تأثير أداة التلحين والتأليف على اللحن الناتج : سماعي نهاوند لعبد المنعم الحريري أنموذجاً

شعار كتاب الأغاني الثانيسيطرت آلة العود طويلاً على أذهان الملحنين والمؤلفين الموسيقيين العرب ، الذين عملوا في إطار الموسيقى العربية الأصيلة ، إذ أنها كانت الآلة الموسيقية الرئيسية التي يعتمد عليها الملحن أو المؤلف الموسيقي في وضع ألحانه ، ما تسبب في أن تكون الجمل الموسيقية في إجمالها غنائية الطابع ، حتى لو كان الناتج معزوفة موسيقية!

المقال التالي يسلط الضوء على هذا الواقع ، وعلى  إحدى التجارب الهامة ، لعازف بارع على آلة الكمان ، هو عبد المنعم الحريري ، لكي يغيره .. ولو على استحياء.. !

عبد المنعم الحريري عازفاً في فرقة السيدة أم كلثوم

عبد المنعم الحرير عازفاً في فرقة السيدة أم كلثوم

سيطرت آلة العود طويلاً على أذهان الملحنين ، إذ أنها كانت الآلة الموسيقية الرئيسية التي يعتمد عليها الملحن في وضع ألحانه ، ونظراً لأن أسلوب العزف الشائع لدى الملحنين كان تقليدياً ، فقد شاع تلاصق الأصوات الموسيقية في الجمل اللحنية ، وندُرت القفزات الصوتية المفاجئة ، لأن تنفيذها يحتاج إلى مهارة خاصة في العزف ، تخرج عن إطار العزف الكلاسيكي على العود ، إضافة إلى إدراك الملحنين أن الألحان ستُغنى من قبل أصوات لم تتدرب أصلاً على قفزات صوتية مفاجئة في الغناء العربي، وهو ما خالفته أسمهان عندما فاجأت الجميع عام 1940 بأدائها المذهل ، دون تدريبات مسبقة، لرائعة القصبجي ” يا طيور ” .

ولم تخالف المؤلفات الموسيقية العربية التقليدية هذه القواعد ، إذ لم تختلف جملها الموسيقية في طبيعتها عن الجمل اللحنية المخصصة للغناء ، في تلاصق أصواتها وتقاربها ، بسبب سيطرة تلحين الكلمة على ذهنية المؤلفين الموسيقيين الشرقيين ، حتى أن أي مغنٍ يمكن له أن يتغنى بلحن أي معزوفة موسيقية عربية كلاسيكية ، مستخدماً كلمات مثل ” يا ليل ” ، دون أي مشاكل ، سواء أكانت تلك المعزوفات دون قالب ، أو على قالب تقليدي كالبشرف أو السماعي ، طبعاً باستثناء قالب اللونغة ، الذي بني أصلاً خلال الفترة العثمانية ، بتأثير من موسيقى البلقان السريعة الطابع، فأتت اللونغات تركية المنشأ ، سريعة ، تتطلب قدرات فائقة في تقنية العزف ، حافلة بالقفزات الصوتية ، فيما لم تبتعد لونغات المؤلفين العرب الكلاسيكيين كثيراً عن الجمل اللحنية الغنائية ، إلا فيما ندر ، متأثرين كما أسلفت ، بآلة العود كأداةٍ للتأليف الموسيقي ، وقدراتهم في العزف عليها ، وأيضاً بأساليب العزف الشائعة في العالم العربي على الآلات الموسيقية التقليدية ، كالقانون والعود والناي ، والتي كانت بعيدة كل البعد عن السرعة.

التسجيل النادر الذي أعرضه اليوم ، ذكّرني بهذا الواقع ، و هو سماعي نهاوند الذي أسماه مؤلفه : ” سحر الشرق ” ، من تأليف عبد المنعم الحريري ، أدَّته فرقة الموسيقى العربية في حفلات مهرجان الموسيقى العربية الأول الذي أقامته دار الأوبرا المصرية في عام 1992 .

تميز الحريري بخصوصية تنوع مسالكه الموسيقية ، إذ جمع بين تدريس العزف على آلة الكمان وفق الميتودات الغربية و بين تدريس أسس الموشحات ، في المعهد العالي للموسيقى العربية ، كما أنه جمع بين التلحين والتأليف الموسيقي ، و بين العزف على الكمان في الفرق الموسيقية المعروفة ، وخاصة فرقة السيدة أم كلثوم ، إلى جانب أحمد الحفناوي ، ماجعله بالنتيجة يجمع بين التعليم والممارسة ، و بين الفن الشرقي والعلوم الغربية. انعكس هذا الواقع على أعمال الحريري  ، ومنها هذا السماعي ، الذي اكتسب أهمية خاصة ، بغض النظر عن جماله ، لأن المعالجة في بعض أقسامه ، أتت مختلفة عن المألوف.

اللحن
بني اللحن  على قالب السماعي ، وهو قالب في التأليف الموسيقي يتألف من لحن متكرر يسمى التسليم ( هـ) ، وأربع مقاطع لحنية ( أ، ب ، ج ، د) يسمى كل منها خانة ، فيتسلسل اللحن وفق الترتيب ( أ هـ ب هـ ج هـ د هـ ) ، كما بني على مقام النهاوند ذي الطابع العاطفي ، في أسلوب تعبيري لافت.

ومع أن قالب السماعي هو من القوالب الكلاسيكية للتأليف الموسيقي العربي والشرقي ، إلا أن الحريري عالج الجمل اللحنية هنا ، أولاً بالأسلوب الكلاسيكي في النصف الأول من اللحن ( أ هـ ب هـ ) ، ثم سمح لنفسه بالتخفيف من الكلاسيكية ، اعتباراً من الخانة الثالثة ( ج ) في الدقيقة الثالثة من التسجيل ،بقفزات صوتية مخففة ،  ثم بالتجرد نهائياً من الكلاسيكية،  اعتباراً من الدقيقة الرابعة من التسجيل ، في الخانة الرابعة ( د ) وفق قالب السماعي ، عندما  أدخل قفزات مفاجئة للأصوات في الجمل اللحنية ، ندر أن استمعنا إلى مثلها ، في النماذج التلحينية العربية ، المبنية على قوالب التأليف الموسيقي الكلاسيكية .. طبعاً ، لا يعتبر هذا مخالفة لقالب السماعي ، الذي تعتبر الخانة الرابعة منه ( د ) ،  المساحة الملائمة لإكسابه الحيوية ،  لأن إيقاعها يأتي عادة على إيقاع ثلاثي ، بينما تأتي المقاطع اللحنية الأخرى على إيقاع السماعي الثقيل ، الذي أكسب هذا القالب اسمه ، و هو ما مكَّن الملحنين الأتراك من توظيفها لإدراج جمل لحنية سريعة ، تشبه كثيراً الجمل اللحنية في قالب اللونغة ، كما في سماعي شد عربان المعروف لجميل بك الطنبوري ، ولكن الفارق هنا ، جاء من أن الحريري لم يلجأ لجمل لحنية سريعة في الخانة الرابعة ، بل إلى قفزات صوتية مفاجئة ، وهذه سابقة تحسب له.

أعتقد أن السبب في إقدام الحريري  على هذا الأسلوب ، في إدخال القفزات الصوتية إلى الخانة الرابعة ، دون أن يستهدف تسريع اللحن ، يعود إلى أنه بنى لحنه باستخدام آلة الكمان ، التي كان يقوم بتدريسها وفق ميتودات التعليم الغربية ، وليس وفق أساليب عزف آلة العود الكلاسيكية.. فاستفاد من تدريبات آلة الكمان ، في جعل هذا السماعي مختلفاً عن غيره ، مكسباً إياه أهمية خاصة . تجدر الإشارة إلى أن عازفين آخرين للكمان ، وضعوا بدورهم مؤلفات موسيقية ، ولكنهم آثروا الاستكانة إلى الجملة اللحنية الغنائية ، ما أكسب هذا السماعي أهمية إضافية..

أما بداية ظهور القفزات الصوتية في الغناء العربي ، فلها حديث آخر..



د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading