حانة الأقدار لأم كلثوم مع محمد الموجي وطاهر أبي فاشا : إعجازٌ هندسيٌ متكاملٌ نصاً ولحناً!

شعار كتاب الأغاني الثاني

القصيدة التي أتوقف عندها اليوم بالتحليل ، وهي من نظم الشاعر طاهر أبي فاشا ، ومن ألحان محمد الموجي ، لها مذاقٌ مختلفٌ نصاً ولحناً ، إذ أبدع الشاعر في تنويع قوافيها وأوزانها ، بشكل هندسي ، وفق أساليب الموشحات الأندلسية ، كما سنرى ، ما وجه الموجي إلى تشكيلٍ لحنيِّ آخاذ ، تنوعت فيه الإيقاعات والمقامات و الجمل اللحنية وتفاعلت ، بما عبَّر تماماً عما قصده الشاعر من قصيدته!
جاءت القصيدة ، أولاً ، في مسلسلٍ إذاعي بعنوان : رابعة العدوية ، تم بثه عام 1958 ، في أول تعاون بين أم كلثوم والموجي ،  له صبغة عاطفية ودينية ، بعد أغنيتين
وطنيتين : قصيدة الجلاء ، عام 1954 ، من كلمات أحمد رامي ، وفرحة القنال ، من كلمات صلاح جاهين ، عام 1957 ، شكلتا إرهاصاتٍ لتعاونهما في أغاني المسرح عام 1964 ، في أغنية للصبر حدود ، التي نشرتُ عنها على هذه الصفحة منذ مدة ، وشرحتُ خفاياها!
فيما بعد ، وفي عام 1963 ، تم تحويل المسلسل الإذاعي ، إلى فيلم بالاسم ذاته ، وأعيد تقديم أغانيه ، ومنها هذه الأغنية ، على صورة الممثلة نبيلة عبيد.
لنبدأ باستعراض النص ، مركزين على فكرة الجمل القصيرة ، و القوافي الداخلية ، المتماثلة شاقولياً ، ضمن خلايا الأبيات.

النص
أتى النص في ست فقرات شعرية ، تناوبت فيها الأوزان والقوافي ، بشكل مبدع تماماً ، وجدناه أساساً في الموشحات الأندلسية!
لتسهيل المتابعة فقد وضعتُ نجمة لتفصل  بين الشطرات ، وتسهِّل تمييز القوافي المتماثلة شاقولياً ضمنها ، كما لوَّنت الكلمات حيث تتماثل القوافي.
يمكن تصنيف الفقرات الشعرية في مجموعتين : تشكل الفقرات الأولى والثالثة والخامسة المجموعـة الأولى ، فيما تشكل الفقرات الشعرية الثانية والرابعة والسادسة المجموعـة الثانية.
تماثلت الأوزان في المجموعة الأولى ، أي في الفقرات الشعرية الأولى والثالثة والخامسة ، على مستوى الشطرات ، شاقولياً ، و تماثلت فيها القوافي ، في ثلاث شطرات أولى من كل بيت ، واختلفت في الشطرتين الأخيرتين! فيما جاءت الفقرات الشعرية الثانية والرابعة والسادسة ، المشكِّلة للمجموعة الثانية ، متماثلة الأوزان والقوافي ، في الشطرات جميعها ، بل وتم فيها أيضاً تكرار ثلاث كلمات شاقولياً  : الهوى ، الجوى والغوى!

الفقرة الأولى
حانــة الأقدار * عربدت فيها * لياليهـا * ودار النــــــور * والهــــــوى صاحِ
هذه الأزهار * كيف تسقيها * وساقيها * بهــــــا مخمــــــور * كيف يــا صاحِ
*****
الفقرة الثانية
سألتُ عن الحب أهل الهـــــوى * سقاةَ الدموع ندامى الجـــوى
فقالوا حنانك من شجــوه * ومن جِدِّه بك أو لهـــــوه * ومن كدر الليل أو صفــــوه * سلي الطير إن شئتِ عن شدوه
ففي شدوه لمسات الغـوى * وبرحُ الحنين وشرح الجــــوى
****
الفقرة الثالثة
أيكة الأطيار * في أغانيها * لشاديها * على الأغصان * ثــــــــــورةُ الراح ِ
يا غريبَ الدار * مِلْ بنا فيها * نناجيها * مع الندمان * واتـــــرك اللاحي
****
الفقرة الرابعة
ورحت إلى الطير أشكو الهوى * وأسأله سرَّ ذاك الجـــوى
فقال حنانك من جمــــره * ومن نهيه فيكِ أو أمـــره * ومن صحوِ ساقيه أو سُكـره * سلي الليلَ إن شئتِ عن ســرِّه
ففى الليل يُبعثُ أهل الهـــــوى * وفى الليل يكمن سرِّ الجــــوى
******
الفقرة الخامسة
دوحة الأسرار * يا لياليها * بواديها * هنا يلقاك * صبحُ أفـــــــــــــــراح ِ
دائرٌ دوار * في بياديها * يساقيها * على ذكــــــــــــــراك * بين أقداح
****
الفقرة السادسة
ولما طوانى الدجى والجـــوى * لقيتُ الهوى وعرفت الغَـوى
ففى حانة الليل خمّـارُه * وتلك النجيمات سٌمّْــــــــــارُه * وهمس النسائم أســـــــــرارُه * وتحتَ خيام الدجى نــــارُه
وفى كل شيئ يلوح الهـــــوى * ولكن لمن ذاق طعم الهـــــوى
****
تكرار الفقرة الأولى
حانــة الأقدار * عربدت فيها * لياليهـا * ودار النــــــور * والهــــــوى صاحِ
هذه الأزهار * كيف تسقيها * وساقيها * بهــــــا مخمــــــور * كيف يــا صاحِ

اللحن
عندما واجه الموجي هذا النص ، خطط لحنه ببراعة وحنكة ، يستأهلها التعاون مع أم كلثوم ، فجعل لكل فقرة شعرية لحنها الخاص ، الذي يمهد مقامياً للفقرة التالية ، و جعل اللحن يتصاعد تدريجياً ، وصولاً إلى ذروة لحنية في الفقرة السادسة ، قبيل الختام ، كما جعل الإيقاع يتسارع مع تتالي الفقرات ، ليعود فيهدأ ، عند تكرار الفقرة الشعرية الأولى ، في ختام الأغنية ، إذ قرر إعادتها لإغلاق اللحن. ويمكن القول هنا ، بأنه اتبع ما سمي ” مراسيم زرياب في الغناء ” في الأندلس ، من ضرورة تسارع الإيقاعات ، وتصاعد الألحان ، ضمن مسار اللحن ، حتى الختام.

اعتمدت المقدمة الموسيقية على نقرات القانون المتسارعة والمستمرة ، ونقف الكمان لإبراز الإيقاع ، و آلة المثلث التي أعطت بريقاً ، جسد صوتياً ، البريق البصري المتوقع في أضواء حانة!
مقامياً
جاء لحن المقدمة الموسيقية ،  و الفقرة الشعرية الأولى ، على مقام الحجاز كار كرد على درجة الدو ( للموسيقيين : الحقيقة أنني أميل إعتباره على مقام الكرد ، وليس الحجاز كار كرد ، لأنه لم يبدأ من الجواب ، وذلك لأن الموجي رغب في تنفيذ مراسيم زرياب ، في التصاعد من القرار إلى الجواب .  الطبقة الموسيقية للأغنية تم تخفيضها بدرجة صوتية كاملة ) ، لينتقل في الفقرة الشعرية الثانية ، إلى مقام النهاوند على درجة الفا ، لينتقل قبيل ختامها ، إلى مقام الراست على الفا ، عند : ففي شدوه لمسات الغـوى ، كجسر مقامي إذ أن لحن الفقرة التالية ، وهي الثالثة سيكون على مقام الراست ، الذي يستمر البناء عليه في الفقرة الرابعة ، حتى منتصفها ، عند : ومن صحوِ ساقيه أو سُكـره ، حيث ينتقل اللحن إلى مقام الهزام ، حتى قبيل انتهائها عند : ففى الليل يُبعثُ أهل الهـــــوى ، حيث يتم الانتقال إلى مقام الحجاز ، في جسر لحني جديد ، يمهد للفقرة الخامسة التي ستأتي على مقام الحجاز كار ، وكذلك الفقرة السادسة ، التي يتغير فيها المقام قبيل ختامها ، عند : وفى كل شيئ يلوح الهـــــوى ، إلى مقام الكرد ، في جسر لحني جديد ، يمهد للدخول في تكرار لحن الفقرة الأولى ، على مقام الكرد ، واختتام الأغنية.
التفاعلية
سبق أن صنَّفت الفقرات الشعرية في مجموعتين ، تتناوب مكوناتها ، ولكن الموجي ، بنى كل مجموعـة ، وبسبب تماثل الأوزان والقوافي فيها ، وفق مسار مخطط له بعناية ، إذ جاء لحن الفقرة الثالثة ، مشابهاً للحن الفقرة الأولى ، ومتفاعلاً معه ، ضمن المجموعـة الأولى ، وكذلك أتى لحن الفقرة الخامسة متفاعلاً مع الإثنين ، فيما اتى لحن الفقرة الرابعة ، متفاعلاً مع لحن الفقرة الثانية ، ضمن المجموعـة الثانية ، وكذلك لحن الفقرة السادسة ، الذي أتى متفاعلاً مع لحن الفقرتين الثانية والرابعة.
ويتأتى الإبداع اللحني هنا ، في بناء اللحن ، بشكل تتفاعل مكوناته لحنياً وفق المسار الشاقولي ، ولو بشكل متناوب ، بين المجموعتين ، مثلما تناوبت الفقرات الشعرية ، مع توليد جسور مقامية ، ربطت جميع الألحان في سلسلة ، أستطيع أن أشبهها ، في الأدب ، بأسلوب ابن عبد ربه ، في كتابه الشهير ” العقد الفريد ” ، حيث ينتقل من موضوع ، إلى موضوع جديد ، عبر جسر ، ينتهي به الموضوع الأول ، ويبدأ به الموضوع الثاني . فعلاً إعجاز لحني هندسي متكامل نصاً ولحناً!

أدت السيدة أم كلثوم الأغنية ببراعتها المعهودة.

وأخيراً
أعتقد أنني شرحت الموضوع في أيسر طريق ممكن ، وقد يسهِّل الأمر ، متابعة الألوان المضافة على النص ، لمزيد من الإيضاح!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.