غريبٌ على باب الرجاء طريحُ لأم كلثوم:قصيدةٌ عاشت عندما توفيت صاحبتها بعد 20 عاماً على تسجيلها فأثارت جدلاً لم ينته!

شعار كتاب الأغاني الثاني

سُجلت قصيدة “غريبٌ على باب الرجاء طريحُ ” للسيدة أم كلثوم ، من ألحان كمال الطويل ، وكلمات طاهر أبو فاشا ، لتكون من أغاني المسلسل الإذاعي رابعة العدوية الذي أنتج عام 1955 ، ثم غابت عن المسلسل عند إذاعته ، إلى أن أذيعت بعد وفاة أم كلثوم ، بعد مرور حوالي 20 عاماً على تسجيلها ، فحار الناس في الأسباب!

اختلفت الروايات في تبرير سبب غيابها ، فمن قائل بأن السيدة أم كلثوم ، وبعد الاستماع إلى التسجيل ، طلبت ألا تُدرج في المسلسل ، وألا تُبث إلا بعد وفاتها! دون أن تحدد الأسباب ..  إلى قائلٍ بأنها أثناء التدريبات على القصيدة في معهد الموسيقى العربية ، تشاءمت بسبب دخول محمد عبد الوهاب صدفة إلى قاعة التدريبات ، ومتابعته للتدريب ، بعد أن دعاه كمال الطويل للبقاء ، ما تسبب في استبعاد القصيدة! إلى قائلٍ ثالثٍ بأن ضعف مستوى اللحن كان السبب! إلى رابعٍ بأن الطويل احتجز التسجيل بسبب خلاف مادي مع أم كلثوم!

وفي الواقع ، فإن مستوى اللحن لا يختلف بدرجة لافتة عن مستوى ألحان كمال الطويل الأخرى ، كما أن وجود التسجيل ، ينفي احتمال استبعاده من قبل أم كلثوم بسبب مستوى اللحن ، أو بسبب تشاؤمها أثناء التدريبات من دخول عبد الوهاب ، وإلا لكانت صرفت النظر عن تنفيذ التسجيل ، إضافة إلى أن الطويل لحَّن لأم كلثوم أنشودة والله زمان ياسلاحي عام 1956 ، أي بعد تسجيل هذه القصيدة ، ما ينفي استبعاد التسجيل لخلاف مادي.
من جهة أخرى ، لو كانت أم كلثوم قد رغبت في استبعاد التسجيل بعد إنجازه ، لكانت أتلفته ، ولو كانت رفضت بثه ، لاحترمت الإذاعة المصرية رغبتها ، حتى بعد وفاتها ، ولم تفرج عن التسجيل!

يبقى احتمال مرجح في رأيي ، وهو أنها طلبت عدم بث القصيدة  إلا بعد وفاتها ، وفق ما جاء في بعض الروايات ، لتكون ، كما أرادتها ، تضرعاً منها ،  وليس من رابعة العدوية ، خاصة أن النص تضمن ما يشير إليها هي ، في إيراد لفظة الغناء مرتين ، كما سنرى ، وأنها ، من جهة اخرى ،  كانت تعاني ، في تلك الفترة ، و منذ بداية الخمسينات ، من مرض الغدة الدرقية ، و أنها سافرت إلى أمريكا للعلاج ، عام 1953 ، ورفضت إجراء جراحة ، لتأثيرها المحتمل على الحبال الصوتية ، فعولجت باليود المشعّ ، و بقيت لفترة طويلة تتناول الأدوية ، ما جعلها تخشى على صوتها وعلى حياتها ، إذ أن العلاج  أصابها بتليُّفٍ في الكلى .. ولاشك بالتالي في أن حالتها النفسية كانت متعبة ، وأنها كانت تخشى الرحيل المبكر عن هذه الدنيا بسبب المرض ، ما يوحي بأن هذا الاحتمال ، في أنها أرادت الأغنية لتكون صوتها إلى الله بعد وفاتها ، متوقع ..  لا يوجد ما ينفيه و لا ما يؤكده ..  إلا المنطق ، كما سنرى من خلال تحليل القصيدة!

الكلمات

غريبٌ على باب الرجاء طريحُ يناديكَ موصولَ الجوى وينوح
يهون عذاب الجسم والروح سالمٌ فكيف وروح المستهام جروح
***
وأهواك لكني أخاف واستحي إذا قلت قلبي فى هواك جريح
طريقي إليك الوجد والسهد والضنى ودمعٌ أداري في الهوى ويبوح
يقولون لى غنّي و بالقلب لوعة أغنّي بها فى خلوتي وأنوح
ولي فى طريق الشوق والليل نائمٌ معالمُ تخفى تارة وتلوح
ولي فى مقام الوجد حالٌ ونشوةٌ بسر الهوى تغدو وفيه تروح
بكيت من الهجران لا من عذابه وداعي الهوى بالوالهين يصيح
***
غريبٌ على باب الرجاء طريحُ يناديكَ موصولَ الجوى وينوح
يهون عذاب الجسم والروح سالمٌ فكيف وروح المستهام جروح

الأغنية

أتت الأغنية على قالب القصيدة الغنائية ، حيث ترتبط الجملة اللحنية بالبيت الشعري ، ويأتي اللحن متدفقاً دون تكرار ، انتقالاً من بيت شعري لآخر ، مقسماً على مشاهد يتشكل كل منا من بيت شعري ، أو بيتين متتاليين ، فيما اختتمت القصيدة بتذكيرٍ بمدخلها.

تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية على مقام العجم ، عبر ضربات موسيقية ، تمهد لدخول آلة الكمان ، التي تجسد أم كلثوم ، الغريبة الوحيدة ، التي تقف على باب الرجاء. في لحن يعبر عن  التضرع ، وعن الحسرة على النفس ، في تخافضاته ، لتأتي الموسيقى متصاعدةً ومعبرة عن الرجاء والأمل ، قبل ختام معبر جداً ، إذ تتوقف الموسيقى عدة مرات ، على الدرجة الموسيقية التي تسبق درجة استقرار مقام العجم ، وكأنه تكرار للرجاء ، متمازجاً مع الألم والترقب ، لتستقر المقدمة على درجة استقرار العجم ، في تمهيد لبدء الغناء.
وبهذا تكون المقدمة قد عبرت تماماً عن مضامين البيت الأول في القصيدة.

حفلت القصيدة بالتغيرات المقامية ، انطلاقاً من مقام العجم في مشهدها الأول ، إلى مقام النكريز في المشهد الثاني عند : وأهواك ولكني أخاف وأستحي ، مع تلوينات يسمح بها مقام النكريز كإدخال جنسي الراست والحجاز، ثم إلى مقام الحجازكار في المشهد التالي عند : يقولون لي غنِّ ، وصولاً إلى مقام الهزام عند : ولي في طريق الشوق ، ليتألق اللحن على المقام نفسه عند الوصول إلى مشهد : ولي في مقام الوجد حالٌ ونشوةٌ ، مع مقدمة موسيقية تبرز فيها آلة الناي ، كما يبرز الإيقاع ، للتعبير عن الوجد والنشوة والحال ( يقال عند دوران المتصوفين بأنهم أخذهم الحال ) ، خاصة أن النص يحدد ذلك في قوله : ونشوةٌ بسر الهوى تغدو وفيه تروح ، ليعود اللحن إلى مقام العجم في الختام.

تجدر الإشارة ،  إلى تأثر كمال الطويل في تلحين جملة : معالمُ تخفى تارة وتلوح ، وأم كلثوم في أدائها لها ، بأجواء لحن السنباطي ، لقصيدة رباعيات الخيام ، التي كانت أم كلثوم قد غنتها قبل سنوات!

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن تألق اللحن عند : ولي في مقام الوجد نشوة ، بقي في منطقة الأصوات المتوسطة ، ولم يصل إلى منطقة الأصوات الحادة ، على ما هي العادة في الأذكار ، في ختامات الألحان ، ما يشي بأن صوت أم كلثوم ،  في تلك الفترة ، لم يكن يساعد على الوصول إلى منطقة الأصوات الحادة ، إلا إذا كان الملحن قد ارتأى ، أن الأجواء العامة للقصيدة لا تسمح بذروة لحنية لامعة ، وهو ما قد أتردد في قبوله ، إذ أن كلمة الوجد لها ثقلها ضمن النص!
يؤيد رأيي ، بأن صوت أم كلثوم ، لم يكن في أحسن حالاته في تلك الفترة ، بسبب المرض ، أن لحن القصيدة بني على عشرة أصوات موسيقية ، وهذه مساحة صوتية محدودة نسبياً بالنسبة لصوت أم كلثوم، كما أن تموضع هذه المساحة قد انخفض عما كان عليه الحال قبل المرض ، ويكفي هنا مقارنة الدرجة الأحدّ التي أدتها أم كلثوم في هذه الأغنية ، وهي درجة الدو جواب ، مع الدرجة الأحدّ في أغنية الأولة في الغرام ، التي أدتها أم كلثوم عام 1944 ، أي قبل 10 سنوات ،  والتي وصلت فيها إلى درجة الفا دييز جواب، بزيادة 3 درجات صوتية كاملة ، لنكتشف مدى تأثر صوتها بالمرض ، والعلاج الذي خضعت له في تلك الفترة!

بالمقابل ، أستطيع ، وأنا أستمع إلى القصيدة مراراً ، أن أؤكد قناعتي ، بأن أم كلثوم ، كانت مقتنعة تماماً باللحن و بالمعاني ، فمن يتابع جرعة التعبير الكثيفة التي أسبغتها على هذه الأغنية ، في المستوى العام  ، ومن ثم على مستوى المفردة الواحدة ،  يتأكد ، أن جرعة التعبير عندها ، عن الرجاء ، وعن  الألم والحسرة ، كانت كثيفة جداً ، بدرجة قد أقول بأنها .. غير مسبوقة!


التسجيل ذاته يُنشر على أنه تسجيل حفلة!
لاحقاً ، وبعد نشر التسجيل الإذاعي للقصيدة ، قامت شركة صوت القاهرة ، المالكة لحقوق إنتاج التسجيل ، وهي شركة تابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون في مصر، بنشر التسجيل ، على أنه تسجيلٌ لحفلة ، فيما قيل بأنه تسجيل مزور ، و أن التصفيق الوارد فيه مضاف بغاية زيادة التسويق ، إضافة إلى ان أي مقارنة بين التسجيلين ، تبين أن عناصر التسجيل الغنائي فيه ، متطابقة مع عناصر التسجيل الإذاعي ! ليزيد هذا من الغموض الذي أحاط بأغنية لم يتح لها أن تعيش ، إلا عند رحيل صاحبتها : أم كلثوم  .. وعندما عاشت كثر الجدل حولها.. ولم ينته ..


د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading