 13 ألف جنيه لها فقط!
ولعلها راحت تبتسم وهي تشاهد ملامح من كان يفاوضها.. فالمبلغ خيالي، وهي تعلم أنه سيدفع لها، وكيف لا يدفع وهي الأميرة في قومها، ولها تاريخ سياسي معروف، وزوجها كان عضواً في الحكومة السورية… فتظهر الأسرة مجدداً في ثنائية الفرصة والتهديد.. هربت من أسرتها لأنها اتهمتها بالخيانة، وحصلت على عقد بقيمة خيالية، بسبب أسرتها ومكانتها. لاشك أن صوتها له دور في ذلك، ولكن تاريخها ودورها في الحرب العالمية الثانية وفر لها هذا الأجر الخيالي عن فيلم “غرام وانتقام ” . لقد كانت تعلم أن نور الهدى تقاضت 300 جنيه عن فيلم جوهرة! ورغم نجاح الفيلم، فقد سمعت أن أجر نور الهدى ارتفع إلى 5000 جنيه في الفيلم الجديد “برلنتي ” الذي ستبدأ تصويره قريباً، وهناك فرق كبير وواضح في الأجور، يبين أن ما قُدم لها لم يكن فقط بسبب صوتها، بل بسبب تاريخها، وهي كانت تعلم ذلك، واستغلته بذكاء.. للأعلى

محمد القصبجي..

وتتساءل أسمهان.. هل يعقل أنها كانت هي بحد ذاتها تهديداً لأحد..؟ لاشك في ذلك، لقد أقبل عليها محمد القصبجي عندما عادت في عام 1938 إلى القاهرة، وقدم لها الأغنيات، وصولاً إلى أهم أغانيها على الإطلاق، مونولوج ” ياطيور ” ، فكانت هي فرصةً للقصبجي، لكي يطرح آراءه الموسيقية، ولكنها تحولت لتكون له تهديداً نهائياً، عندما تحول إلى عازف على العود فقط في فرقة أم كلثوم، ولم يعد التلحين متاحاً له، بعد أن ارتكب هذه الغلطة الكبيرة، بتقديم ألحان تخلِّد من يغنيها باقتدار. للأعلى

فريد..

لاشك أنها كانت فرصة لشقيقها أيضاً، فتحت أمامه أبواب السينما؛ كان قد قدم الأسطوانات، وحقق شهرة، وكان يغني في الإذاعات الأهلية، يعزف على العود، ولكن صوتها فتح أمام ألحانه المجال، وكان فيلم “انتصار الشباب ” فاتحة تلك الفرص، ففيه غنى وقدم ألحانه بصوتها، وعندما عادت في عام 1944 ، لحن لها إلى جانب الكبار. وهكذا أصبح ملحناً له مكانة مماثلة لمكانتهم. ولاشك أن أسمهان سرحت بأفكارها هنا، لأنها كانت قلقة على مستقبل فريد، وتتساءل كيف سيستمر، هي كانت له فرصة، لكنها دائماً في سفرها لفترات طويلة كانت تجعل من هذه الفرص فرصاً غير مستدامة، ليست نهائية، كان عليه ألا يستكين إليها، فهل سيستمر في نجاحاته وهي بعيدة عنه في تنافسه مع محمد عبد الوهاب والآخرين! للأعلى

محمد عبد الوهاب.. والسنباطي

محمد التابعي وأم كلثوم ومصطفى أمين محمد عبد الوهاب

محمد عبد الوهاب!.. إنها على قناعة بأنها لم تشكل له إلا فرصة عابرة في أوبريت قيس وليلى؛ لعلها لا تزال تذكر كيف جلس صديقه التابعي وهي تقابل عبد الوهاب لأول مرة ، كان ينظر إليها باستعلاء و لا يلقي بالاً لصوتها ، وبقي على مدى سنين على هذه الحال! لاشك في أن موقفه من صوتها كان بسبب علاقته المميزة مع أم كلثوم!

صحيح أن أوبريت قيس وليلى كانت فرصة نادرة لها ولعبد الوهاب، سواء لإبراز قدرتها في الأداء التعبيري الدرامي، أو قدرته في صياغة ألحان ذات طابع جديد تماماً.. ولكنها كانت له على كل حال فرصة عابرة، ففي تلك الفترة كان عبد الوهاب لا يزال يقاوم التغيرات الطارئة على طبيعة صوته الساحر ، وبالتالي هو استعان بها كما كان يستعين بالمغنيات الأخريات لدعم موقفه، لكنه معها، و أمام صوتها الساحر، لعله لم يكن يريد أن يستمر في ثنائيات… ففي تلك الفترة.. كان هو الذي يتولى المواجهة أمام صوت أم كلثوم.. وبالتالي هي لم تكن له فرصة دائمة له بل كانت فرصة عابرة.. ولكن من يعلم؟ لقد كانت تلاحظ أن طبيعة صوته تتغير ، وعندما سينتقل إلى صف الملحنين، ألن تكون هي فرصة حقيقية له لإبراز ألحانه؟ المهم.. الآن هي فرصة عابرة.. وكذلك كانت للسنباطي، فهو يعلم أن أسلوبه في التلحين يقتضي أن تكون فرصته الرئيسية مع أم كلثوم، لقد استعان بها ليقدم أشياء يمكن أن تثير أم كلثوم، ولكن ليس إلى الدرجة التي تثير غضبها، مثلما فعل القصبجي. للأعلى

حرب الإذاعات..

وتذكرتْ قصيدة “يا لعينيك ” التي سجلتها لصالح إذاعة لندن من ألحان السنباطي.. كانت الحرب محتدمة في تلك الفترة من عام 1940 .. وليست كما هي الآن في منتصف تموز عام 1944 .. حيث استقرت الأحوال في مصر وسورية.. وأصبح العبء الأساسي للحرب يدور في أوربا.. و لا شك في أن أسمهان تذكرت هنا علاقتها مع البريطانيين، التي بدأت، بخلاف تقاطعاتها معهم كأشخاص، في الحفلات الخاصة التي كانت حضرها، عندما سجلت بعض الأغنيات لصالح إذاعة لندن، في إطار ما سمي حرب الإذاعات.
لقد شكلت الإذاعة، خلال الحرب العالمية الثانية، فرصة لها. كان ذلك عندما اكتسبت الإذاعة مكانة أوسع، لأنها كانت تقدم أخبار المعارك؛ ولما كانت كل إذاعة من الإذاعات الناطقة بالعربية، تقدم تلك الأخبار بما يلائم مصلحتها، فيما سمي حرب الإذاعات، سواء كانت إذاعة لندن، أو إذاعة باري الإيطالية، أو الإذاعة الألمانية، فقد أصبحت كل إذاعة بحاجة إلى اجتذاب المزيد من المستمعين إليها، على حساب الإذاعات الأخرى، من خلال تنويع برامجها، وتقديم ما يجتذب المستمع العربي إليها، ما أعطى للغناء أهمية عامة، ولها بالتالي، أهمية خاصة.
تذكرت أسمهان، ما كان يقال عن أن وكلاء الإذاعات الألمانية والإيطالية كانوا يجمعون أسطونات كبار الفنانين تمهيداً لاستخدامها في الحرب الدعائية عبر الإذاعات. كانت إذاعة باري تعتمد على صوت محمد عبد الوهاب، وطبعاً إذاعة لندن سعت لعبد الوهاب أيضاً، وسعت لكي تقدم أعمالاً غنائية لكبار المطربين في إنتاج حصري لها، وعقدت اتفاقات مع إذاعة القاهرة، لكي تنقل عنها تلاوة القرآن للمقرئين الكبار؛ ونظراً لأن البريطانيين كانوا يسيطرون على مصر، فلقد استطاعت إذاعة لندن، أن تحظى بإنتاج حصري لأغان كثيرة تذاع فقط على محطتها، من خلال دعوة الفنانين المقيمين في مصر، للسفر إلى باريس قبل احتلالها في عام 1940 ثم إلى لندن لتسجيل تلك الأغاني، التي أصبحت لا تبث إلا من إذاعة لندن، ومنها قصيدة “يا لعينيك ” التي غنتها للسنباطي، وغيرها من الأغاني الإذاعية، التي تميزت عموماً بطول المدة.
وهكذا سجلت أسمهان أغنيات إذاعية من إنتاج إذاعة لندن وبقيت خاصة بتلك الإذاعة، فانتبه إليها البريطانيون أكثر، وإلى تاريخها، فكانت فرصة لهم وكانوا فرصة لها لتعود إلى أسرتها… للأعلى

وما إن تذكرت أسرتها حتى عاودتها الأفكار السوداء. الخيانة..كيف تحولت الفرصة الذهبية في حياتها إلى اتهام الخيانة.. تذكرت مجدداً تلك الفرصة الذهبية التي برزت أمامها، مع تحولات مسار الحرب العالمية الثانية، وتحولات مسار حياتها بين الفرص والتهديدات، عندما قرر البريطانيون والحلفاء، حماية قناة السويس، ومنابع النفط الخليجي من الألمان، وتأمين الطريق البحري إلى الهند، فقرروا طرد الفيشيين الموالين لألمانيا من سورية، فذهبت لتقنع أهلها والعشائر في البادية، لدعم دخول القوات الحليفة من أراضيهم، وعندما اكتُشفت مهمتها، كان هناك تهديد بقتلها، وعند نجاح المهمة، حصلت على وسام اللورين، من فرنسا الحرة.. وللأسف.. كان الوسامَ الوحيد الذي حصلت عليه في حياتها، و كان بسبب مهمة سياسية.. وليس لفنها!
وتذكرت كيف سمعت الخبر في يوم من أيام تشرين الأول عام 1942 ، بأن البريطانيين هزموا قوات المارشال رومل في الصحراء الغربية، وبأن المخاوف من هجوم وشيك على القاهرة، يؤدي لاحتلال قناة السويس،قد تضاءلت، ثم سمعت أن الروس اقتحموا خطوط الألمان في ستالينغراد، فبدأت تتوقع تلاشي وعود الاستقلال، فالأمور مترابطة.. والقوي لا يأبه بأحد.. وفعلاً بدأت تسمع أن تعيين الأمير حسن وزيراً للدفاع الوطني، يعادل ما قامت به من مهام، والدور الذي قامت به أسرتها؛كان هذا تهديداً كبيراً لعلاقتها مع زوجها وأسرتها، استمر يتفاقم حتى بدأت اتهامات الخيانة ترن في أذنها.. فعادت إلى مصر، في رحلة اللاعودة، مثلما كانت رحلتها مع أمها وشقيقيها وهي صغيرة، رحلة لم تعد منها والدتها إلى سورية أبداً. للأعلى

علياء المنذر.. وفؤاد

وراحت أسمهان تفكر في والدتها علياء المنذر ذات الصوت الجميل. من الواضح أنها لم تكن على وفاق مع أسرة زوجها، ولذلك عندما بدأت المناوشات مع الفرنسيين، أخذت أولادها إلى دمشق، ثم ذهبت إلى بيروت، وأقامت فيها زمناً، ثم هربت إلى مصر ولم تعد. لاشك في أنها شكلت بالنسبة لها فرصة كبيرة، حين دفعتها للدراسة في المدارس الفرنسية في بيروت ومصر، ثم لتعلم أصول الغناء بعد تعرفها على كبار الملحنين، ولكنها كانت تتحول أحياناً إلى تهديد، فعندما جاء عرض الزواج من الأمير حسن، عارضته الأم، وكان خيارها واضحاً، هي إلى جانب أسمهان في مصر، ولكنها كانت تقف ضدها عندما تغادر إلى سورية…! وبالمقابل، كان شقيقها الأكبر فؤاد يمثل الأسرة، يمثل التقاليد، عندما تذهب إلى سورية، هو معها، وعندما تعود إلى مصر، هو ضدها، وهكذا، وفي نفس البيت، كانت هناك ثنائية الأسرة ومصر، ثنائية سورية ومصر، موجودة، وطاغية.
كانت تلك الثنائية تطغى عليها، حتى في خلايا عواطفها وتفكيرها وسلوكها.. فعندما تذهب إلى سورية، تلاحقها الأفلام، فتذهب للسينما، وتشاهد الأفلام المصرية، ويشدها الحنين، فهي بالنتيجة ذات صوت جميل، ولا شك أنها كانت تكره الغناء في الصالات، ولكن لاشك أنها كانت تستمتع بأجواء التصوير والأفلام والشهرة؛ وتذكرت كم كان هذا الحنين طاغياً، وخاصة عندما كانت تعود إلى الجبل، الذي كان يعيش حياة رتيبة، تناقض حياتها في القاهرة، إنها تلك الثنائيات المتناقضة التي لا تنتهي.. للأعلى

المجتمع

لقد كانت تلحظ تلك الفوارق في السلوك الاجتماعي، بين السويداء ودمشق، ودمشق وبيروت، وبيروت والقاهرة، وخاصة فيما يخص النساء، ولكنها لم تكن تلق بالاً لها؛ ففي فترة كان المجتمع النسائي العربي يبدأ في السعي للحصول على حقوقه، مؤكداً على حزمة من المطالب الاجتماعية، كحق النساء في التعلم والعمل، ومناقشاً بعض القضايا ذات الارتباط، كالحجاب، والضوابط التي يمكن أن تحكم خروج المرأة، وطبيعة الدوائر التي يمكن أن تشتغل فيها، وما إلى ذلك من القضايا، كانت هي قد تجاوزت تلك المطالب، كانت التحقت بمدرسة سان جوزيف في لبنان، ثم التحقت في مصر، بمدرسة الخرنفش /الفرير/ الفرنسية في القاهرة، أي أن حق التعليم لم يشكل لديها مشكلة، وهذا فضل لوالدتها، كما أنها كانت تعلم أن مسألة النقاب كانت مطروحة، طرحتها هدى شعراوي في مصر، ومثيلاتها كعادلة بيهم في سورية؛ وهذه القضية لم تشكل لها أي مشكلة، فهي لم تكن تضع النقاب أو الحجاب في دمشق وبيروت، ولم تظهر في أي صورة لها به خارج السويداء ، حتى في صورها، مع زوجها ومع أهلها، بل إنها كانت كثيراً ما تعتمر قبعة ملائمة لثيابها، و مع أنها كانت تضع النقاب عندما تذهب إلى السويداء، ولكنها كانت في نفس الوقت، تركب الحصان، وتستمتع بالصيد، وتحضر الحفلات السينمائية، في زمن كان النقاش لا يزال يدور فيه، حول إمكانية حضور النساء لأفلام السينما!
لقد تسلحت في سلوكها هذا بزوجها، مَثلها في ذلك مَثل أغلب السيدات اللواتي عملن في الحركة النسائية، فانطلقن من مكانة حققها لهن أزواجهن؛ كصفية زغلول، التي كانت زوجة زغلول باشا، وهدى شعراوي، التي أسست الاتحاد النسائي في مصر عام 1923 ، وكانت زوجة علي الشعراوي، و كذلك عادلة بيهم، التي أسست الاتحاد النسائي في سورية عام 1933 ، وكانت زوجة الأمير مختار عبد القادر الجزائري، وكانت أسمهان،كذلك وحسب رأيها، زوجة الأمير حسن الأطرش. لاشك في أنها كانت تحس أنها في تصرفاتها، تجسد محوراً من محاور التغيير، ولو أنها كانت تشتط في ذلك، وابتسمت، ليس في سورية.. في سورية..أحياناً.. وفي مصر.. كثيراً، لكنها كانت تحس أنها تمثل صورة من صور سعي المرأة العربية، لكي تجد لها مكانتها في هذا المجتمع. لعل هناك من ينكر عليها أن تكون محوراً من محاور التغيير، وهي المغنية! ولم لا؟ ألم يقل بيرم التونسي معبراً عن إعجابه بنجاح المرأة في مصر.. “قلبي أما ثومة تغني يبقى رايح جاي، وروزا تمثيلها الفني يملا عيني ضي، وعضمي يتفكك مني لما تكتب مي، يامصر دومي وتهني بالحريم الحي “!!… ومع ذلك، لقد كانت تعرف أن تصرفاتها التي استطاعت فرضها في سورية، كزوجة للأمير حسن، كانت صعبة القبول في مصر، كمغنية.. للأعلى

شريط الحياة

خبر وفاة أسمهان

إنه قدرها، كلما تفاعلت مع محور من محاور الحياة، أو تعاملت مع شخصية من الشخصيات، الزوج، الأسرة، البريطانيون، الفرنسيون، السينما، الملحنون.. أو انتقلت لتعيش في مكان آخر، سورية، مصر.. كانت تتلاطم الفرص والتهديدات حولها كأمواج البحر، تسد أمامها الطرق وتفتحها..
لكنها لا تعلم، لم هذه المرة، لديها ذلك الشعور الغامض بأن الطريق أمامها مسدودة تماماً، ولا تعلم لم تلح عليها تلك النبوءة، بأن عمرها قصير، وأنها كما ولدت في الماء، ستغرق في الماء، و لعلها هنا سرحت في المياه تجري في الترعة بجانب الطريق، ثم فوجئت بباب السيارة يفتح، وإذ بالمياه تندفع باتجاهها.. فتتمسك بيدي صديقتها ماري وبمقعد السائق أمامها وقد شلت حركتها.. تحاول أن تتحرك ولكن جسمها لا يستجيب..ثم بدأت ترى شريط حياتها يمر أمامها مسرعاً، فهل أتت الساعة الموعودة؟ وتتسارع الصور.. ترى ابنتها وقد استقرت في إقامتها في السويداء بعيداً عنها، بعد أن طلقها زوجها للمرة الثانية.. وهاهي تغرق في يوم عيد ميلادها، تتصورها كيف ستبكي عليها.. ترى نفسها زوجة وزير الدفاع الوطني، وفي اللحظة ذاتها ترى نفسها في صالة منصور تغني… ترى شقيقها ينجح في تلحين “غرام وانتقام ” وتخشى عليه كيف سيقوى على الحياة بعدها.. وتتحسر.. هل سيتذكرها، أم أن الأيام ستطوي ذكرها إلى الأبد؟ ترى القصبجي يدربها على “يا طيور ” فيعطيها فرصة أن تتربع على قمة التجديد في الغناء العربي، وتراه وقد استكان عازفاً على العود بسببها.. ترى البريطانيين يعرضون عليها مهمة وطنية فترى فيها فرصة لتحقيق الاستقلال، وكيف تنطلق فيها وتعرض نفسها للخطر، وتراهم يُعرضون عنها وقد انتهى الأمر وسلموا الأمر للفرنسيين.. ترى أهلها يرحبون بها وقد أتتهم بوعد الاستقلال، وتراهم يقررون أنها خائنة.. بعد أن فقدوا الثقة في إمكانية تنفيذ الوعد من قبل الفرنسيين.. ترى زوجها الذي أحبته يتعذب، وقد آمن أنها لا تحبه، فيما ابتعدت لعدم قدرتها على الإنجاب،ثم تراه يخرج من الحكومة لأن الفرنسيين لم يفوا بوعود الاستقلال التي ضمنتها هي، ويصبح مقاوماً لهم.. ترى أمها التي عارضت زواجها، وأرادتها بجانبها.. تراها وهي ترقبها متحسرة وقد عادت، بعد أن تزوجت من شخص لا تراه أنه من مقامها، ولكنها بحاجة لهذا الزواج من أجل إقامتها في مصر.
صور متلاحقة لشريط حياتها.. التي بدأتها على ظهر باخرة هرباً من انتقام العثمانيين، لأن سلطان الأطرش ابن عمها دخل دمشق لإخراج العثمانيين منها، الهرب كان رفيقها، هرب من العثمانيين، وهرب من الفرنسيين، وهرب من الفقر.. ترى فيلم “انتصار الشباب ” فرصة لها ولشقيقها فريد، وتراه ضربة قاصمة وقد طلقها زوجها لأنه علم أن تقوم بتصويره.. ضربة قاصمة سعت هي إليها، ولكنها كانت تأمل ألا تكون، ترى أم كلثوم مثلاً أعلى، وقد وصلت إلى مكانة غير مسبوقة، وهي تحوز على وسام الكمال، وتصبح صاحبة العصمة.. ترى يوسف وهبي يحصل على البكوية الموعودة، بسبب نشيد الأسرة العلوية الذي غنته هي! ترى أحمد بدرخان، ترى أحمد سالم، ترى فؤاد، ترى يوسف بدروس يرقبها بصمت ويعبر بكلماته عن أحاسيسها، ترى نفسها تقف إلى جانب صبية في الجبل.. تمثلتها في جرأتها وحريتها.. ولجأت إليها..لتقف إلى جانبها.. ولكن.. ها هي ترى سلطان باشا الأطرش يبتسم لها.. و زوجها بيده علم الاستقلال.. ألم تعد خائنة.. لا لم تعد خائنة.. بل إنها ترى نفسها تحمل طفلاً ملفوفاً بالبياض.. هل أتى الطفل المنتظر.. تنظر إليه.. ثم تحدق في العلم…. في تفاصيله.. وألوانه.. نجوم حمراء.. ومساحة خضراء.. فأخرى سوداء.. فأخيرة بيضاء.. واسعة.. تتسع أكثر.. وأكثر.. تحيطها.. تلفها.. تغمرها.. وتسبح بها في فضاء الأكوان.. للأعلى

يبقى سؤال: هل كان الرحيل قسرياً؟

في برنامجي التلفزيوني عن أسمهان ، دفعت بأن وفاتها كانت حادثاً عرضياً، إذ لم يكن من الممكن القطع بأي إجابة أخرى، في ظل غياب أي معلومات موثقة أو مؤكدة. أما اليوم فقد أصبح بالإمكان تقديم قراءة لمعلومات مستجدة ، تسمح بالإجابة عن السؤال الذي طُرح منذ أن رحلت أسمهان في عام 1944: هل كان الحادث الذي أودى بحياتها مدبراً؟

ذات يوم كنت أتابع برنامج الأستاذ عمرو الليثي : اختراق الذي كان يقدمه على الشاشة المصرية في عام 2010. واستوقفني المشهد التالي:


ورد في الفيديو أن اللواء صلاح سعدة اقترح على عبد الناصر  قتل اللواء محمد نجيب ،  بنفس الأسلوب الذي قتلت به أسمهان: نعمل كما عملوا بأسمهان، نرميه في الترعة! فأجاب عبد الناصر مستنكراً: نقتل يعني؟ نبقى قتلة! و لم يأخذ عبد الناصر بهذا الاقتراح.

إذاً.. من الواضح أن الرئيس عبد الناصر كانت لديه معلومات تثبت أن أسمهان قتلت، وإلا لكان اعترض قائلاً: ولكن أسمهان توفيت بحادث! 

ولكن من الذي دبر هذا الحادث ؟ هنا.. قد تصعب الإجابة ، وإن كان من الممكن متابعة التحليل وفق التالي :

لو كان الرئيس عبد الناصر قال: أقتل يعني ، لكان في ذهنه أن القاتل شخص أو أشخاص ، ولكنه قال مستنكراً: نقتل يعني ؟ بالجمع ، أي كجماعة أو منظمة ( الضباط الأحرار ) ، أو كدولة ، وهذا يؤدي ، بالتحليل ، وفق ما أرى ، إلى أن الصورة الواعية في ذهنه ، بناء على المعلومات المتوفرة لديه ، تقول بأن القتل كان مخططاً من قبل جماعة أو منظمة أو دولة، وليس من قبل شخص ! إلا أننا لا نستطيع أن نحدد تلك الجهة، لعدم توفر أي معلومات بهذا الصدد.

يتبين مما سبق أن الحادث الذي أودى بحياة أسمهان كان ، بناءً على شهادة اللواء صلاح سعدة ، وإجابة الرئيس عبد الناصر ،  مدبراً ، بتخطيط من قبل جهة دولية ما ، وأن ذلك ، على الغالب، كان في سياق دورها في الحرب العالمية الثانية! والله أعلم!

التهديد الأخير
جاء التهديد الأخير لأسمهان بعد وفاتها، إذ لم تعالجها الأدبيات إلا من خلال محور حياتها الصاخبة ودورها في الحرب العالمية الثانية، فأهملت رصيدها الفني الكبير الذي شكل إرثاً لا ينسى، وهو ما ركز عليه برنامج “أسمهان ” ، بالعرض والتحليل، و ظلمتها كإنسانة، وهو ما سعينا لتحليله، من خلال استقراء خواطرها، في تواردها وإلحاحها، واستعراض شريط حياتها، في لحظاتها الأخيرة. للأعلى

الفرصة الأخيرة
تصالحت أسمهان مع أسرتها، بعد بث برنامج “أسمهان ” عام 1995 ، وبعد أن وصلتهم رسالتها السينمائية بنفي الخيانة. لاشك أن زوجها شاهد الفيلم بعد وفاتها مرات ومرات، ولاشك أنه فهم الرسالة، ولكن كيف يوصلها وقد أتت عبر الغناء.. كان لابد من الانتظار لكي تمر خمسون عاماً على وفاتها، لكي تُفهم الرسالة في الإطار الجمعي، وتُقبل، فهذه أول وآخر مرة في التاريخ، يحمل فيها فيلم، رسالة إلى وطن، من خلال أغنية، تفكك رموزها مباشرة، أمام ملايين المشاهدين، عبر التلفزيون. للأعلى

كلمة أخيرة
ماذا لو كانت أسمهان ولدت لزوجها طفلاً في فترة زواجها الأول؟ أو استطاعت معالجة وضعها في القدس، عندما سعت لذلك، في إقامتها الثانية، فبقيت في سورية؟ ماذا لو كان الحلفاء وفوا بوعدهم في تحقيق استقلال سورية في عام 1943 وليس 1946 بعد أن أرغموا على ذلك؟ لعلها كانت عاشت حياة أطول.. ولكن هل كانت قدمت ما قدمت من روائع الغناء العربي؟ وهل كانت ذكراها تبقى حتى اليوم؟ فتحقق هذا الاهتمام الاستثنائي؟ كتب تتوالى، ومسلسلات عن حياتها، ومجموعات عديدة محبة لها على الفيس بوك، تضم آلاف المحبين، ومئات آلاف الروابط باللغة العربية أو باللغات الأخرى على الإنترنت عند طلب اسمها،  بالطبع لا. لقد كانت تلك التهديدات، التي أجبرتها على الغناء، فرصة لنا نحن، لكي نحظى بهذا الرصيد الفني الرائع، الذي يبقى أهم ما قامت به أسمهان، ولو على غير رغبتها.

إنها دائماً تلك الثنائيات المتناقضة التي أنهت حياتها باكراً، وأبقت ذكراها أبداً. للأعلى

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.