نشيد دقت طبول الحرب : عندما شرح بيرم التونسي أسباب التحدي بينه وبين سيد درويش الذي ولَّد أربعين ثانية من الغناء دخلت التاريخ!

شعار كتاب الأغاني الثاني

سيد درويش وبيرم التونسي

أتوقف اليوم عند أربعين ثانية من الغناء ، أرى أنها دخلت تاريخ الموسيقى العربية من أوسع أبوابه ، إنها نشيد دقت طبـول الحرب ، الذي حمل أول تجربة بوليفونية في الغناء العربي ، وكان ذلك في 30 حزيران / يونيو عام 1921!
في سياق دراسة كنت قدمتها ، في إطار فعاليات مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة عام 1992 ، بعنوان : التجريب في مسرحة الموسيقى العربية عند سيد درويش ، عرضتُ لنشيد دقت طبـول الحرب ، الذي أتى في نهاية الفصل الأول من مسرحية شهرزاد ، كأحد الأمثلة البارزة في مسيرة سيد درويش التجريبية في إطار المسرح الغنائي .
قلت حينها إن هذا اللحن الذي يمتد لأربعين ثانية فقط ، دخل تاريخ الموسيقى العربية من أوسع أبوابه ، إذ طرق سيد درويش في هذا اللحن أبواب البوليفوني ( تعدد الألحان ) ، مع توظيف أسلوب الكونتربوان ( الألحان المتعددة تشكل تآلفات منسجمة صوتياً ) ، معتمداً مقام العجم الملائم للجو الحماسي المسيطر ، وذلك عندما غنت مجموعة الجنود لحناً أول ، يعبر عن تأييدها لقائدها زعبلّة ، الذي ينطلق في لحن ثان ، لإعطائهم تعليمات القائد المؤمن بالنصر ، فيما يتقاطع هذا في تضادٍ للأفكار في النص ، مع الهزيمة التي يروج لها معارضوه .
ولما كان النص ، الذي كتبه محمود بيرم التونسي ، يقدم حوارات متعارضة ، فقد فكر سيد درويش في أن عليه أن يضع أكثر من لحن لكل مسار في النص ، ولاشك في أنه نفذ هذا بشكل فطري تماماً ، إذ أنه لم يسبق له أن درس أساليب الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، ومع هذا فقد أتت النتيجة مبهرة فعلاً .
من أجل إيضاح الأمر ، اعتمدت أن أنشر التسجيل المرفق ، دون إخراج خاص ، بل فضلت أن أبين فيه ، تزامن مسارات النص المتعارضة ، مع مسارات الغناء ، لكي أوضح بالتالي ، الأسباب التي دعت سيد درويش ، لولوج هذا المسار الصعب ، والنجاح فيه ، ليدخل هذا النشيد بثوانيه الأربعين التاريخ .. من أوسع أبوابه!

التحدي كان وراء كتابة هذا النص!
من الطريف أن بيرم التونسي ، عندما نُفيَ إلى تونس كتب مقالات كثيرة في جريدة الزمان التونسية ،  عرض في إحداها إلى سيد درويش ، في مقالته المنشورة في عدد 2 مايو/ أيار 1933 ، فكتب ما يلي:

” ولدت أنا وهو في عام واحد وهو عام 1893، وفي مدينة واحدة هي الاسكندرية، وفي حي واحد من هذه المدينة هو حي «المزار»، ولم يعرف كلانا الأخر إلا في سنة 1921 في مدينة القاهرة، إذ كان الشيخ سيد منهمكاً في تأسیس جوقته الخاصة بعد أن نفض يديه من التلحين للأجواق الأخرى، وهو في حاجة شديدة إلى «زجال» يقدم له أزجال رواية الافتتاح. في تلك الأيام كانت جوقة الريحاني «کشکش بك» في عنفـوان شبابها، وكانت تستمد قوتها من ألحان الشيخ سيد إلا أن نوع التمثيل الذي كانت تقوم به هذه الفرقة كان وبالا على الأخلاق،….. ،  وكانت عشرات الألوف من الجنيهات تتدفق إلى جيب الريحاني ، نظير عمل بهرج لا يكلفه مجهوداً يذكر فضلا عما يبثه في الشبيبة من روح النزق والتهتك. 

وكنت إذ ذاك أحرر جريدة «الشباب» الأسبوعية، وجعلت نصب عيني محاربة هذا الجوق وأمثاله بالحق والباطل. وكان الشيخ سيد يقرأ تلك الصحيفة فيرى أن الحملة موجهة إليه قبل غيره، ويقرأ أنه متهم بسرقة الألحان التي يقدمها لجوق الريحاني، وكيف سرقها، وكانت الحملة مستمرة عليه شهورة طويلة. 

ولكن تأبى الظروف إلا أن تجمعني معه في ليلة جلس كلانا بجانب الأخر وهو لا يعرفه، ولاحظ أحد الجالسين وجودنا فقام ووضع يديه على كتفينا وبحسن نية قدم كلينا للآخر، وما كنت أنتظر بعد هذا الشر العظيم والعواصف التي أثرتها عليه في الجريدة أن يقوم لي مبتسماً فرحا كأنما انفتح أمامه كنز…

. وقلت إنني كنت أمام رجل اتهمه بالسرقة وهو يقيم أدلته التي بررت عمله في بساطة، ولكنه وقد انصرف عن الريحاني وغيره وبدأ يلحن لنفسه، قد رأى نفسه في ميدانه الذي يحلو له الركوض فيه، والذي يسمح له بإظهار قوته الجبارة . كانت الرواية التي افتتح بها فرقته «شهرزاد» وكان عليَّ أن أنظم له خمسة عشر لحنا في مواقفها المختلفة ، ولا يتصور غيري وغيره أننا اسکندریان لكل منا من المشاكسة والعناد ما يخيف الأخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد قد رد علي أبلغ رد في ألحانه التي وضعها لهذه الرواية ، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم. ويعلم الله أن الوقت الذي قضيته في العمل معه كان عبارة عن جلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصٍ لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد في عدة أيام، بينها الزجل العادي لا يكلفني إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلني بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له في أسعد ساعات صفائه.. “.

لقد كتب بيرم ، في سياق الرواية ، حواراً متقاطعاً ، ومتزامناً ، تتقاطع فيه الأفكار وتتناقض ، فرضته حبكة الرواية ، ودفعه إليه ذلك التحدي ، إذ يستحيل أن يلحن في سياق متسلسل ، كما جميع الألحان التي كانت عرفتها الموسيقى العربية ، فولَّد بين ما ولّد ، هذه الثواني الأربعون التي دخلت التاريخ!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.