ورقة مرجعية نشرت في إطار تقرير التكامل العربي
الصادر عن منظمة الإسكوا في شباط / فبراير 2014
بقلم : الدكتور سعد الله آغا القلعة
أولاً : الإطار التاريخي للتكامل الموسيقي العربي
أ – منذ القدم وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918
وُلد الغناء العربي المتقن[1] في الحجاز ، كنتيجة للتزاوج بين الشعر العربي ، الذي وُلِد في شبه الجزيرة العربية ، واللحن الوريث لألحان المدن – الممالك العربية القديمة ، كما تطور في الشام والعراق ، فعبرت ولادة الغناء بهذا الشكل ، عن أول ملمح من ملامح التكامل العربي في الموسيقى والغناء ، فيما ارتبط تطور الغناء العربي لاحقاً ، بتحولات مراكز القوة السياسية والاقتصادية العربية ، وتنقلها بين الحواضر العربية والإسلامية ، والظروف التي حكمت إنتاج الغناء ونشره بينها.
احتضنت دمشق ، عاصمة الأمويين ، أولَ مركزٍ إبداعي موسيقي حقيقي تشكل لإنتاج الغناء المتقن ، المتجسد أساساً في القصيدة الغنائية ، بعد ولادته في الحجاز ، وذلك بغية تقديمه في حضرة الخليفة ، من قبل مغنين متنافسين ، وعندما انهارت الخلافة الأموية ، انتقل هذا المركز إلى بغداد ، حاضرة العباسيين ، حيث بدأت تظهر ، إلى جانب الإبداع اللحني ، تنويعات جديدة في العلاقة بين الإيقاعين الشعري والموسيقي ، و تترسخ ملامح البحث الموسيقي والتعليم .
ترافق الوهن ، الذي حل بالدولة العباسية ، مع تشكل مركزٍ إبداعي موسيقي في بلاد الأندلس ، استند إلى اللغة الموسيقية كما تم تطويرها في بغداد ، و تمركز أساساً في قرطبة ، فأنتج علاقة جديدة بين النص واللحن ، تجسدت في الموشحات الأندلسية ، واستمر حتى خروج العرب من الأندلس في عام 1492 ، حيث انتقل ، عندما ضعفت القوة السياسية في العالم العربي وداخلها التمزق ، إلى استانبول ، عاصمة العثمانيين ، التي سعت لتكوين مركز للتطور الموسيقي الشرقي / وليس الغنائي / فيها ، استمر حتى انهيار إمبراطوريتهم. توازى هذا الواقع مع نمو القوة الاقتصادية لمدينة حلب ، عاصمة طريق الحرير ، فتحولت إلى مركز الإبداع الموسيقي العربي ، بتحريض من التجار الأثرياء ، فيما أصبحت القوافل التجارية ، واسطة التفاعل والتكامل والنشر الموسيقي العربي . استمر تأثير مركز حلب ، حتى افتتاح قناة السويس ، ومن ثم انفصال سورية عن الامبراطورية العثمانية ، وفقدان حلب للتواصل مع العراق ، بسبب وقوع سورية تحت الإنتداب الفرنسي ، والعراق تحت النفوذ البريطاني ، و ما تلا ذلك من حرمانها من مينائها الأساسي ” الإسكندرون ” مع أوربا.
ب – العصر الحديث : 1918-1973
استطاعت القاهرة أن تحتضن المركز الإبداعي الجديد ، مستفيدةً من افتتاح قناة السويس ، واستقطاب القاهرة لمبدعين وفدوا من الشام ، نقلوا عناصر اللغة الموسيقية السائدة فيها ، ثم من شيوع الفكر القومي العربي ، ومن تعاصر مبدعين مصريين كبار ، استطاعوا توظيف التقانات الجديدة ، التي شاعت في مصر ، كالأسطوانة والإذاعة والسينما ، في توليد أشكال غنائية غير مسبوقة ، كالدور والمونولج الرومنسي والاغنية الإذاعية والسينمائية ، وفي تحقيق التواصل المباشر عبر الحدود السياسية بين المبدع والجمهور العربي الناهض ، في ظل قوة اللغة الموسيقية الجديدة ، واعتمادها التعبير اللحني عن المعاني ، وتطويردورالموسيقى، وجعلها جزءاً مهماً في البناء اللحني ، وهو ما كرس القاهرة لتكون العاصمة الموسيقية للعالم العربي ، خاصة مع شيوع تقليد الحواضر العربية الأخرى لنتاجها .
استفادت بيروت من قوتها الاقتصادية ، وأجواء الانفتاح السياسي فيها بين الخمسينات والسبعينات ، في تشكيل مركزٍ إبداعي مواز لمركز القاهرة ، استند في تشكله إلى تواصله مع مركز القاهرة الإبداعي ، ونتاجاته المتقاطرة يومياً ، وإلى فولكلور بلاد الشام ، وانفتاح بيروت على الغرب ، مع توظيف متجدد للمسرح الغنائي العربي ، فيما وفرت إذاعات دمشق ، و الشرق الأدنى ، والقدس ، ومهرجانات بعلبك ، إمكانات النشر واستهداف السوق .
انتهى دور هذا المركز مع الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات ، مثلما أنهت نكسة حزيران 1967 ، وما تلاها من قطيعة مع العالم العربي لأسباب سياسية ، مركز القاهرة الرائد.
ت – استمرار المراكز التقليدية في العيش على تاريخها
على التوازي ، استمرت الحواضر القديمة في اختزان ماضيها ونشره قدر استطاعتها ، فاستمرت دمشق في تقديم تاريخها ، مع تحويله باتجاه الغناء الصوفي ، بعد أن أصبحت عاصمة الحج العثماني ، واستمرت حلب مع قدودها الحلبية ، وأغانيها الدنيوية ، واستمرت بغداد مع مقامها العراقي ، أما الأندلس فقد انتقل تراثه بعد خروج العرب منه إلى المغرب العربي وحلب مرة أخرى ، ليتحول المغرب العربي إلى مركز اختزان للغناء الأندلسي القديم ، دون أن يشكل لنفسه مركز إبداع خاص على المستوى العربي ، لافتقاده إلى القوة السياسية أو الاقتصادية اللازمة ، و لكي تضيف حلب إلى سمعتها ، أنها أصبحت مركزاً لتطوير أصول الغناء الأندلسي في المشرق العربي ، مستفيدة من قوتها التجارية. تميز السودان بلونه الخاص لاعتماده السلم الموسيقي الخماسي ، ما أضفى عليه طابعاً محلياً صرفاً.
ث – من منتصف السبعينات و حتى انتشار الإنترت والقنوات الفضائية غير الحكومية في عام 2000
من جديد ، عادت القوة الاقتصادية لتكون حافزاً لتشكل مركز جديد ، بعد أن وهنت القوى السياسية العربية ، ليتحول الخليج ذو القوة الاقتصادية الناشئة ، إلى مركزٍ للإبداع الغنائي العربي ، مستنداً إلى تراث اليمن ، الذي كان قد ولّد نواة مركز إبداعي موسيقي قديم ، ولما لم تكن لديه القوة السياسية أو الاقتصادية لنشره ، فقد وجد فرصته عندما شكل بذرة انطلاق لمركز الخليج ، الذي قام بتلقيح التراث اليمني والخليجي عموماً بعناصر اللغة الموسيقية العربية التي تم تطويرها في مركز القاهرة ، بفعل الدارسين من أبنائه فيها ، مضمَّخاً بجماليات الإيقاعات الخليجية .
ثانياً : الواقع الحالي للتكامل الموسيقي العربي وآفاق تحفيزه باستخدام تقانة المعلومات والاتصالات
يمكننا الادعاء اليوم ، أن اللغة الموسيقية العربية ، استطاعت ، خلال خمسين عاماً جاءت في قلب القرن العشرين ، ومن خلال قفزات نوعية متسارعة، بل ومفاجئة أحياناً، أن تعبر عن مختلف المشاعر العاطفية ، والوطنية ، والقومية ، التي سادت في زمانها ، و أن ما أتى بعدها ، مع بعض الاستثناءات ،كان فقط شكلاً من أشكال التكرار لعناصر تلك اللغة ، في ظل الافتقاد إلى مركز إبداعي جديد يحمل الراية.
إننا نعتقد أن هناك فرصة تولد أمام التكامل الموسيقي العربي من رحم الأزمة ، التي يؤطرها التناقض الواضح بين انكسار الفكر القومي على المستوى السياسي ، و ما يتبعه بالتالي ، من سعي قيادات كل مركز من مراكز الإبداع الموسيقي العربية ، إلى التمسك بتعميق هويته الخاصة وإبرازها ، على حساب الرصيد الموسيقي الجمعي الذي تطور في الفترة الماضية ، وبين انفتاح الشباب العربي على ذلك الرصيد ، والإقبال على متابعة آلاف التسجيلات القديمة المجسدة له على مواقع التواصل الاجتماعي .
ولتوليد هذه الفرصة ، يبدو ملحاً السعي لاعتماد تقانة المعلومات والاتصالات كأداة رئيسية لتحقيق أهداف التكامل الموسيقي العربي ومنها :
1- الإسهام في تعزيز الهوية القومية العربية.
2- توثيق الرصيد الموسيقي العربي بشكل علمي ومنهجي.
3- ضمان استدامة الإبداع الموسيقي العربي المشترك ، واستمرارية العناصر المحفزة عليه ، كالإنتاج ، والنشر ، والتسويق ، والبحث ، والتعليم ، والتنافس والرعاية.
4- تطوير اللغة الموسيقية العربية الجامعة ، لتمكينها من التعبير عن التغيرات الطارئة على المشاعر والأحاسيس التي تشكلت عند العرب منذ نهايات القرن العشرين ، ومواكبة وتحفيز طموحاتهم المشروعة في مستقبل أفضل.
مما يتطلب القيام بتحليلٍ دقيق للعناصر التي تحكم مسار التكامل الموسيقي العربي المستقبلي من منظور تقانة المعلومات والاتصالات ومنها:
1- نقاط القوة التي يتمتع بها التكامل الموسيقي العربي نظراً لاعتماد الغناء العربي على اللغة العربية الجامعة ، وعلى اللغة الموسيقية العربية السائدة ، إضافة إلى رسوخ الأغنية العربية التقليدية في وجدان الكبار والشباب ، حسبما تظهره الأعداد الكبيرة لمشاهدات الإبداعات الموسيقية العربية التقليدية ، على مواقع التواصل الاجتماعي.
2- نقاط الضعف التي يعاني منها بسبب غياب التنافس المعهود بين المبدعين ، والافتقاد إلى ما تعودته المراكز الطرفية ، من وجود مركزٍ قائد لمسيرة الإبداع الموسيقي العربي ، يتحمل مسؤولية التطوير ، وإلى استراتيجية واضحة للتعامل مع التقانات الجديدة ، إضافة إلى تخلف الفكر الموسيقي العربي عن سياق الفكر العربي الحضاري.
3- الفرص المتاحة أمامه ، في ظل التطور الإعلامي والتكنولوجي ، من خلال بروز الفضائيات العربية العابرة للجنسيات ، وشبكات الاتصال ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وشركات الإنتاج العابرة للجنسيات العربية ، وكون العالم العربي سوقاً كبيرة للإنتاج الموسيقي العربي العابر للحدود وخاصة الشباب.
4- التهديدات التي يتعرض لها ، بسبب انكسار الفكر القومي العربي ، و الخلافات السياسية العربية ، و اشتداد تأثيرات العوالم الموسيقية الأخرى المتوفرة بشكل كير على شبكة الإنترنت ، إضافة إلى غياب الموسيقى الاصيلة عن المنافذ الإعلامية ، وسيطرة شركات الإنتاج الباحثة عن الربح .
وأن يترافق ذلك مع القيام بعملية نمذجةٍ لمسار التكامل العربي على مر العصور ، نقدم فيما يلي مدخلاً لها ، بغية استكشاف فرص إعادة إنتاجه.
ثالثاً : النموذج الإطاري للتكامل الموسيقي العربي في عصر المعلومات
اتخذت مسيرة التكامل الموسيقي العربي على مر العصور نموذجاً واحداً ، تجسد في تشكل مركز إبداعي أساسي في حاضرة من حواضر العرب ، تبعاً لعوامل سياسية أو اقتصادية ، تمتد عادة لجيل كامل على الأقل ، يصبح خلالها ذلك المركز المرجل الذي يستقطب ويصهر المواهب الموسيقية العربية ، سواء كانت موجودة فيه ، أو وافدة إليه ، وعناصر اللغة الموسيقية القديمة ، لينتج إبداعاً جديداً ، مستنداً في ذلك إلى التنافس الإيجابي الذي ينشأ بين المبدعين المقيمين في المركز ، والتكامل بين أعمالهم ، في إطار جدلية الإبداع والاستلهام ، بما يؤمن صياغة لغة موسيقية جديدة ، فينشرها بقوته الاقتصادية ، فيما تصبح الحواضر العربية الأخرى ، سوقاً لإنتاج ذلك المركز ، مع امتدادات إبداعية فيها ، تنهل من نتاج الإبداع الموسيقي في المركز الرئيسي وتقلده ، وعندما تنتهي العوامل التي شكلت المركز ، تنتقل عناصره الإبداعية الأساسية وفق صورتها النهائية ، من خلال مبدعين أو دارسين في ذلك المركز ، إلى حاضرة عربية أخرى ، يتشكل فيها مركز إبداعي جديد ، تبعاً لعناصر القوة السياسية أو الاقتصادية ، فينطلق ابتداء من خلاصة التجربة الإبداعية السابقة في إنتاج إبداعاته الموسيقية الجديدة ، بما يحقق استمرارية التكامل الموسيقي العربي عبر العصور ، وبما يجعل الناتج الموسيقي العربي في كل زمان ومكان ، يختزل حقب التاريخ الموسيقي العربي مجتمعة ، مضيفاً إليها الجديد المولَّد فيه . بالمقابل ، يكتفي المركز القديم بالعيش على ذاكرة أمجاده ، وتلقي إبداعات المركز الجديد وتقليدها . ولما كانت استجابة الجمهور العربي عابرة للحدود السياسية ، بسبب قوة النشر ، وسهولة تسلل الموسيقى العربية إلى وجدانه ، فقد حافظت الموسيقى العربية الكلاسيكية على وحدتها ، متجاوزة الحدود السياسية والخلافات الطارئة منها والمزمنة.
رابعاً : محرك التكامل الموسيقي العربي: مركز إبداعي افتراضي
إننا نقترح في هذه الورقة أن يتم وضع استراتيجية واضحة تعيد إنتاج الظروف المشكِلة للمراكز الموسيقية الإبداعية ، ولكن على مستوى العالم العربي هذه المرة ، تستفيد من تقنيات المعلومات والاتصالات ، وتقوم بتشكيل مركزٍ إبداعي افتراضي ، تؤمن له فضاءه المعلوماتي العابر للحدود السياسية ، والقادر على تخزين خلاصة الإبداع الموسيقي العربي ، كما وصلنا مع نهاية القرن العشرين ، وعلى تحليل ذلك الإبداع ، موسيقياً ، وتاريخياً ، من خلال نظام معلوماتي خاص بالموسيقى العربية ، على أن يسمح هذا المركز ، عبر منصة معلوماتية واتصالاتية خاصة به ، ومفتوحة للجميع ، بتشكّل جدلية جديدة للإبداع والاستلهام والتفاعل والتطوير والتنافس ، بين المراكز التقليدية للإبداع الموسيقي هذه المرة ، قادرة على تجاوز المسافات التي تفصل بين المبدعين العرب ، وصياغة مشاريع مشتركة ، بما يؤدي إلى توليد لغة موسيقية عربية جديدة ، تستند إلى عناصر اللغة الموسيقية التي تشكلت خلال القرن العشرين ، تولي اهتماماً خاصاً بالقصيدة الغنائية العربية ، وتجسد عناصر الهوية القومية العربية ، وتعبر عن مشاعر وعواطف وهموم الإنسان العربي المستجدة .
[1]تتجاوز هذه الدراسة الغناء الفولكلوري والريفي لطبيعته المحلية والبسيطة ، رغم امتداده الجغرافي أحياناً ، دون استبعاد كونه مصدراً للإلهام في الكثير من الإبداعات المدينية المتاخمة، مستندين في ذلك التقسيم ، إلى أن التواصل والتكامل بين الحواضر العربية ، كان دائماً لإنتاج عناصر موسيقية جديدة تعبر عن عصرها ومتغيراته.