أذاكرٌ أنت بصوت فيروز من ألحان رياض السنباطي -2 : رغم نتائج التصويت السيدة فيروز كانت محقة في عدم نشر تسجيل هذه القصيدة كاملاً وإليكم الأسباب .. والمعالجة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في نشرتي السابقة ، توقفت عند المشهد الذي نُشر مؤخراَ ، من قصيدة أَصَابعـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ  ، للشاعر جوزيف حرب ، من ألحان رياض السنباطي ، وأداء السيدة فيروز . في تلك النشرة ذكَّرتُ بأن الأستاذ السنباطي ، وقبل عام على رحيله عام 1981 ، لحن للسيدة فيروز ثلاث قصائد هي : قصيدة أَصَابعـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ ، و قصيدة  بيني وبينك ، من كلمات الشاعر جوزيف حرب ، و قصيدة ثالثة هي :  آه لو تدري ، من كلمات الشاعر عبد الوهاب محمد .
كان الأستاذ السنباطي قد أعلن عن ذلك في مؤتمر صحفي عقده في فندق البريستول في بيروت يوم السبت  26 نيسان / أبريل 1980 ، ، وأعلن فيه أن التسجيل سيتم قريباً ،  في سابقة نادرة ، إذ عرف عنه ابتعاده عن الأضواء وعن اللقاءات والمؤتمرات الصحفية!
لاحقاً سجَّل السنباطي الألحان الثلاثة بصوته مع العود ، لكي تحفظها السيدة فيروز ، ثم غاب ذكر هذا الموضوع ، إلى أن أثاره الأستاذ أحمد السنباطي ، نجل الأستاذ رياض ، بعد وفاة والده ، التي أتت بعد عام ونصف على المؤتمر الصحفي المذكور ، متسائلاً عن أسباب عدم تقدم المشروع ، ثم وبعد طول انتظار لإجابة ما ، قام بنشر التسجيلات بصوت والده .. ومنذ ذلك الوقت ثار جدل لم ينته ، حول الأسباب التي منعت نشر التسجيلات ، في حين لم تحسم المعلومات المتضاربة ، حقيقة إنجاز التسجيلات أصلاً!

يؤكد المشهد المنشور مؤخراً ، والذي نشرته في نشرتي السابقة ، وأنشره أدناه أيضاً ، في سياق التحليل المقارن الذي أقوم به ، أن التسجيل حصل ، على الأقل لقصيدة أَصَابعـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ  ، فلماذا لم يُنشر ؟ وهل سجلت فيروز اللحنين الآخرين؟

بعيداً عن هذا الجدل ، وبما أنني كنت قد نشرت تسجيل المشهد المشار إليه ، في نشرتي السابقة ، كما نشرت تسجيلاً مقارناً ، بين أداء الأستاذ السنباطي والسيدة فيروز ، للمشهد المنشور مؤخراً ، في سعي للبحث عن أسباب خفية محتملة  للتردد ، كنت بينتها في نشرتي السابقة ، فإنني أنشر اليوم  ، التسجيل الكامل لقصيدة أَصَابعـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ ، بصوت الأستاذ السنباطي .
أنشر اليوم أيضاً  نتائج التصويت الذي طرحته في سياق نشرتي السابقة ، حول رأي الجمهور ، في ضرورة نشر التسجيل الكامل بصوت السيدة فيروز كما هو ، فيما سأنهي المقال ، ومن خلال المبدأ الذي يقوم عليه أسلوبي المبتكر ، في تحليل الأعمال الغنائية ، منذ برامجي التلفزيونية الأولى ، في أن الوثائق الصوتية تحمل معها في خلاياها حقائقها الخفية ، بتبيان رأيي في الأسباب التي جعلت فيروز تتردد  ، محقةً ، في عدم نشر هذا التسجيل كاملاً ! كما طرحتُ حلاً يسمح بنشره دون صعوبات تذكر!

أولاً : التسجيل الكامل لقصيدة أصابعي منك في أطرافها قبل بصوت السنباطي
يسمح هذا بالتمعن في بناء اللحن بشكل متكامل ، و بالحكم بشكل أولي على مدى ملاءمته للسيدة فيروز! وإن كان الحكم النهائي يتطلب الاستماع إلى النسخة الفيروزية .. إن نُشرت!


ثانياً : التصويت :
بينت نتائج التصويت الذي طرحته في نشرتي السابقة ،  أن الأغلبية الساحقة أيدت نشر تسجيلات السيدة فيروز لألحان السنباطي ( 232 صوتاً مؤيدا  مقابل 16 صوتاً رافضاً ) ، فيما تقاربت نتائج تفضيل أداء السيدة فيروز أو أداء السنباطي ، لصالح السيدة فيروز ( 88 صوتاً لأداء السيدة فيروز في هذا المشهد ، مقابل 75 صوتاً للسنباطي ).

نتائج التصويت حتى الآن


ثالثاً : التحليل المقارن الذي يوضح رأيي في إمكانية النشر
النقطة الأولى : التعبير عن المعاني عند عبارة  : أَذاكِـــــــرٌ أنتَ وَجهِـــي إنَّهُ زَمَــــنٌ عليهِ مـــرســومَةٌ..

لندقق لدى الاستماع إلى التسجيل التالي  في أسلوب أداء  عبارة : أَذاكِـــــــرٌ أنتَ وَجهِـــي ، إنَّهُ زَمَــــنٌ عليهِ مـــرســومَةٌ..عند فيروز والسنباطي ..


يظهر التسجيل بوضوح أن أداء كلمات : أذاكرٌ أنت .. وجهي .. زمنٌ .. أتت عند السنباطي عابقة التعبير عن الحسرة والألم ، بل و حتى عن استعطافٍ من الحبيبة ( إذ أن الكلمات تشير إلى حبيبة تخاطب الحبيب ) .. سواء في تلَوُنِ الأداء ، أو في التوقف السريع المتحسر في نهايات الأحرف، مع تهدج الصوت في بكائية مختنقة ، وهو ما لم يظهر في أداء السيدة فيروز الذي أتى محايداً نسبياً ..

من حيث المبدأ لاشك في أن فيروز استمعت إلى التسجيل عشرات المرات ، وأعتقد أن أداء السنباطي العابق بالحسرة ، الذي أتى متلائماً مع أجواء النص ، لم يلاق لديها الاستجابة ، في ظل نجوميتها ، أمام مخاطبٍ كان لا يزال على قيد الحياة ، وهي في خضم صراع فني معه ..

لقد اعتادت فيروز في تلك الفترة ، كما أرى ، وهي المقتصدة في الكلام ، أن تقول كلمتها عبر أغانيها .. وكانت تريد من هذه القصيدة أن تعبر عن مشاعرها ، دون أن تنسى نجوميتها!

يعكس هذا بوضوح أن السيدة فيروز وهي خير من عبَّر عن المعاني ، قصدت هذا الأسلوب في الأداء ،  أي أنها أرادت الابتعاد عن أداء السنباطي ، الذي لم يلائم شخصيتها في مخاطبة الحبيب ، أو أنها ، وهذا احتمال وارد أيضاً ، في ظل أنها هي من اختار القصيدة التي تعبر عن مشاعرها ، كانت مترددة حتى وهي تقوم بالتسجيل ، إذ أنها تقدم على خطوة جديدة  وجريئة ، عندما ترسل رسالتها عبر لحن من السنباطي ، وهو المؤسس لمدرسة أخرى ، بعيدة كلياً عن مدرسة الأخوين رحباني ، في حين تخاطب القصيدةُ الملحنَ الأساس !  ناهيك عن أن رسالتها العاطفية تُحمل لأول مرة عبر ملحن من خارج الأسرة الرحبانية ، بينما كانت الرسائل  الأخرى ، التي ظهرت خلال فترة الفراق الفني الذي حل بينها وبين الأخوين رحباني ، قد اقتصرت على ملحنين من داخل الإطار الرحباني.
لاشك في أن هذا الاحتمال المسبب للتردد  واردٌ أيضاً :  الاستمرار مع ملحنٍ آخر من خارج السرب وطيف الأول حاضرٌ!!  إنه صراعٌ بين العقل و العاطفة  : العاطفة اختارت النص .. والعقل قيَّد الأداء!

على كل الأحوال ، أعتقد أن السنباطي ، بما له من قدر ، لو كان موجوداً أثناء التسجيل ، لكان أمكن أن يعطيها جرعة عاطفية و معنوية ، تسمح بتجاوز هذه الاحتمالات!

ولكن كيف أحكم أن السنباطي لم يكن موجوداً ! رغم عزف العود المرافق؟  وهل حمل التسجيل نقاطاً أخرى تؤكد ماذهبتُ إليه؟


النقطة الثانية : اللفظ وأخطاؤه!

في الواقع ، لقد حمل التسجيل الذي أتى في دقيقتين و27 ثانية فقط نقطة أخرى ،  أهم من سابقتها ، و تؤكد صواب قرار السيدة فيروز ، في عدم نشر التسجيل بشكل كامل بشكل علني ، كما تؤكد أن السنباطي لم يحضر التسجيل : لو تابعنا كلمات القصيدة التي أعيد نشرها هنا ، لوجدنا أن الروي فيها ( الحرف الأخير في كل بيت ) هو اللام المضمومة :

أصَابِعِـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ
قَبَّلتَهُـــــنَّ فَهُــــنَّ الجمرُ يَشتَعِلُ

بـــريدُ حُبِّــــكَ في كَفـَـيَّ يَحمِـــــلُهُ
إليكَ خَوفَ يَضيْعُ العَشرةُ الرُسُـلُ

قدْ أقبلَ اللَّيلُ وَحـدِيْ أنتَ لستَ معي
لَيلانِ لَيْلي فَقـُــلْ لي كيفَ أَحتَمِـلُ

إنَّ الـــرسائِلَ تبكِـــي والعِنَـاقُ يَرى
دمعَ الـوداعِ ، أنا المَنـديلُ والخُصَلُ

أنا القتيـــلةُ والعُشَّـــاقُ قِصَّتُهُــــــمْ
أشهى الذي جاءَ فيها أنَّهُــم قُتِلوا

هَوىً وذكـــرى ووَعْــــدٌ ضائِعٌ وأنا
حوريةٌ بمياهِ الــرِّيحِ تَغتَسِـلُ

يا لَلأَحِبَّــةِ نَهـــــوَاهـُـمْ ونَعشَـقُهُـــم
حتّى إذا صَارَ يُبكِي بُعْدُهُم رحَلوا

أَذاكِـــــــرٌ أنتَ وَجهِـــي إنَّهُ زَمَــــنٌ
عليهِ مـــرســومَةٌ أيّامُنَـــا الأُوَلُ

عينايَ إنْ ضاقَتَا بالــدَّمعِ لي جَسـَــدٌ
وأنتَ عنـّي بَعيْـــــدٌ كُــلُّه مُقَـــلُ

ما كنـتَ ترحَـــلُ في يومٍ وتتــــرُكُني
لو كنتَ تعلَــمُ كمْ أهـواكَ يا رَجُـلُ

أمشـــي إليكَ فعُمـــــري كُلُّهُ سَفـَـــرٌ
أمشي إليكَ على جَفنِي ولا أَصِـلُ

لندقق عند الاستماع للتسجيل التالي  إلى عبارة أيامنا الأوَلُ … لقد أتت اللام عند الأستاذ السنباطي مضمومة وصحيحة .. ( الأوَلُ هي صفة للأيام ) ، فيما أتت عند السيدة فيروز : أيامنا الأوَلِ بالكسر ( وكأنها صفة ل: نا في كلمة أيامُنا ، حيث : نا ( المتكلمين ) ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه ) وهذا خطأ يمكن أن يحصل ، وقد لا ينتبه إليه إلا المختصون في اللغة العربية.

لنتأكد أولاً من خلال هذا التسجيل المقارن:


ولو عدنا إلى تسجيل المقتطف الكامل بصوت السيدة فيروز ، لوجدنا أن هذا الخطأ تكرر في المرتين اللتين أعادت بهما هذه العبارة في التسجيل ..


طبعاً أخطاء اللفظ موجودة .. وهناك تسجيلات لكبار المطربين حملات أخطاء في اللفظ ، بداعي السهو ، ومنها مثلاً ما ورد في قصيدة الجندول لعبد الوهاب ، عند مقطع : ذهبيُ الشعر شرقى السمات ، حيث نطق عبد الوهاب كلمة ( الشَعر ) بالكسر .. فتغير المعنى ، وكذلك عند : يوم أن قابلتُه أول مرة ، فلفظ قابلتُه : قابلتَه بالفتح ، ثم صحح ذلك عن تكرارها في التسجيل ، ولطالما ذُكرت هذه الأخطاء وغيرها عند كبار المطربين. على كل حال هذا ينهي احتمال نشر التسجيل المتوفر كما هو ، و يؤكد ضرورة إعادته ، إذ ليس من المحبذ أن تنشر السيدة فيروز تسجيلاً ، يحمل خطأً واضحاً في اللفظ! ويبقى الأمل معقوداً أن تكون قد انتبهت إلى هذا الخطأ ، وأعادت التسجيل في سياق سنوات الثمانينات.
يثبت هذا الخطأ أن السنباطي لم يحضر هذا التسجيل ولم يشرف عليه ،  فلو كان حاضراً لكان طلب تصحيح هذا الخطأ  مباشرة ! .. يقطع هذا إذاً بأنه لم يكن موجوداً ، وأن عازف العود المرافق لم يكن الأستاذ السنباطي ، وإنما هو عازف آخر ، حاول قدر الإمكان تقليد عزفه ، دون مبرر واضح!

معالجة بسيطة تسمح بنشر التسجيل في حال رغبت السيدة فيروز في ذلك

يمكن إعادة تسجيل هذه العبارة فقط : أيامنا الأوَلُ ،  ثم أخذ الحرف الأخير : لُ ووضعه في مكان الحرف : لِ ، وذلك باستخدام تقنيات المونتاج والمكساج  ، وهذا متداول الآن في التسجيلات الحديثة!

بالنتيجة

 أنا أرى  بالنتيجة ، رغم أن هذا لا يتوافق مع نتائج التصويت ،  المدفوع بعواطف المحبـة لفيروز ، وبالتشوق لسماع أي عمل جديد بصوتها ، ورغم أنني أيضاً أترقب جديدها ، في سياق عملي منذ سنوات ، على كتابة مجلدها الخاص ، في مشروع كتاب الأغاني الثاني  ، أن فيروز كانت محقة في عدم نشر التسجيل الكامل  نشراً عاماً للجمهور ،  فإننا إن تجاوزنا موضوع اختلاف أسلوب التعبير عن المعاني في الأداء ، فالسيدة فيروز حرة في اختيار مسارات التعبير التي تلائم شخصيتها ، إلا أنه حمل خطأً يصعب قبوله في تسجيلٍ لفيروز ، ما يؤدي إلى ضرورة تصحيحه وبسهولة ، وفق ما ذكرتُ أعلاه ، في حال رغبت السيدة فيروز في إطلاق ألحان السنباطي بصوتها ، هذا إن لم تكن قد أعادته أصلاً .. وهو ما آمله!

ولكن .. لماذا سعت السيدة فيروز لكي تغني من ألحان السنباطي أصلاً .. ثم ترددت!  وهل جاء ذلك  أيضاً في إطار الفعل ورد الفعل بينها وبين الأخوين رحباني ، في تلك السنوات الصعبة ؟ وهل كانت النجاحات التي تحققت في الثمانينات مع زياد ، وخاصة في الجولات والحفلات الخارجية والأسطوانات ، من أسباب ذلك التردد ؟  أكيد .. ولهذا حديث آخر!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.