عندما تتمايز أساليب الغناء عند كبار المغنين – أم كلثوم نموذجاً : هل الغناءُ اختراعٌ أم ابتكارٌ أم أداء؟

شعار كتاب الأغاني الثاني
بحثتُ في النشرة السابقة في موضوعٍ ، كان أثار جدلاً كبيراً في القاهرة ، حول الابتكار ، ومدى انطباقه على ما تقدمه السيدة أم كلثوم ، وذلك عندما طرُح موضوع ترشيحها لنيل جائزة الدولة التقديرية في الفنون. أنهيتُ تلك النشرة بسؤال : هل كان من الممكن اعتبار أم كلثوم مبتكرة ، موسيقياً؟
تباينت التعليقات على النشرة ، فراسلني أحد المشتركين بأنه يقدر تماماً موهبة أم كلثوم ، ولكنه يعتبرها مؤدية ، وأيده آخر بأن قال ، لو أنها كانت مبتكرة لما تدخل الرئيس عبد الناصر لحسم الموضوع ، فيما أسبغ آخرون صفة الابتكار عليها ، بحسبان أن العمل الفني عملٌ جماعي ، ركائزه : الشاعر و الملحن والمؤدي ، وبالتالي فالمؤدي هو الضلع الثالث للمثلث ، الذي لن يكتمل إلا به.
وفي الواقع ، لعل المشكلة في المصطلحات ، إذ أننا يجب أن نميز بين الاختراع : Invention و الابتكار : Innovation ، وقد كنت ميزتُ بينهما ولم يعلق أحد على ذلك.
ولما كانت المعاجم العربية لا تميز بينهما بوضوح ، فلننظر في الاختلاف بينهما في اللغة الإنجليزية ، حيث يرد:
الاختراع يكون في توليد منتجٍ أو منهجٍ جديد لأول مرة ، أما الابتكار فهو إدخال تحسينات كبيرة ، على منتج قائم يفتح له سوقاً جديدة ، أو على منهج قائم ، يجعله أكثر فاعلية.
ونحن أمام هذا التعريف أمام الاحتمالات التالية :
الاحتمال الأول : أن نعتبر القصائد الأولى في الشعر العربي اختراعاً ، وُلد في الجاهلية ، فعندها يُصنف الشعراء المميزين بعدئذ في شريحة المبتكرين ، ما يعني بالقياس ، أن التلحين الأول في الغناء العربي كان اختراعاً ، وأن الملحنين المميزين يصنفون في شريحة المبتكرين ، ليصنف المغنون المميزون في شريحة المبتكرين أيضاً ، في حال اعتبرنا الغناء الأول اختراعاً . ولكن المشكلة نشأت ، عندما اختُرع التلحين والغناء في آن ، إذ كان الملحن هو المغني ، و قد استمر هذا التقليد حتى بدايات القرن العشرين ، عندما بدأنا نجد ملحنين يضعون ألحاناً لغيرهم ، فأُسبغت عليهم صفة الابتكار ، ليُحرم منها المغنون المميزون ، بينما لو كان التلحين ولد كاختراع مستقل ، والغناء وُلد كاختراع مستقل ، لاعتُبر المغني مبتكراً ، وهنا يصبح كل مغنٍ ولَّد أسلوباً جديداً في الغناء خاصاً به ، مبتكراً ، أما من سار على نهجه ، فيُعد مؤدياً!
وفي السياق ذاته ، فإننا نجد أن المغنين ، بعد أن ولدت طبقة المغنين البعيدين عن عالم التلحين ، حصروا ابتكارهم في الموال ، و التغني بياليل و بالقصيدة ارتجالاً ، وهذا ابتكار ، إذ أنه غناء بدون ملحن ، ولكنه لم يًصنف في الغرب كذلك ، لأن الغرب افتقد الارتجال في الغناء ، منذ زمن بعيد!
الاحتمال الثاني : أن نعتبر الأغنية بمجملها ابتكاراً ، بحسبانها منتجاً ينشر لأول مرة ، ولكن وفق اختراعات سابقة ، وهنا يصبح المؤلف والملحن مبتكرين ، والمغني المميز الشريك مبتكراً ، إن أدخل بأدائه أبعاداً إضافية على الأغنية ، وهو ما يصعب قياسه على مستوى الأغنية الواحدة.
الاحتمال الثالث : أن نعتبر الأسلوب الذي قدمته السيدة أم كلثوم ، وغلَّف مجمل أغانيها على المسرح ، مثلاً ، وذلك بغض النظر عن الكاتب والملحن ، أسلوباً مبتكراً ، طبع غناءها بطابعه الخاص ، ثم سارت على نهجه أصواتٌ عديدة لاحقاً ، علماً بأن هذا العنصر قابل للقياس.
إن قبلنا أحد هذه الاحتمالات ، فقد كان من الممكن للجنة الحكم في موضوع الجائزة ، أن تقول مثلاً بأن الابتكار وقع، عندما ابتكرت أم كلثوم أسلوباً جديداً في الغناء خاصاً بها ، كان مختلفاً تماماً عما كان سائداً ، و عما كانت تقدمه منيرة المهدية مثلاً ، وأن هذا الأسلوب الجديد ، حقق منتجاً غنائياً جديداً ، ( حملته ونشرته الأسطوانة والإذاعة والحفلة والسينما .. ) ، استطاع توليد سوق جديدة ، امتدت لتغطي مساحة العالم العربي ، و قد قلدته الكثيرات لاحقاً ، ( تُسبغ عليهن صفة المؤديات ).
لنأخذ مثلاً التسجيل المرفق ، وهو مقتطف من حفلة للسيدة أم كلثوم ، في حديقة الأزبكية ، عام 1955 ، لأغنية أنا في انتظارك ، من ألحان الشيخ زكريا أحمد . في هذه الحفلة ارتجلت أم كلثوم بما يقارب نصف مدة الاغنية ، وقد اقتطفتُ فقط 10 دقائق منها ، لأبين الفكرة ، ويمكن تدقيق ذلك في التسجيل الكامل المنشور للحفلة على اليوتيوب.
لقد كانت أم كلثوم هنا تدافع عن نفسها ، لتؤكد أنها مبتكرة في أسلوب أدائها ، المغلف لحضورها في مجمل أغانيها ، كما هو معروف ، و لتؤكد أنها كانت مبتكرة أيضاً ، في إضافة مساحات مرتجلة على أصل اللحن ، وكأنما أصبح اللحن عجينة في يدها ، تصوغها كما ترى ، وخاصة عندما تتغنى بالكلمة ذاتها وبأساليب مختلفة ، وتلوِّن في المقامات الموسيقية المتقاربة ، فهل كانت على حق ، وفق الاحتمالات التي عرضتُ لها آنفاً ؟
وفي السياق ذاته يمكن أن أسأل : ماذا عن أسمهان ؟ ألم تبتكر أسلوباً تعبيرياً في الغناء غير مسبوق ؟ وعن صباح فخري ، في أسلوبه الغنائي الذي سار كُثُرٌ على نهجه ، وفيروز في اسلوبها الشفّاف ؟ والقائمة طويلة.
أم أنه كما يقال : الخطأ المشهور خيرٌ من الصواب المهجور!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.