لعبة الأيام لوردة : إبداعٌ في اللحن والأداء دمجَ التطريب والتعبير والقالب في جملة لحنية واحدة ووازن دخول الملحنين الشبان عالم أم كلثوم!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في بداية عام 1963 ، وكان قد مضى على تأسيس التلفزيون في مصر حوالي السنتين ، تم تصوير أغنية جديدة للسيدة وردة الجزائرية ، في تجربة جديدة تلفزيونياً : لعبة الأيام ، من كلمات علي مهدي ، و ألحان رياض السنباطي. كانت هذه الأغنية من أجمل أغاني وردة ، غنتها قبيل اعتزالها الغناء ، وعودتها إلى الجزائر ، وهي في أوج نجاحها ، لتعود إليه في عام 1972.

لعبة الأيام في إطار العلاقة بين أم كلثوم والسنباطي
جاءت هذه الأغنية ، في وقت كانت فيه أم كلثوم ، قد بدأت التعاون مع الملحنَين الشابَّين : بليغ حمدي ومحمد الموجي ، ولذا كان لابد من تتبع العلاقة بين أم كلثوم والسنباطي في تلك الفترة ، لفهم الإطار الذي أحاط بولادة هذه الأغنية.
كانت السيدة أم كلثوم قد غنَّت في عام 1958 ، خمس أغنيات من ألحان السنباطي ، إذ كان في تلك الفترة الملحن الوحيد لها ، أما في عام 1959 ، فقد غنت له أغنية واحدة ، وكذلك في عام 1960 ، فيما شهد ذلك العام ، أغنتين جديدتين ، من ألحان بليغ حمدي وزكريا أحمد ، بعد الصلح الشهير بينه وبين أم كلثوم. في عام 1961 غنت أغنيتين للسنباطي ، وأغنيتين لبليغ. وفي عام 1962 ، هناك أغنيتان له وحده، وتوقف لبليغ. ولكن .. في عام 1963 ، دخل الموجي الساحة ، مع أغنية للصبر حدود ، في دخولٍ سيكون له تأثيره الكبير على العلاقة بين أم كلثوم وعبد الحليم ، ولهذا حديث آخر ، فيما لا نجد أي أغنية عاطفية للسنباطي معها ، وكذلك الأمر عام 1964 ، فلا أغاني عاطفية للسنباطي، لنجد ما سمي حينها لقاء السحاب : إنت عمري ، مع محمد عبد الوهاب ، فيما نجد في عام 1964 أغنيتين لبليغ!
وهكذا يتبيّن أنه بين عامي 1963 و1964 ، كان هناك توازنٌ جديد في فضاء السيدة أم كلثوم التلحيني ، في مسار الأغاني العاطفية.  وفي هذا الإطار ، يمكن فهم أهمية أغنية لعبة الأيام بالنسبة لوردة وكذلك للسنباطي ، التي تميزت بقفلة ساحرة ونادرة من وردة ، في ختام كل مشهد فيها ، أصبحت إجدى العلامات الفارقة في تاريخ الغناء العربي!
حققت هذه الأغنية ، التي جاءت على قالب المونولوج الرومنسي ، بالتالي ، خروجاً من السنباطي ، عن الأسلوب الذي اعتمده في تلحين أغاني أم كلثوم ، طيلة فترة الخمسينات ، وهو الأسلوب الملائم لأغانٍ تقدم على المسرح أمام الجمهور ، بقيودها وضروراتها ، ليعود إلى تلحين الأغنية الإذاعية ، أو التلفزيونية .. هذه المرة .
أنا أرى أن هذه الأغنية كانت من أجمل ماغنت وردة ، استطاع فيها السنباطي ، حشد قدرات وردة الصوتية ، على مستوى التعبير والتطريب وتقنية الصوت ، لإيصال الأغنية إلى المشاهد في السوية الأكمل .

نظرة إلى النص وملامح التعبير عنه لحنياً
غلَّف النص مشاعر الحسرة والاستنكار والشجن والألم ، وتم التعبير عنها من خلال المقامات الموسيقية المستخدمة ، و من خلال تضاريس اللحن في تخافض الجملة اللحنية للتعبير عن التحسر وتصاعدها للتعبير عن الاستنكار. حمل مقاما النهاوند والكرد مشاعر الحسرة والاستنكار ، فيما جسد مقاما البيات والصبا ، الشجن والألم ، مع جسر مقامي ، على مقام فرعي ، هو الصبا زمزمة عند ورود كلمة الضنى .
لاحظت من البداية أن كلمة ” الأيام ” تتكرر 25 مرة في الأغنية ، ما يعطيها أهمية ، تقابل الأهمية التي وردت لكلمة ” سلسليها ” في أغنية فيروز ، التي نشرتُ تحليلي لها قبل أيام ، ولكن هذا أتى في توظيفٍ معبرٍ عن ذروة القصيدة :  ” لعبة الأيام ” ، وهي في تقديري ، وحسبما يمكن فهمه من النص ، صفة الحبيب الذي تتلاعب به الأيام ، ما يجعلنا نفهم ونعي تماماً ، الإبداع في لحن السنباطي ، الذي أنهى المشاهد الغنائية دائماً ، بقفلة تطريبية رائعة ، أدتها وردة باقتدار كامل ، عند هذه الصفة ، ولكنها حملت كذلك بتصاعدها عناصر التعبير عن الاستنكار ، بسبب مواقف هذا الحبيب ، الذي جعلته الأيام لعبة في يدها! لتنهي المَشاهد والأغنية في ختام معلَّق ، وفق ما يتطلبه قالب المونولوج الرومنسي ..فعلاً منتهى الإبداع!

المقدمة الموسيقية:

تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية هادئة ومرسلة على مقام النهاوند على درجة اللا ، ليأتي عزف منفرد على آلة القانون ، يجسد الحبيب المتلوِّن ، تتلوه جملة لحنية تعبر على درجات صوتية متقاربة ، تسمى موسيقياً الكروماتيك ، تعبر عن الحيرة ، تغلفها رعشات متسارعة من أقواس الكمان تعبر عن الهواجس ، في إطار موسيقى تطوف فيها الحسرة ، لتختتم المقدمة بلمحة قصيرة من الناي تعبر عن الروح المحِبَّة!

النص المغنّى و التحليل الموسيقي / تم تلوين المقاطع متكررة اللحن لإعطاء فكرة عن بناء الأغنية

تضحك لك الأيام .. تهجر وتنساني // تصاعد عند ” تهجر ” استنكاري
تغدر بك الأيام .. ترجع لي من تانى // ترجع لي من تاني : استقرار اللحن للتعبير عن الرجوع
صولو قانون ثم لازمة تذكرني بلازمة وردت في بداية أغنية إنت الحب لأم كلثوم من ألحان عبد الوهاب ، ليأتي مقطع متكرر وهي مقولة الأغنية:
بتغيرك أيام .. وتبدلك أيام
وبتجينى تلاقيني مع الماضي //  تحسر متخافض اللحن
مع الذكرى مع الأحلام
عشان قلبي انا أوفى من الأيام.. تصاعد استنكاري من قلبها الأوفى ومن الأيام التي تلعب بالحبيب
يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام .. // قفلة تطريبية صعبة ومعبرة تحقق الختام المعلق المطلوب في ختام قالب المونولوج الرومنسي
*****
مقدمة موسيقية تنتهي على مقام حجاز أما الغناء فعلى مقام كرد
يا لعبة الأيام ارتاح وريحني // هنا يبين النص أن الحبيب هو لعبة الأيام
ياما غلبت كلام ولا مره تسمعني
مقام بيات تعبيري وشجي عن الجرح:
بتاخدك الأيام أعيش بجرحك
وتجيبك الأيام أعيش لجرحك
بتغيرك أيام .. وتبدلك أيام – مقطع متكرر
وبتجينى تلاقيني مع الماضي // تحسر متخافض اللحن
مع الذكرى مع الأحلام
عشان قلبي انا أوفى من الأيام..
يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام ..
****
مقدمة موسيقية متلونة المقامات تنتهي على استقرار مقام كرد
فى يوم ما الدنيا تغدر بك
وأيام الهنا تخونك // تصاعد استنكاري
وأيام الضنا تذلك / مقام صبا زمزمة للتعبير عن كلمة الضنا
تجينى وتفتكر حبك // تصاعد استنكاري – اللحن متكرر
وأشوف الذل فى عيونك // تصاعد استنكاري
أقول نفسى فدى ُذلَّك
يا أغلى عندى من نفسي // مقام بيات الشجي العاطفي في تفاعل للجملة اللحنية على مقام البيات في المشهد السابق
ما بين أملى وبين يأسي
ضنانى الصبر وجروحي // مقام صبا للتعبير عن الجروح
ولولا بقية من رسمي
وحرف وكلمة من إسمي
لتاهت عينى عن روحي // جملة لحنية مرسلة على مقام الصبا
يا اللى هواك كاسين نفس لحن // نفس لحن بتغيرك أيام
احلى ما فيهم مر
بتاخدك الأيام أعيش بجرحك // جملة لحنية متكررة
وتجيبك الأيام أعيش لجرحك
بتغيرك أيام .. وتبدلك أيام //جملة لحنية متكررة
وبتجينى تلاقيني مع الماضي
مع الذكرى مع الأحلام
عشان قلبي انا أوفى من الأيام..
يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام .. يا لعبة الأيام ..

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.