بليغ حمدي في ذكرى رحيله : صداميةٌ في افتتاح الأغنية ، و تعبيريةٌ في تقديم المعاني ، و دفقٌ لحني ، و إبرازٌ للكورس – أي دمعة حزن لا ، نموذجاً!

شعار كتاب الأغاني الثاني

تحلُّ هذه الأيام ذكرى رحيل الملحن الكبير بليغ حمدي ، الذي رحل عن هذه الدنيا في 12 سبتمبر / أيلول 1993 ، وقد رأيت في هذه المناسبة أن أتوقف عند بعض ملامح شخصيته التلحينية.

بدأ بليغ حياته الفنية منقباً في المقامات الموسيقية النادرة ، كما سمعنا وشهدنا في أغنيتين شهيرتين : خسارة ، و تخونوه ، لعبد الحليم حافظ ، ثم ساعياً لإدماجٍ مكثف للآلات الموسيقية الغربية ، ومنها مثلاً آلة الساكفون ، كما عمل على إدماج الفن الشعبي في أعماله حتى التي كانت تقدم في إطار كلاسيكي ، ولكنني رأيت في هذه المناسبة ، أن أتوقف عند بعض أهم ملامح شخصيته التلحينية ، كما تطورت في المرحلة الفنية الأخيرة في حياته ، والتي يمكن تتبعها في العديد من الأعمال ، ولكنني سأعرضها من خلال مقتطف من أغنية محددة ، جاءت في ختامات تعاونه مع عبد الحليم حافظ ، وهي أغنية : أي دمعة حزن لا لا ، من كلمات الشاعر محمد حمزة.

لنتتبع في التسجيل المرفق لاحقاً ما يلي :

أولاً : صدامية الدخول ، عندما يسمح النص بذلك ، وهو ما توفر في نص محمد حمزة : أي دمعة حزن لا لا ، وهي الصدامية ذاتها ، التي نجدها في أغنيات أخرى من ألحانه : أنا بعشقك مع ميادة ، وفات المعاد وحب إيه مع أم كلثوم ، ووحشتوني مع وردة ، وكل شء راح وانقضى مع نجاة ، و هي الصدامية ذاتها التي كنا وجدناها ، مثلاً ، في بعض ألحان سيد درويش : صحت وجداً ، سيبوني يا ناس..

ثانياً : زيادة الجرعة التعبيرية في خلايا اللحن على امتداده ، ومنها هنا ، عند نفي الحزن : لا لا ، في تصاعد لحني واضح ، و كذلك في النقرات التعبيرية من الفرقة الموسيقية ، المعبرة عن نبض القلب ، قبيل الدخول في مشهد : و قلبى دق دق دق ، و كذلك حيوية المتزايدة اللحن ، عند الحديث عن الحب!

ثالثاً : الدفق اللحني المستمر ، في هذه الأغنية مثلاً ، على مدى زمني يزيد عن خمس دقائق ، إذ بعد صدامية الدخول ، يشكل بليغ لحناً مرسلاً يغلفه الهدوء ، عند : عايشين سنين أحلام ، ليبدأ الإيقاع بالتسلل ، عند : و قلبي دق دق ، فيتصاعد اللحن تدريجياً ، في دفق لحني مستمر ومتصاعد ، تتداخل معه جرعات متزايدة من حيوية الإيقاع ، ما يجعل نبض الجملة اللحنية يتلاحق ، ويتسارع ، وصولاً إلى ذروة لحنية ، عند : حبينا حبينا ، قبيل الختام ، عند : و ارتحنا و نسينا الجرح بتاع زمان ، مع ختام متخافض قاطع ، يثبت واقع نسيان الجرح.
طبعاً في التسجيل المرفق ، هناك إعادات كثيرة ، كونه تسجيل مقتطف من حفلة ، ولكنني نشرتُ هنا ، نسخة صوتية للمشهد الذي نتوقف عنده ، تزيد مدتها عن خمس دقائق ، أجريتُ فيها تقليصاً للتكرار إلى الحدود الدنيا ، وهي مدة طويلة ، لفقرة لحنية واحدة ، مشكلة من عدة جمل لحنية متتالية ، متصاعدة اللحن والحيوية ، ومتسلسلة بإحكام ، ما يبرز الفكرة التي قصدتها من الدفق اللحني ، الذي غلَّف شخصية بليغ التلحينية في تلك المرحلة.

لا ننسى هنا الإشارة ، إلى أن نص محمد حمزة المتسلسل ، سمح بهذا الدفق اللحني ، ولكننا نجد أعمالاً كثيراً أخرى لملحنين آخرين ، فيها هذا التسلسل ، وتمت معالجتها بأشكال أخرى.

رابعاً : إبراز دور الكورس ،  في توفير المزيد من الحيوية ، على الدفق اللحني في ختامات هذا المشهد من  الأغنية ، حتى أن الكورس هو الذي ينهي المشهد! و كذلك في أغلب الأغاني المشابهة.

لنتتبع الآن النص مع الاستماع:

نسخة مختصرة من أي دمعة حزن لا لا 

النص:
أى دمعة حزن لا لا * أى جرح في قلب لا لا
أى لحظة حيرة لا لا * حتى نار الغيرة لا لا
عايشين سنين أحلام * دايبين فى أحلى كلام
لا عرفنا لحظة ندم * و لا خوف من الايام
و قلبي دق دق دق * قلت مين على البيبان دق
قاللي افتح ده الزمـان * قلت له يا قلبي لأ
جت ليه يا زمـان * بعد إيه يا زمـان
من كام سنة قلبي و أنا * عايشين هنا من كام سنة
من كام سنة دنيا الهنا * بتضمنا من كام سنة
و قال إيه جاي الزمـان يداوينا * من إيه جاي يا زمـان تداوينا
دا الأمل فى عينينا * و الفرح حوالينا
سأل الزمـان و قال * إيه غير الأحوال
قلنا له حبينا حبينا * و ارتحنا و نسينا الجرح بتاع زمـان

الغريب أن بليغ حمدي ، الذي اعتبره عبد الحليم : أمل مصر في الموسيقى ، لم يجد له عملاً بعد أن غاب عن مصر لسنوات ، إذ كانت المنظمة الداعمة للإبداع ، التي كانت أسست لعصر النهضة الموسيقية ، قد تلاشت ، بعد غياب الكبار من المغنين والملحنين والشعراء ، وكذلك غياب عناصر كثيرة أخرى ، لابد من إعادة بنائها ، إن أردنا التأسيس لنهضة موسيقية جديدة ، كما نأمل!

المشهد بدون اختصارات:

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.