مقام الصبا – 4 : أغنية زينة لفريد الأطرش وشادية تجسد مقام الصبا في صيغته الفرحة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

حان الوقت الآن ، وبعد عدة نشرات توقفت فيها عند مقام الصبا ، أولاً: بوجهه الحزين الخالص ، حيث شرحتُ الأسلوب ، الذي يمكن عبره توليد أجواء الألم والحزن ، لدى البناء على هذا المقام ، من خلال عزف لي على القانون ، بني على مقام الصبا ، ثم من خلال قصيدة للسيدة أم كلثوم ، هي قصيدة قالوا أحب القس سلامة ، من ألحان رياض السنباطي ، وثانياً : بوجهه الذي تداخله ملامح السعادة ، في لحن الشيخ أحمد أبو خليل القباني : يا مسعدك صبحية مع طلعة الفجرية ، حيث استطاع الشيخ القباني ، في سعيه للتعبير عن عواطف النص المتداخلة ، أن يولِّد لدى المستمع شعوراً غريباً ، يدمج الوجه الحزين لمقام الصبا ، مع الوجه السعيد للإيقاع الحيوي!
في نشرة اليوم ، نبتعد عن أجواء مقام الصبا الحزينة نهائياً ، في لحن الأستاذ فريد الأطرش : زينة ، الذي أداه غناءاً مع السيدة شادية ، حيث يسيطر الإيقاع الحيوي من البداية ، وتتحول أجواء مقام الصبا لتصبح فرحة تماماً!
جاءت الأغنية في سياق فيلم انت حبيبي ، من إنتاج عام 1957 ، في لحظةٍ من أحداث الفيلم ، تتداخل فيها العواطف : الفرِحة ، إذ تصور الأغنية أجواء زواج زينة ، وهي صبية تتزوج من حبيبها ، و هو الشاب الأسمر الذي يظهر في الكادر أثناء أداء الأغنية ، ولكنها ، أي الأغنية ، تأتي بعد مشهدين جمعا قارئة ودع مع كلٍ من فريد وشادية ، وجاءت توقعاتها لتحرض عند الإثنين ، بروز مشاعر عاطفية كانت دفينة ، فيما سيكون لظهور هند رستم المفاجئ ، التي تحاول الاستئثار بفريد ، أثناء أداء الأغنية ، أثرٌ في الإلقاء بظلال من الشك ، تجعله عملياً ضائعاً بين الاثنتين ، وهو ماتسبب في ضرورة أن يعبر اللحن عن أجواء الفرح ، التي تخالطها أجواء هذا التداخل بين العواطف!
يعبر النص عن هذا التداخل في موقع واحد من النص وهو : يا هل ترى قلبي يلقى الفرح امتى وفين ؟ ما دفع الأستاذ فريد لكي يبني لحنه على مقام الصبا ، حيث سنلاحظ أن اللحن في هذا الموقع من النص ، يمر ، ولو بشكل عابر ، على أجواء مقام الصبا ، في وجهه الحزين!

لنتابع النص الذي كتبه الأستاذ محمد فهمي إبراهيم ، و نلاحظ أنه تقيد في نهايات شطراته ، بالحفاظ على الروي :
زينة زينة زينة * زينة غالية علينا
زي ضيّ عنينا * زينة زينة زينة
*****
والله زينة والله * تشتهيها العين
لولا خوفي من الله * لاقطف الخديـــن
اللي نورهم خلاّ * حرِّ قلبي ظله
والصحارى جنينه * زينة والله زينة
*****
زينة مالي حيلة * عقلي مني راح
زي صاحب ليلة * والهوى فضّاح
له حكاية طويلة * ياام عين كحيلة
انظري راعينا * زينة والله زينة
******
زينة وانت اللي فاز بالقرب منك زين
وجهك ده واللا القمر زانه سواد العين
يا هل ترى قلبي يلقى الفرح امتى وفين؟
*******
امتى الزمان يصفى لي * والتقيلي حبيب
مـخـلص يريح بالي * يكون وصاله قريب
ويــمل قلبي الــخالي * أكيد معاه عذالي
والدنيا تضحك لينا * زينة والله زينة

اللحن
يبدأ اللحن ، الذي بني على مقام الصبا على درجة الري ، بإيقاع حيوي ، ليعبر عن أجواء شعبية فرحة ، بمناسبة زواج زينة ، لتتابع شادية الأجواء الفرحة في أدائها للمذهب المتكرر في الأغنية ، التي أتت على قالب الطقطوقة ، فيما يؤدي فريد الأغصان متكررة اللحن ، ثم الموال.
يمكن تفسير البناء المقامي للحن الأغصان في احتمالين : أن اللحن بني على جنس النهاوند على درجة السي بيمول ، مع توقفات تعبيرية على حساس جنس النهاوند ، أو أن اللحن بني على جنس الصبا زمزمة على درجة اللا ، وهو ما أرجحه ، لأن اللحن يبدأ تحديداً من درجة اللا ، و يعود إليها ، ودائماً مع مرور عابر على جنس الحجاز على الدو جواب ، فيما جرى الانتقال إلى مقام الهزام على درجة الصول ، عند أداء الموال.
نلاحظ في نهاية الموال ، أن العودة لمقام الصبا ظاهرة تماماً ، عند : يا هل ترى قلبي يلقى الفرح امتى وفين ، وذلك عند مرور فريد على : يلقى الفرح امتى وفين ، في انتقال تعبيري حزين ، يبرر بناء اللحن أصلاً على مقام الصبا ، مع إكسابه الحيوية وأجواء الفرح ، لكي يلائم مناسبة اجتماعية فرحة ، وهي زواج حبيبين ، بما يعني أن اعتماده جاء للتعبير عن واقع الضياع العاطفي ، الذي يعيشه فريد في سياق الفيلم!
في النشرة التالية أختتم سلسلة النشرات التي توقفت فيها عند مقام الصبا ، و تدرجات أجوائه ، لأعرض لعمل غنائي ينتقل بنا إلى أجواء تبتعد تماماً عن هذه الأجواء ، ليدخلنا عالم الكوميديا!

أود أن أنوه أخيراً بأن الرصيد الموسيقي العربي يضم ألحاناً كثيرة بنيت على مقام الصبا ، مع إكسابه أجواء متنوعة كل مرة ، حسب مقتضيات النص ، وأنني في هذه السلسلة من النشرات لا أعرض إلا نماذج من تلك الألحان. يهمني في هذا السياق ، أن أتوقف ولو عبوراً عند نموذج هام ، وهو نشيد ” طول ما أملي معايا ” لمحمد عبد الوهاب ، الذي جاء مبنياً على نصٍ كتبه الأخوان رحباني في عام 1967 ، و سعى فيه عبد الوهاب لتوليد أجواء حماسية ، تستعيد الأمل ، بعد نكسة حزيران 1967 ، ولكنه ، أي عبد الوهاب ، اختار ، وبإبداعٍ قل نظيره ، أن يعبر عن ذلك الواقع الأليم الذي عاشه العالم العربي بعد النكسة ، من خلال بناء لحنه ، على مقام الصبا!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.