التجريب عند سيد درويش في مسرحة الموسيقى العربية

شعار كتاب الأغاني الثاني

 

لم يكن سيد درويش يعلم ، عندما استقر في القاهرة عام 1917، بعد أن اختزن رصيد أسلافه الموسيقيين ،  أنه سيضع في سبع سنوات قصار،، صيغة جديدة للموسيقى العربية ، تجعلها تواكب، مثل غيرها من أنماط الثقافة العربية ، حركة النهضة والتنوير ، التي بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر ، وتكاملت عناصرها مع ولادة القرن العشرين.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل العوامل التي أدت إلى هذا النسق الموسيقي الجديد ، الذي ظهرت معالمه الواضحة في المسرح الغنائي ، والذي سيكون له تأثيره على مجمل أعمال الفنانين الذين عاصروا سيد درويش ، أو جاءوا من بعده ، وإلى إبراز مجمل العناصر التي أدخلها سيد درويش على الموسيقى العربية من خلال ألحانه للمسرح الغنائي ، في استجابة للشروط التي تفرضها طبيعة المسرح الغنائي ، كطقس للفرجة ، و كأدوات ، و إيقاع ، ولتبيان أسلوبه التجريبي في البحث عن صيغة جديدة للموسيقى العربية يكون الفكر الموسيقي فيها هو الأساس!


 رحلات إلى الشام : اكتشاف لمخزون ثري وسعي لموازنة سيطرة الصوت الساحر

لقد اكتشف سيد درويش في رحلتيه المتتاليتين إلى بلاد الشام ، وخاصة إلى حلب ، مركز الإشعاع الموسيقي العربي ، مدرسة اختزنت الغناء العربي القديم بأشكاله المتنوعة ، واستقى من هذه المدرسة إبان إقامته هناك صنعة ، تميزت بتوظيفها للإيقاعات والمقامات الموسيقية نادرة الاستعمال   ، ما تجسد لاحقاً في العديد من ألحانه . لن أتوقف هنا عند هذه النقطة ،   مع أنها تبين المنهل الذي مكنه ، وهو ابن الإسكندرية ، من امتلاك أدوات الغناء القديم قبل وصوله إلى القاهرة، ولكن ما يهمني الآن هو نقطة أخرى قلما أشير إليها ، وهي أن رحلاته إلى بلاد الشام ، والتي شارك فيها في مسرحيات غنائية حسب الأسلوب السائد ، لم تنجح تماماً ، وكان ذلك لأن جمهور الشام لم يكن لينسى صوت سلامة جازي الساحر ، الذي كانت مسرحياته تجبر الناس أحياناً على بيع أثاث منزلها لتستمع إليه. كانت هذه هي النقطة الأولى..الغناء العربي القديم ارتبط بالصوت الفردي الساحر.. وكانت المكانة الأهم هي للمطرب لا للملحن ، الذي كان في غالب الأحيان هو المطرب . لم يكن صوت سيد درويش قادراً على مزاحمة صوت سلامة حجازي ، ولكن هاجسه التلحيني ، كان يرى في السائد من الألحان وأشكال الأداء بعداً واضحاً عن التعبير عن المعاني . أدرك الشيخ سيد أن الصيغة السائدة بحاجة لكي تتطور ، إلى صيغة جديدة ، يكون الفكر الموسيقي فيها هو الأساس. كان على هذا الفكر الموسيقي أن يولد عبر فهم كامل لأصول المدرسة القديمة ، ملقح ببذرة التجديد ، التي كانت ستزهر في تلك الأصول ، متمازجة مع طموح الفنان في أن يكون الأول ، في النسق الجديد الذي سيكون الملحن فيه هو السيد. لقد كان على الفكر الموسيقي الناتج ، المرتبط بالجذور ، والمتمازج مع الأداء المعبر ، أن يكون بديلاً عن جمال الصوت، وبقي أن يكون الجمهور قادراً على الاستجابة لهذا النسق الجديد. بدأت العناصر الجديدة تظهر في موشحاته وأدواره ، بعد عودته من الشام إلى الإسكندرية ، إذ اعتمد المقامات النادرة ذات الأجواء الجديدة لبناء الألحان ، و التعبير باللحن والأداء عن المعاني.

بحث عن توظيف جديد للموسيقى

ولكن كل هذا لم يكن كافياً . كان لابد من توظيف جديد ، لأن القوالب التلحينية السائدة ، والتي كانت تعتمد على الصوت الفردي المحقق لإعجاب الجمهور ، لم تكن قابلة للتغيير، كما أن أجواء الغناء التي أتيحت له في الإسكندرية ، لم تكن ملائمة لتوجهاته. لقد كان بحاجة إلى توظيف جديد وجمهور جديد وبيئة فنية جديدة. وسرعان ما سنحت الفرصة المنتظرة عندما دعي إلى القاهرة للتلحين للمسرح الغنائي، فوصلها محملاً بهموم الصيغة الجديدة، متحفزاً لتجريبها عبر أسلوب جديد لم تتضح له معالمه بعد ،في عالم ساحر متسع الآفاق : المسرح.

المسرح؟ كيف؟

كيف نغير من طبيعة الاستماع إلى الغناء ؟ كيف نجذب الجمهور الذي اعتاد صوت سلامة حجازي، الذي بكته القاهرة في نفس العام الذي استقر فيه درويش في حناياها ؟  في المسرح وعبر التجريب ستأتي الإجابات المنظرة ، فهل نضع الآن تجربة لتلمس مسالك التجريب عند سيد درويش في المسرح ؟

المسرح هو في البداية فرجة ، يأتي إليها المتفرج وقد حضر نفسه لأن يشارك في مغامرة خيالية ، فلا الزمان هو الزمان، ولا المكان هو المكان ، وعندما تطفأ الأنوار، تبدأ الرحلة الغريبة ، والجمهور مستعد لتقبل الجديد من البداية. إذاً الجدة أصلاً متوقعة ، و يمكن تحريضها والاستفادة منها ، ضمن التوجه الجديد ، الذي يسعى أن يكون بديلاً للمسرح السائد، حيث يأتي الجمهور أساساً بغية الاستماع إلى الصوت الساحر، ولا يتحرج من أن يأتي مرات ومرات لحضور نفس المسرحية وسماع نفس الصوت، في قصائد فيها تطريب وترجيع وارتجال ، قد يطول لدرجة قد ينسى المستمع عند انتهاء القصيدة أصل مضمونها، وعلاقته بمضمون المسرحية .الجمهور نفسه كان ينصرف عن حضور المسرح الجاد ، الذي كان يقدمه جورج أبيض ، متناوباً مع سلامة حجازي على نفس المسرح، لأنه لم يكن يمتلك الجاذب الأهم : الصوت الساحر .

مواصفات المسرح الجديد

كان الأساس ، البحث عما يفتقده المسرح السائد. كان مسرح سلامة يفتقر إلى أهم عناصر المسرح: الفرجة. لاحظ الشيخ سيد ذلك ، فتوجه إلى الفرجة الجماعية ، التي تتطلب جهداً يفوق جهود التلحين لصوت فردي ، يرتجل في كثير من الأحيان.ولكن اللحن الجماعي يتطلب تثبيت اللحن، وهو ما طبقه سيد درويش فعلاً ، وهذه نتيجة أولى، أردت عبرها أن أعطي مثالاً على أن البدايات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة. ولكن تثبيت اللحن ( الجماعي الأداء) ، يستدعي بالضرورة  حذف الارتجال، وتخفيف التكرار، وتبسيط تضاريس اللحن التطريبية، كما أن هذه العناصر بالذات تتلاءم مع ضرورة فهم المعاني في المسرح ، لمتابعة سير الأحداث ، فإذا دمجنا فهم المعاني مع لحن وأداء معبر عنها ، لاكتشفنا مسرح سيد درويش.

المسرح السائد يفتقد الكثير..

يمكن أن نفصّل الآن أكثر فنقول :إن سيد درويش لاحظ الصفات التالية في المسرح السائد قبله ، واستخدم فهمه لها لتحقيق صيغته الجديدة:

* الغناء الفردي يتعارض مع الفرجة المسرحية.

* الارتجال والتطويل في استعراضات صوتية يضيع المعنى والقصة والعناصر الدرامية التي لم تعد مفهومة.

* الجملة اللحنية التطريبية تلغي مدلول الرحلة الغريبة الخيالية التي اعتمد عليها المسرح أصلاً ، وتقلل من حيوية التفاعل مع دور المسرح.

* المضامين التي عالجتها المسرحيات الغنائية لا تشد المشاهد بحد ذاتها ، نظراً لأنها لا تتعايش مع اللحظة الآنية التي يعيشها المشاهد في حياته اليومية ، أو على الأقل لا ترمز لها ،وإنما تكتفي عموماً بمواعظ عامة.

* اللحن في المسرح الغنائي لا يرتبط بالمضمون ، ولو ألقي إلقاءً من قبل الممثلين لكان تأثيره أقرب إلى مضمونه.

وهكذا كان لابد من تجريب أسلوب جديد ،اعتمد ( السيناريو ) المقترح آنفاً . ومع أن القدر لم يمهل الشيخ سيد أكثر من ست سنوات ، فقد استطاع أن يضع حلولاً صالحة لكل الملاحظات السابقة ، واستطاع أن يجد بالتالي مكاناً للملحن في عالم الغناء العربي الجديد.

الأداء الجماعي والحيوية يحققان الفرجة والرؤى التنويرية

استطاع سيد درويش طرح صيغته ، عبر أسلوب تشابكت فيه العناصر الموسيقية ، السابقة مع عنصر جديد نسبياً في الغناء العربي ، وهو المضمون الذي أصبح سيداً من أسياد اللعبة . لقد بنى سيد درويش أسلوبه هذا عبر معونة رفاق كانوا من أهم كتاب مصر للغناء و المسرح : بديع خيري وبيرم التونسي وأمين صدقي ، استجاب سيد درويش لهمومهم الاجتماعية والسياسية ، واستجابوا لرؤاه الموسيقية ، بحيث تكاملت عناصر أسلوبه ، حيث تشابكت مفردات اللغة الموسيقية و المعاني ومفردات اللغة المسرحية، مع الأدوات المتاحة، لتجسيد الفكرة العامة. مثلاً ، اعتمد سيد درويش الجماعية كما أسلفنا ، لتحقيق الفرجة المسرحية ، كشكل من الأشكال الضرورية في المسرح ، والتي تجلب انتباه المستمع من جهة ، وتحقق له صيغته المطروحة ، ولكنها من حيث اللغة المسرحية الرمزية ، تعطي لتكاتف الشعب في غنائه معان جديدة ، كاجتماع الناس على رأي معين تبينه الأغنية الجماعية ، أو لوصف حال شريحة من شرائح المجتمع كالموظفين والمهنيين ، تجمعهم حال واحدة وظروف واحدة.

وجاءت حيوية الألحان الجماعية ملائمة لعناصر المسرح الدرامية ، ولتبعد الجملة التلحينية المطربة التي قد لا تلائمها، ولكن هذه الألحان عبرت في نفس الوقت عن صيغة التفاؤل والأمل ، والإيمان بقدرة الشعب على التغلب على المصاعب .

التعبير الصوتي عن المضامين في اللحن والأداء..

وتابع الشيخ سيد مساره ، وظهرت روح التجريب أكثر ، في محاولة  دمج الأداء التمثيلي البحت والألحان ، فمما هو معروف ، أن الشيخ سيد لم يكن يضع ألحان المسرحية إلا بعد أن يطلب إلى الممثلين أن يؤدوا الأدوار باللهجة التمثيلية الصرفة ، لكي يستوعب صوتية الأداء ، ثم يتجه إلى وضع اللحن ، ويشحنه بنفس الشحنة الدرامية والنسبة الصوتية الملائمة. ولكن إذا كان فهم المعاني ، أو أداء الأغنية الجماعية ، يتطلب تثبيت مدة الأغنية و حذف الارتجال الفردي فيها، والتقليل من التكرار ما أمكن ..ألاّ يقود هذا إلى ضرورة تدوين العمل كاملاً ، لتكون كل ثانية فيه محسوبة..  هذه نتيجة جديدة للصيغة التجريبية عند سيد درويش.

صدمات موسيقية..

وتأتي نقطة جديدة.. لاحظ الشيخ سيد أن العنصر الدرامي الذي هو العنصر الغالب في المسرحية ، يتطلب التعبير عن الصراع .. إذاً : لماذا لا يتم الانتقال بين المشاهد عبر صدمات موسيقية ، لا تراعى فيها القواعد الموسيقية السائدة في الغناء العربي ، والتي تعتمد على التفاعل والتصاعد ، عبر شحن عاطفي للجمل اللحنية المتماثلة ، لماذا لا يكون هناك أسلوب التضاد المفاجئ ؟ وهكذا ظهرت الصدمات الموسيقية في الانتقال بين المشاهد.. لتغيير الأجواء ..

ومقدمات موسيقية للمسرحيات والمشاهد

ولكن هذه الأجواء المتنوعة، أليس هناك من جو عام للمسرحية يغلفها ؟ وإذا كان..كيف سيتم وصفه ؟ وهذا المشاهد الباحث عن رحلة خيالية.. أليس من المهم أن نضعه في جو العمل العام منذ البداية ؟ ألا يكمن الحل في وضع مقدمة موسيقية تعبر عن جو العمل..?

مشكلة تضخيم الصوت تؤدي إلى مقامات موسيقية نادرة..

وهذه المقدمة التصويرية وألحانها ،أليست بحاجة لآلات موسيقية واضحة الصوت لتؤديها بمعزل عن الغناء ، في زمن لم يكن فيه أي وسيلة لتضخيم الصوت وتكبيره ؟ ..وهنا أليس البيانو هو الآلة الأفضل لذلك..وإذا كانت كذلك ..ألا تطرح أسئلة حول مسألة عدم قدرة هذه الآلة على أداء المقامات الموسيقية الجميلة المحتوية على أجزاء صوتية دقيقة ( ما يسمى في اللغة الدارجة : أرباع المقامات ) تخرج عن حدود قدرات هذه الآلة ؟  مما قد يستدعي ( ظاهرياً ) التخلي عن تلك المقامات مع أنها الأقدر على تصوير البيئة الشعبية ، والقادرة بالتالي على تحقيق التفاعل الأفضل مع المشاهد ؟  وإذا كان الأمر كذلك .. فما هي الحلول الممكنة موسيقياً ، للتمسك بالمقامات الشرقية ذاتها ، إضافة إلى إغنائها بمقامات موسيقية نادرة الاستعمال تخلوا من أرباع الصوت ، وتحقق جماليات موسيقية جديدة ؟ وضمن هذه الظروف أليس مشروعاً في بدايات القرن العشرين ، أن يتم التفكير باختراع جديد هو البيانو الشرقي.. لقد نجح سيد درويش عبر التجريب الواثق ، في إعطاء الحلول لكل هذه المشاكل ، دون أن يثنيه عن ذلك ، اعتراض المعترضين .

وأخيراً.. التعبير بالموسيقى 

ولم يكتف سيد درويش بإيجاد الحلول لمشاكل المسرح الغنائي العربي ، بل دخل في مستوى آخر من التجريب ، لم يسبق للموسيقى العربية أن شهدته ، وهو الذي لن ينتبه إلى خلاياه إلا الناقد الباحث المتأني ، وأعطي مثالاً على ذلك في أسلوب تلحينه للنشيد الرائع أنا المصري كريم العنصرين في مسرحية  ( شهوزاد) شهرزاد، والذي لا يعبر النظم فيه صراحة عن ماهية هذين العنصرين . قسم الشيخ سيد اللحن إلى قسمين ،الأول يعبر عن موسيقى أحد العنصرين ،  وهو العنصر الفرعوني ، والثاني عبر به عن العنصر العربي ، وحقق الفصل بينهما عند كلمة (واقللك) حيث ينتقل من لحن مرسل ، يعبر عن نظرته إلى الموسيقا الفرعونية الهادئة ، ذات الجلال والعظمة ، والثاني يعبر عن اللحن العربي بإيقاعيته المتميزة ، وميله إلى التطريب والتضاريس اللحنية الواضحة.

تعدد الأصوات في أربعين ثانية دخلت التاريخ

مثال آخر يتعلق بجماعية الأداء التي اعتمدها ، والتي قادته في نفس المسرحية إلى أن يطرق أبواب البوليفوني (فن تعدد الألحان)  ، عندما غنت مجموعة الجنود لحناً أول في ختام نشيد ” دقت طبول الحرب ” ، الذي يختم الفصل الأول ، يعبر عن تأييدها لقائدها زعبلّة ، الذي ينطلق في لحن ثان لإعطائهم تعليمات القائد المؤمن بالنصر ، فيما يتقاطع هذا في تضاد للأفكار في النص ، مع الهزيمة التي يروج لها  معارضوه  ، ليقول : أخيراً لم يعد الصوت الساحر هو المهم .. إنه مجمل الفكر الموسيقي الذي يستخدم كافة الأدوات، ليحبس أنفاس المشاهد ، ويحقق بالنتيجة الفرجة المسرحية الحقيقية ، دون أن يلغي جوهر الموسيقا العربية.


أما دليلنا على إصراره على التمسك بالموسيقا العربية الأصيلة ، فهو استمراره في تلحين الموشحات والأدوار، مع تحقيق العناصر التي أوجدها المسرح لديه، من تثبيت اللحن ومحاولة التعبير عن المعنى فيه، واضعاً الموسيقا العربية في صيغة جديدة ستكون هي الصيغة المواكبة للنهضة التي عرفتها الثقافة العربية ،وستكون النهج الذي سار عليه الجميع من بعده، محققاً ذلك ومنطلقاً من أن التجريب الحقيقي لا ينجح إلا مع الثقة بالنفس، واختزان كل الصيغ الموجودة وامتلاك هاجس التجديد ، والطموح للأفضل .. تلك الصفات التي تجمعت بكثافة نادرة عند سيد درويش، ليحقق هذا كله في سبع سنوات قصار.

محاضرة ألقيت ضمن فعاليات الندوة حول مسرح سيد درويش في ذكرى رحيله ، في إطار مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة في أيلول 1992

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading