في الإبداع الرحباني نصاً ولحناً والفيروزي أداءاً والإخراجي ليوسف شاهين: تعا ولا تجي !

شعار كتاب الأغاني الثاني

في دراستي المتأنية حول حياة وفن السيدة فيروز والأخوين رحباني ، أدقق في مسالك الإبداع جميعها .. ومن ذلك ما أنشره اليوم من تحليل ، لجانب من جوانب الإبداع ، في أغنية تعا ولا تجي ، التي أتت في سياق مسرحية بياع الخواتم عام 1964 ، ثم في الفيلم عام 1965 .. وتحديد التاريخ مهم هنا ، فالأسلوب الذي سأشرحه الآن استند إلى أمثلة سابقة ، كنت أشرت إليها ، في تحليل أغنية ” أيظن ” ، من  ألحان محمد عبد الوهاب لنجاة 1960 ، و ” روحي وروحك حبايب ” من ألحان فريد الأطرش لوردة 1963 ، وهو توظيف درجات ركوز الجمل اللحنية للتعبير عن المعاني ..

لنتابع الأغنية : تعا ولا تجي ، من كلمات وألحان الأخوين رحباني.

بصرياً 

تبدأ الأغنية بإضاءة النور .. وهذا تعبير بصري لأغنية الأغنية تبحث عن تفاؤل .. ولو أنه لن يتحقق.. ما يتطلب غياب النور في نهاية الأغنية! كما نتوقف عند قضبان النافذة التي تبرز قيود الحسّاد عندما تغني فيروز أمامها .. وعند الكرسي الهزّاز الذي يعبر عن موقف متأرجح بين عاطفتين .. وكذلك عند الشبح الذي يظهر ويغيب على صورة القنديل في نهاية الأغنية ! طبعاً هذه لمسات إبداعية من المخرج يوسف شاهين كان لابد أيضاً من التوقف عندها!


ينقل عن المخرج يوسف شاهين ، أنه خلال تصوير هذه الأغنية ، تدخّل عاصي معترضاً على حركة قامت بها فيروز أمام الكاميرا، فما كان من شاهين إلا أن أبعد عاصي عن مكان التصوير.. دققت في التسجيل فلم أجد شيئاً يلفت النظر ،  إلا لمحة العين ، التي قامت بها السيدة فيروز لاشعورياً في الثانية 52 من الأغنية ، نحو اليمين ، و بشكل مفاجئ لمدة تقل عن الثانية من الزمن ، ثم عادت إلى نظرتها الساهمة الملائمة لجو الأغنية .. ولعلها تلك اللمحة التي اعترض عليها عاصي وقبلها يوسف شاهين!

النص:

يروى بأن ” منصور الرحباني” كتب الأغنية للتعبير عن قصة حقيقية ، إذ روت له إحدى معارفه ، أنها أحبت جندياً فقد في الأزمة التي عاشها لبنان عام 1958 ، وقد تضاربت الأخبار حوله  ، فهناك من قال بأنه فُقد ، وآخر قال بأنه قطعت رجله ، ففضل الغياب على العودة ، ومنهم من قال بأنه خان الجيش ..
الأغنية تعبر عن تضارب أفكارها ، بين الأمل أن يعود ، و اقناعة بأنه لن لايعود .. فالعيون مسنونة ضده!

موسيقياً

عادة هناك درجة استقرار واحدة للمقام الموسيقي ، وهو في هذه الأغنية مقام الكرد ، فتكون درجة الاستقرار الصوتية هي درجة ” ره ” الموسيقية ،  ولكن نص هذه الأغنية حافل بالمعاني المتناقضة : تعا و لا تجي ، وكذلك ما تضمنه النص من رواية لأسباب هذا التناقض ، وهي الحكايا التي تحيِّك الروايات حول الحبيبين .. ولذا كان هناك 3 درجات استقرار للجمل اللحنية ، للتعبير في توقفاتها ، عن كل موقف من مواقف الأغنية..

طبعاً في أغنية ” أيظن ” كان هناك درجتان صوتيتان للركوز للتعبير عن عاطفتين متباينتين ، وفي ” روحي وروحك ” كان هناك أيضاً درجتان صوتيتان للركوز للتعبير عن الروحين!

لنتابع الجمل اللحنية الخمس التي تميز هذه الأغنية

الشرح

الجملة الأولى تبدأ بدرجة  سي بيمول صعوداً في تعبير عن التمني وتعبر عن مقولة الأغنية بكاملها : تعا ولا تجي .. وتنتهي بذات الدرجة سي بيمول
الجملة  الثانية تستقر على درجة الصول وتغلف : وكذوب عليي ، التي سنرى أنها مخصصة لمواقع النص التي تشرح المقولة وأسبابها
الجملة الثالثة تبرز بوضوح ما أقصده : وتعا .. ولا تجي يستقر اللحن فيها عند درجة استقرار مقام الكرد : ره ، ولكن الموسيقى تعود لتستقر على درجة سي بيمول صعوداً التي كانت جملة ركوز الجملة الأولى!
الجملة الرابعة : رواية الأسباب : والأبر مسنونة والعيون مسنونة وياخوفي الحكي يجي ..  تستقر على درجة الصول التي كانت درجة ركوز الجملة الثانية والقصد هنا أن هذه الدرجة ” صول ” خصصت للشرح .. فيما درجتا سي بيمول و ره خصصتا للتعبير عن التناقض بين : تعا و لا تجي..
الجملة الأخيرة : ختام اللحن ، وتبرز فيها السيدة فيروز المقصود بوضوح إذ أنها تغني : وتعا …. ولا تجي ، فتختم اللحن أولاً على درجة استقرار المقام ” ره ” ، والمفروض أن تتوقف هنا ، ولكنها تعود فتصعد إلى درجة سي بيمول ،  لتختم اللحن عليها ،  مع تلاشٍ للصوت … وهذا تأكيد من الأخوين رحباني لأسلوب توظيف درجات الاستقرار للتعبير عن التردد .. وتأكيد منهما للتحليل الذي أوردته!

طبعاً لم يسبق أن أشير إلى هذا الأسلوب سابقاً .. لأن أغلب الكتابات والدراسات توقفت عند النص الرحباني .. ولم تتوقف عند الإبداع اللحني عند الأخوين ،  أو الإبداع الصوتي عند فيروز،  التي استطاعت أن تعبر في جميع مسالك الأغنية عن الحسرة الكامنة ، والاستسلام للمجتمع الآسر حولها ، مع نبرة متفائلة بكذبة لن تتحقق !

ملاحظة 1: الأغنية نفذت على مقام الكرد مصوراً على درجة السي لضرورات التنفيذ وطبقة صوت السيدة فيروز، أما التحليل فقد تم بناء على الموقع الأصلي لتنفيذ المقام..

ملاحظة 2 للموسيقيين: في تبرير اعتماد مقام الكرد كمقامٍ بني عليه اللحن و ليس مقام العجم:

من البداية،  ذكَّرتُ بأغنيتي أيظن و روحي وروحك، لأنهما اعتمدتا على تلوين درجات استقرار اللحن للتعبير عن معان مختلفة، وهو أساس تحليلي لأغنية تعا ولا تجي.
في اللحن : في تعا ولا تجي درجة السي بيمول ( درجة استقرار مقام العجم ) عبرت عن معنى، و درجة الري ( درجة استقرار مقام الكرد ) عبرت عن معنى آخر، واللحن جال بينهما دون تفضيل: نلاحظ أن الجملة الأولى في الأغنية تختتم على الري،  أما في الختام وبعد الاستقرار على الري فيصعد اللحن إلى السي بيمول.
لابد إذاً من رائز لتحديد المقام، ” وهنا يأتي دور الدرجة الثالثة للركوز التي أتت في مسار اللحن كرائز وهي درجة الصول لتحدد المقام، لأن مقام العجم يتطلب التوقف عند درجة الفا لا الصول في ” مساره اللحني ” وذلك لإبراز جنس العجم أو الجهاركاه على الفا .. وهو ما لم يحصل في اللحن ما أدى إلى اعتماد مقام الكرد!
في النص: لقد تموج اللحن للتعبير عن المعاني، فجملة الدخول اللحنية، التي تأتي على درجة السي بيمول، صدامية وفيها لوعة، مع أمل بأن يأتي الحبيب، إذ يبدأ النص : تعا، فيما يأتي الختام على درجة الري، وفيه تخافض وحسرة للتعبير عن آخر كلمة في النص : لا تجي، ليصعد اللحن مرة أخرى إلى السي بيمول المعبرة عن : تعا لإحياء أمل ” لم يتضمنه النص”.
لتحديد المقام من حيث مسار النص، وتموجات اللحن، اخترت الحسرة، وبالتالي الختام على الري، درجة استقرار مقام الكرد، لأنها هي التي تسيطر ” في أجواء النص”!

د. سعد الله آغا القلعة

نص الأغنية:

تعا ولا تجي وكذوب عليّي
الكذبة مش خطيّة
وعدني أنّو رح تجي
وتعا …. ولا تجي
**
ع عتـاب البواب الأبر عمبتحيّك
بتحيّك تكّاية .. وتحيّك حكاية
والأبر مسنونة والعيون مسنونة
وياخوفي الحكي يجي
**
تعا ولا تجي وكذوب عليّي
الكذبة مش خطيّة
وعدني أنّو رح تجي
وتعا …. ولا تجي
**
الحسد عالطريق .. الحسد عمبيزهّر
زهّر بالدّوارة وزهّر عند الجارة
وغزلت بمغزلها قصتنا بمغزلها
ولوين رح التجي
**
تعا ولا تجي وكذوب عليّي
الكذبة مش خطيّة
وعدني أنّو رح تجي
وتعا .. ولا تجي

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading