ارتجلها آنياً عنواناً ومضموناً بسبب ظروف غير متوقعة : محاضرة الدكتور آغا القلعة عن ريادة أبي خليل القباني للمسرح الغنائي العربي في إطار مهرجان الأغنية السورية عام 2000

فأولاً ..  من كان معلم أيي خليل القباني الأول ؟ المعلم الأول  كان علي حبيب الكركوزاتي ، الذي علمه الموشحات . ماهو الداعي له لكي يتعلم ؟ إنه حب التنافس ؟ أبو خليل إحدى نقاطه المبدعة ، والتي يجب أن تتأمن أو أن تكون موجودة لدى كل مبدع هي الغيرة الفنية ،  التنافس ،  الرغبة في التميز وفي ايصال مافي أعماقه من أفكار. في البداية ،  حضر في صباه سهرة موسيقية ، كان قد تعلم قليلاً من الأغاني كهاوٍ ، ثم اصطدم أو تنافس في تلك السهرة مع مطرب شهير ، وعندما تغلب عليه ذلك المطرب الشهير ، شكل هذا دافعاً له لأن يذهب ويبحث عن علي حبيب ، لكي يتعلم الغناء ، ولا يكرر هذه التجربة المرّة.

لقد أدرك أن الغناء ليس تسلية ، إذ استطاع ذلك المطرب الشهير أن يدخل في موشحات معقدة الأوزان فأذهله ، ولم يستطع أن يسايره  ، من خلال ماكان قد حفظه من الأغاني السائرة.

فإذا البداية كانت جذوة كامنة للتنافس ، لإظهار مقولة ما ، وهي محبة الموسيقى ، لأن علي حبيب الذي ذهب إليه ، وتعلم في شهر كل ما حفظ حبيب من الموشحات ، ماذا يبرز لنا ؟ إنه يبرز أن خيال الظل كان يقدم الموشحات! بمعنى آخر : لماذا علي حبيب يحفظ الموشحات  ثم يعلمها لأبي خليل ؟ لا بد أنه كان يستخدمها .. لعله كان يستخدمها كمغني ، ولكن لم يأت في الأدبيات الغنائية في دمشق أن علي حبيب كان يغني الموشحات .. إذاً لعلنا تستطيع أن نفترض أنه كان يوظف محفوظاته منها في عروض خيال الظل!

وهنا ، وإلى جانب الموشحات ، لاشك في أن أبي خليل توجهت أنظاره ، وهو يتعلم على يد علي حبيب الكركوزاتي ، إلى خيال الظل أيضاً ، ماجعله يفكر في توظيف هذه الأداة الجديدة !

طبعاً بعد أن درس على يد علي حبيب ، لم يكتف بما تعلمه ، لأن ما يعرفه علي حبيب ، يعرفه المطربون ،  ولن يؤمن له التميز ، لأنه يريد التعمق  أكثر ، يريد أن يتميز ، ولعل رحلته المطولة إلى حلب ، وتعرفه على أحمد عقيل ، الرائد الكبير في حلب في مجال الغناء ، و صاحب الصوت الرائع ،   والملحن الكبير كما تصفه الأدبيات ، كانت في هذا الإطار . أخذ عليه موشحات أكثر ، وتعرف على رقص السماح .

و هنا ما هو رقص السماح ؟ أنا أريد أن أتوقف عنده ، أنا لا يهمني أن أسرد السيرة ، فقد سردت في الكتب ، أنا أريد أن أتوقف عند هو رقص السماح .. ما هو وما علاقته المحتملة بالمسرح؟

رقص السماح هو تجسيد بالحركة وبالجسم للحن وإيقاع الموشح..  إذاً هو يحتوي في ثناياه بعض العناصر المسرحية. السماح يبدأ بأن يتقدم شيخ المجموعة إلى شيخ الطريقة ، ويطلب الإذن ( السماح) . والإذن يُعطى بحركات مسرحية ، فعندما تعرف   أبو خليل على رقص السماح في حلب ، على يد الشيخ صالح الجذبة وآخرين ، ورأى .. أنا أريد أن أقول بأننا نعرف أن التطوير اليوم يحتاج إلى كمبيوتر وأدوات كثيرة ، لكن في فترة سابقة ، المشاهدة الواعية هي التي كانت تقود للإكتشاف .. فأنا أعتقد أن أبي خليل القباني عندما اطلع على خيال الظل بقرب ، بسبب هذا الاقتراب من علي حبيب ، و عندما اطلع على رقص السماح وعناصره المسرحية ، وفكرة الحركة بالجسم التي تعبر عن اللحن في حلب .. هذه كانت من المشاهدات الواعية التي لعلها بدأت تنمو في داخله ، لكي يسعى لأداة أخرى .. وسيلة آخرى تدمجهما .. إذا أضفنا إلى ذلك أن أبا خليل القباني كان ملتصقاً بالشعب .. نعم .. هناك مبدعون يعيشون في أبراجهم ، يفكرون ، يتأملون و يفسرون ، وهناك مبدعون من نوع آخر ، يلتصقون بالناس ، بحياة الناس ويكتشفون .. سيد درويش معروف أنه كان من هؤلاء ، أنه كان كثيراً ما يجول في الأسواق ، ويكتشف الحالة ، أبو خليل القباني كان كذلك .. لم يعش كما عمر البطش .. وهنا مقارنة مع عمر البطش .. مثلاً لم يُعرف عن عمر البطش أنه لحن أغانٍ  شعبية .. لم نستمع  إلى لحنٍ لعمر البطش في الغناء الشعبي ، بل ركز على الموشحات ، فإذاً كانت رؤيته ترتكز على رقي الموشحات و أهميتها ، وفي أنها غناء الصنعة المحترم ، الذي يؤدى ضمن طقوس التصوف ، بينما أبو خليل كان مختلفاً ،  في اتصاله بالناس . هذه لعلها نقطة إختلاف بينه وبين مدرسة حلب ..صحيح أنه اطلع على السماح ، وعلى الموشحات معقدة البناء  ، على يد أحمد عقيل ، ولكنه اختلف عن هذه المدرسة في أنه التجأ أيضاً إلى الغناء الشعبي، وهذه نقطة أيضاً هامة في المقارنة مع عمر البطش أو أحمد عقيل  وهذا الإلتصاق بالشعب ، جعله أيضاً على تماس بحكايات المجتمع.

المجتمع ماذا يعني ؟ كل يوم هناك حكايات ..وعِبَرْ .. ساعده على التفاعل معها إتقانه للغات العربية والتركية والفارسية ..  في أول مسرحية كتبها  ، وكانت بعنوان ((ناكر الجميل)) ،  قدم قصة حصلت بين صديقين ، أحدهما خان الآخر ، فإذاً هنا ومن البداية أبرز دور المسرح في تنوير المجتمع الذي هو ملتصقٌ به ، بينما لا نجد ذلك كثيراً في مدرسة الغناء عموماً ، ففي القرن التاسع عشر كان مجتمع الموسيقيين بعيداً عن المجتمع العام .. و ليس كما نحن الآن ، حيث بدأ المجتمع ينظر بعين الإحترام إلى الموسيقى والفن ودورهما في المجتمع .. في ذلك الوقت كان هناك نوع من الإنفصال ، ولذلك مجتمع الغناء الذي كان يؤدى إما في إتجاه الغناء الدنيوي أو الغناء الصوفي أو في طقوس التصوف ، كان بعيداً عن المجتمع،  بينما نجد أن أبي خليل القباني كان مختلفاً .. كان على صلةٍ بالمجتمع  ، ولذلك فكر في أن ينورِّ المجتمع، ولو أنه كان قَبِلَ أن يكون محصوراً في مجتمع هو مجتمع الموسيقين ، فلعل فكرة التنوير كانت ستبقى خارج إطار اهتماماته ، وهذه أيضاً نقطة ريادية لأبي خليل القباني .

الآن هذا الشخص عنده حبّ التنافس ، امتلك هذه الأدوات ، خيال الظل،رقص السماح، وهو الحركة للتعبير عن الموسيقى ، المقولة ، الحكايا ، امتلاك اللغة ، هنا أتى موضوع تغيير الصيغة ، يضاف إلى ذلك بأنه لم يُعرف كثيراً عن أبي خليل القباني أنه كان يتميز بصوتٍ ساحر، هناك من ذهب إلى أنه كان ذا صوت ساحر ، ولكن شهادة من عرف أبي خليل عن قرب ، تعارض ذلك. تلميذه كامل الخلعي ، الذي وثق له ، لم يذكر جمال الصوت ، وإذا كنتم تريدون سأتوقف عند مقولة كامل الخلعي ، إذ قال عنه: شهد له فطاحل الملحنين ، بما له من بديع التلاحين الرقيقة ، وأناشيد الطرب الرقيقة ، فكم له من قطعة رافعة للقدر ، ومدحة شارحة للصدر ، ومرثية مبكية للعيون ،ومقطعات من مختلف الفنون ، أما التمثيل فحدث عنه كما تشاء ، فقد بلغ فيه أستاذنا من الإجادة ما فوق الإرادة ، يجسد الوهم ، ويقربه إلى الفهم ،  يلمس المجاز بالحقيقة ، وما تكلف ولكن أملته عليه السليقة ..

هكذا وصفه كامل الخلعي : أكد على التعبير العظيم في التمثيل .. أود في هذا السياق أن أتوقف عند حادثة معروفة ، عندما قدم أبو خليل مسرحية(( الحاكم بأمر الله)) في القاهرة في دار الأوبرا ،  قال الخديوي توفيق عن أبي خليل الذي مثل دور السلطان ، مبرراً وقوفه لدى دخول أبو خليل المسرح  : لقد ظننته السلطان عبد العزيز بمهابته وقدره وطريقته في الكلام ، وطبعاً الخديوي من هو الشخص الأهم بالنسبة له؟ لاشك في أنه السلطان عبد العزيز في الأستانة ، فإذاً هذا عن براعة التمثيل ، ولكن ما يهمني أن أتوقف عنده ولم يتوقف عنده أحد في حدود علمي ، أن الصوت لم يذكر ، لم يعرف عنه أن صوته رائع ، وهنا تأتي فكرة نسف الصيغة . إنه فنانٌ موسيقيٌ ملحنٌ ، نسف صيغة المطرب السائدة ، وأثبت نفسه بأدواتٍ أخرى ، دمجها في أسلوب  لم يفكر به أحدٌ من قبل.

إذاً هذا عن نسف الصيغة ،  لأن صيغته كانت: صيغة الملحن أولاً ، وليس المطرب ، المؤلف ثانياً ، والممثل ثالثاً .. دون أن يخرج من عالم الغناء .. وهنا أنا أزعم أنه سبق كثيراً سيد درويش ! سيد درويش غيَّر الصيغة فجعلها الملحن – المطرب ، لأنه كان بنفسه يغني في مسرحياته.

هنا نصل إلى أنني قلت أنه الأول لم يسبقه أحد، حسناً .. وماذا عن مارون النقاش ؟ طبعاً أنا في سياق ما تحدثت قلت بأن حديثي لم يكون مبرمجاً أو مبوباً ، لأنه حديثٌ على السليقة ، أفكار أتتني وأنا في الطريق إلى المحاضرة ، توقفت عند أبي خليل بمدرسة حلب ، وخروجه عنها ، باتجاه الغناء الشعبي ، والآن نقارن مع مارون النقاش.

مارون النقاش مختلف، سافر إلى بلاد أخرى ،  وشاهد المسرح ، ولا شك في أن لديه أيضاً بذرة التنوير.

المسرحيات التي  وضعها مارون النقاش كلها أيضاً فيها أمثولة ، وفيها تنوير ، ولكن مارون النقاش لم يكن موسيقياً..  وهذه نقطة أولى. مسرحياته كانت معربة ، إذاً هل هو رائد المسرح الغنائي العربي ؟ هنا لا أستطيع أن أقطع ولا أن أحسم  ،  ولكن .. المسرح العربي ، هل هو المسرح الذي أعتمد على موضوعات عربية ، أم أنه يكفي أنه كان باللغة العربية ؟  إذا كان يكفي أنه باللغة العربية، فمارون النقاش هو أول من قدم مسرحية باللغة العربية، أما إذا كان ما نعنيه بالمسرح العربي ، هو الذي يتحدث عن مضامين عربية ، عن حياة عربية ، عن فعل من المجتمع العربي  ، فهنا أبو خليل القباني هو الرائد.. أنا لا أستطيع أن أقطع  ، ولكن هذا للدقة ، ولذلك عندما أقول أبو خليل القباني رائد المسرح الغنائي العربي ،  أو رائد المسرح العربي يجب أن نتوخى الدقة. والدقة تقول هذا : اللغة أم المضمون؟ أيهما هو الذي يعطي الصفة؟ وهذا المضمون هو مقتبس ، أم من إبداع مؤلف المسرحية؟

النقطة الثانية: مارون النقاش استخدم الموسيقى ..  كانت الموسيقى هي الفن السائد ، ولا يستطيع أحد أن يخرج عنها.  ولكن ماذا فعل مارون النقاش ؟ لقد استخدم أو وظف ألحاناً قديمة شائعة ، وبنى عليها نصاً  في سياق المسرحية التي كتبها ، مقتبساً من نص سابق  ،  إذا الألحان ليست له ، ولكنه وظف ألحاناً سائرة ،  فهل نستطيع أن نقول بأنه رائد  المسرح الغنائي العربي ، طالما أنه لم يكن ملحناً  ؟ بينما ريادة المسرح الغنائي تتطلب أن يكون الرائد ملحناً، فأبو خليل إذاً هو الرائد.

بالنتيجة لا بد من أن أعطي رأياً فأقول : في رأيي الشخصي المتواضع ،إذا عدنا إلى التساؤلات ، هل المسرح العربي هو باللغة العربية ؟ أم بمضمون عربي ؟ وهنا يمكن أن يكون مقتبساً  ، أو تأليف المؤلف ..  هل المسرح الغنائي هو بإستخدام ألحان معروفة أم بتلحين خاص ؟ وطبعاً الإجابة في الحالتين تميل إلى العنصر الثاني  : المسرح الغنائي العربي هو المسرح الذي يضم ألحاناً عربية جديدة ، وهو المسرح الذي يتحدث عن المجتمع العربي  ، في غايته التنويرية ..  المسرح الغنائي هو المسرح الذي يعتمد على ألحان بنيت لتلك النصوص ، وليس على  ألحان كانت لنصوص أخرى وركب لها نص مختلف.

أستطيع إذا وضعنا نظرية الإحتمالات أكثر أو التثقيل أكثر ، فأنا مع أن نقول بإن أبا خليل القباني هو رائد المسرح الغنائي العربي.

الآن ماذا عن محرضات التلحين ؟ مارون النقاش لماذا لم يلحن ؟ لعله تمنى أن يكون قادراً على التلحين ، لكنه لم يكن يمتلك هذه الإمكانية، أبو خليل كان يمتلك هذه الإمكانية  ، و لا شك أن مقاطع في الموضوع كانت بحاجة إلى ألحان خاصة مختلفة عن ألحان الموشحات ، ونحن نعرف أن ألحان الموشحات لم تكن تبحث عن التعبير عن المعاني ،  ألحان الموشحات وخاصة في القرن التاسع عشر كانت أكثر تبحث عن إبراز المقام الموسيقي،  إبراز قدرة المطرب  ، المساحة الصوتية ،  وهذا ما يشهد عليه  أيضاً المقاطع التي نصها مضاف مثل ((ياللي،أمان)) ، والتي قد تمتد على طول الجملة اللحنية ، عندما يقصر النص  .. فهذا  الأسلوب يخرج عن فكرة البحث عن تعبير عن الكلمة  ، فإذاً أبو خليل لم يكن في مقدوره أن يأخذ هكذا لحن لكي يضعه لمقطع تمثيلي فيه تعبير عن عاطفة معينة ، ولكنه يمكن أن يقدمه في سياق احتفالية ما ضمن المسرحية .. وبالتالي لا شك أن اجتماع الأدوات لديه ، هو الذي حرض في نفسه أن يلحن بهذا الإتجاه ، وفعلاً هناك مقاطع كثيرة لأبي خليل لم توثق للأسف ، ولكنها كانت موجودة ، أي أنها لحنت خصيصاً وفق مقتضيات النص ،  ومما يثبت ذلك ، ما قاله الخلعي عن أن أبو خليل القباني ، كان يطلب من سلامة حجازي، وسلامة حجازي أصبح بعدئذٍ من أهم من عملوا في المسرح الغنائي في مصر ، وكان يعمل في مسرح أبي خليل القباني ، وهذه نقطة هامة في هذه البذرة التي بذرها أبي خليل في مصر ، والتي أبدعت نهضة موسيقية كبيرة، سلامة حجازي كان يطلب إليه أبو خليل ، أن يقدم موسيقى تصويرية بصوته ، لدى بعض المقاطع التمثيلية  ، لأنه كان جهير الصوت ،لأنه لم يكن  هناك تكبير صوت كما الآن  ، أي أنه كان يطلب منه في بعض الأحيان مثلاً أن يقلد الرعد  ، فإنسان يريد أن يقلد الرعد كموسيقى تصويرية ، لا يعقل أنه ما كان لحن الألحان اللازمة في المواقف العاطفية ، وهذا أيضاً يثبت ما تحدث به الخلعي من التلاحين المعبرة..

فإذاً بالنتيجة أبو خليل لحن خصيصاً لعمله المسرحي ، وفي هذا تميز ، كما قدم موسيقى تصويرية بشرية ، وهذا تميز أيضاً ، وعلى مستوى الديكور مثلاً ، كُتب عنه أنه إذاكان المشهد عاطفته قاتمة ، فيضع ألواناً سوداء في خلفية المسرح ، وإذا كان على شاطىء البحر ، فيجعل الخلفية زرقاء، أي   أنه كان وعبر  أدوات بسيطة  ، كان يحاول أن يعبر في تعبيرات مباشرة ، أو شبه مباشرة ، عن أجواء المشهد ، وطبعاً هذا يذكرنا بتسميته للشخصيات وفق دورها في مقولة المسرحية : ، كريم .. عفيف ، لكي يوصل الرسالة إلى المشاهد.

يتبع في الصفحة التالية

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading