من كتاب الأغاني للأصفهاني و كتاب الموسيقى الكبير للفارابي إلى كتاب الأغاني الثاني: لماذا نوثِّقُ الإبداع؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

من مخطوط كتاب الأغاني

تعليقاً على مشروع كتاب الأغاني الثاني .. وصلني السؤال التالي :
لماذا وثق أبو الفرج الأصفهاني قبل ألف عام تقريباً أهم الأعمال الغنائية في عصره وعلى مدى خمسين عاماً من الجهد والتعب ، مع انعدام أبسط الطرق الفنية والتقنية؟ هل كان هذا العمل نتاج تصاعد وازدهار الحضارة العربية الاسلامية في أوائل العصر العباسي؟ وهل كانت تلك الفترة بحاجة لهذا التوثيق ؟
ثم لماذا يأتي الدكتور سعدالله بعد ألف عام ونيف ليحيي هذه الفكرة من جديد ؟ ماذا يريد الدكتور من عمله هذا ؟ وماذا يهدف ؟ إنه يقدم على بحر متلاطم من أعمال موسيقية غنائية أثرت في وجدان الذاكرة العربية ، و جادت بها قريحة عباقرة كبار ، في فترة من أهم فترات تطور الموسيقا العربية . إنه يوثق ل ( أبي خليل القباني والحامولي وعثمان وسيد درويش وزكريا وعبدالوهاب والبطش و…. ) ..
طيب ثم ماذا بعد ذلك ؟؟ هل سيأتي باحث أخر ليكمل المهمة ويوثق أعمال غناء هذه الايام ؟ ولكن ماذا سيوثق؟ هل يوثق لأليسا وشعبولا وعمرو دياب ؟

وإليكم الإجابة:

أولاً: في مراحل التطور الحضاري

إننا ، إن استعرضنا مراحل التطور الحضاري الإنساني على مر العصور ، لوجدنا أن الحضارة لم تكن إلا ضيفاً عابراً على تجمعات البشر ، يستكين إليها لوهلة من عمر الزمان ، إذ تدعوه لزيارتها ، من خلال تفتّح خلاياها للمعرفة ، ثم يغادرها ، بعد أن يستولد  هو نفسه عناصر تجفيف تلك الخلايا ، تاركاً لكل  تجمع إنساني ، مهمة توثيق نهضته العابرة ، لتكون أساساً لزيارة قادمة لذلك الضيف.

عندما تحل الحضارة ضيفاً على تجمع بشري ، وتبدأ بتحريض الإبداع في كل مجال من مجالات النشاط الإنساني ، و لنتخذ هنا من الموسيقى مثالاً ، يتخذ التوثيق صيغة كتابات صحفية تُعلم بالجديد ، وتعطي عنه معلومات أولية في عجالة ، نظراً لكثافة الجديد وسرعته ، إذ لن يتوفر وقت لتوثيقٍ ذي بعد تحليلي ، كما لن تتوفر معطيات إجمالية ، تسمح بالمقارنة بين الأعمال الجديدة ، ومقارنتها بالوضع الابتدائي السائد قبل تلك الفترة الحضارية ، ما يجعل من المتعذر استنباط معالم التطوير الذي يحصل .

ثانياً : عندما يحل الجفاف يبدأ التوثيق!

عندما يحل الجفاف في الإبداع ، يبدأ وقت التوثيق الحقيقي ، المعتمد على المعلومات الأولية التي توفرت خلال مرحلة النهضة الذاوية ، ويكون أولاً بإجراء تقاطع بين المعلومات ، لتدقيقها وترتيبها زمنياً ، ثم تبدأ مرحلة استكشاف خلايا الألحان في كل مرحلة زمنية ، ابتداءً من الأقدم للأحدث ، لتحديد المفاصل التي مرت بها تلك النتاجات ، والعناصر اللحنية والجمالية والتعبيرية  الجديدة التي دخلت ، وتحديد الأعمال التي قدمتها لأول مرة ، وصولاً إلى إعطاء كل مبدع حقه ، فيما سبق به الآخرين ، مع تحديد أهم 100 عمل من تلك الأعمال التي حملت عناصر التطوير.

من هنا فإنني أرى أن الأسباب التي تدعوا الباحثين في أمة للتوثيق ( التوثيق في معناه الشمولي  كما رأينا ، المتضمن جمع المعلومات ، و إجراء التقاطع بينها ، ثم تحليل تلك المعلومات في إطارها  السياقي والموضوعي ، و صولاً إلى استخلاص النتائج ) تتخلق ، عندما تبدأ تلك الأمة بالانحدار بعد فترة حضارية مزدهرة ، يكون الجميع فيها مشغولاً عن توثيق ما يحدث ،  بالجديد و بتسجيل معلوماته ، في بعدها المباشر والفردي ، وبالتالي فإن الباحث لا يوثق عصره ، وقد جف إبداعه  ، كما هو حالنا اليوم ، بل يركز في  مجال توثيقه على الفترة الحضارية فقط  ، وعلى ملامحها الإبداعية ، إذ تكاملت ، لتبقى ذخراً للأجيال القادمة ،  مستخدماً في ذلك أحدث أدوات عصره..

إذا طالت الفترة الحضارية ، واستمرت لمدة من الزمن ، فإن مسارها يتشكل من مراحل إبداعية متتالية ، ما يدفع الباحثين إلى توثيق علمي إبتدائي  لكل مرحلة ، تشكل فيما بينها قواماً متكاملاً ، يسمح بنظرة إجمالية لما مضى ..  وكلما تكاملت عناصر مرحلة جديدة بدأت أعمال توثيقها ، إلى أن يتخافت الإبداع ، وعندها يحين الوقت لتوثيق إجمالي جديد ونهائي ، يحيط بالمراحل كلها ، ويؤطر الإبداع الذي أنتجته في صورته النهائية!

ثالثاً: الأصفهاني والفارابي عاشا عصراً جف فيه الإبداع الموسيقي!

من مخطوط كتاب الموسيقى الكبير

نعم ، لقد عاش الأصفهاني في عصر ذوى فيه الإبداع الموسيقي والغنائي ، مَثَله في ذلك مثل الفارابي ، إذ عاشا في الفترة ذاتها ، فصنفا أهم كتابين وصلا إلينا في التوثيق الموسيقي : كتاب الأغاني وكتاب الموسيقى الكبير. ذهب الأصفهاني إلى توثيق نصوص الأغاني ، وبحورها الشعرية ، والمقامات الموسيقية والإيقاعات التي بنيت عليها الألحان ، منذ عصر الخلفاء الراشدين ، وحتى العصر العباسي ، إذ لم تسمح له أدوات عصره أن يوثق الألحان. بالمقابل ذهب الفارابي في مجلده الضخم : كتاب الموسيقى الكبير ، إلى تقديم نظرة علمية فلسفية إلى الموسيقى ، وتأثيرها في الإنسان ، وإلى استعراض الآلات الموسيقية و كذلك المقامات والإيقاعات المعروفة في زمانه ، مع عرض أسلوب مقترح لتنويعها وتطويرها، وفق مبادئ رياضية وعلمية!

والسؤال : لماذا قام كل منهما ، وفق أسلوبه الخاص ، بتوثيق نتاج فترة موسيقية ذهبت ؟ لقد فعلا ذلك لتوثيق ذلك النتاج ، ليكون أساساً لنهضة موسيقية جديدة مأمولة..

رابعاً : استطرادات

 ألم يستق أبو العلا وقبله الحمولي ، في بدايات مرحلة النهضة التي شهدها القرن العشرون ، ملامح القصيدة العربية الجديدة في صورتها الغنائية ، مما ورد من وصف في كتاب الأغاني ، مع إدماجٍ لعناصر اخرى مستحدثة ، منها ما نقله شاكر الحلبي معه من حلب ،  في عام 1830 ، ومنها ما ولّدته نهايات القرن التاسع عشر ؟

ألم يعد الملحنون في بدايات عصر النهضة في القرن العشرين إلى ما وثقته سفينة شهاب من نصوص لبناء ألحان موشحاتهم الجديدة على ما وثقته من نصوص؟

وأخيراً..

بالنسبة لي .. أنا أعمل منذ ثلاثين عاماً على جمع الأسلوبين معاً ، أسلوب الأصفهاني والفارابي في التوثيق ، و على تطبيق ذلك على مرحلة موسيقية زاهية في القرن العشرين ، على أمل أن يكون نتاج ذلك الجهد أساساً لنهضة موسيقية عربية جديدة!

طبعاً لن أتمكن من الإحاطة بكل ما جرى .. ولكنني آمل أن يشكل ما أتمكن من إنجازه من توثيق علمي لتلك النهضة ، نموذجاً مكتملاً لهذا الأسلوب الجديد ،  كافياً لكي يوفر لباحثين آخرين ، إمكانية استكمال ما أعمل عليه!

أما سفينة شهاب .. وهل وثقت لفترة حضارية غائبة .. فلهذا حديث آخر!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged . Bookmark the permalink.

Comments are closed.