في رحيل المخرج رياض ديار بكرلي ، الذي أخرج قبل خمسين عاماً أول تسجيل تلفزيوني لي ، ولفت النظر بالصورة إلى أسلوبي غير المسبوق حتى ذلك الزمان في العزف متعدد الأصابع على آلة القانون!

شعار كتاب الأغاني الثاني

المخرج رياض ديار بكرلي

يختزن الإنسان صوراً كثيرة في ذاكرته ، تلخص مسيرة الحياة. من أهم تلك الصور ، ما رافق أحداثاً تحصل لأول مرة ، و ما سجل من مفاصل للحياة ، كان لها تأثير عميق في المستقبل!
عاصرتُ في حياتي صوراً كثيرة من هذا النوع ، نظراً لتعدد المجالات التي واجهتها ، ومنها مسيرتي التلفزيونية الطويلة. بين تلك الصور التي سجلت تلك المسيرة ، تبرز صورة أولى ، سجلت أولَ دخول لي إلى مبنى التلفزيون العربي السوري ، في دمشق ، منذ حوالي خمسين عاماً .. كنتُ شاباً يافعاً .. صحيح ، ولكنني كنت خبرتُ مواجهة الجمهور ، منذ أن كنت في سن الرابعة من عمري.  ومع ذلك فقد كنتُ أمام حالة جديدة تماماً ، تثير الرهبة .. الجمهور غائبٌ .. ولكنه موجود! ..  مختبئٌ في كاميرات تحيط بك ، وخلفها مصورون  .. تراها بوضوح ، أولاً ، ثم سرعان ما تغرق في ضباب الأضواء المسلطة عليك ، التي تعلن أن الجميع جاهز ، لنقل صورتك الأولى .. للناس!

في مسيرتي التلفزيونية أخرج أعمالي عدد من المخرجين .. فواز عبدلكي ، حكمت الصبان ، رياض رعد ، هيثم هوانا .. وصور لقائي الأول بكل منهم لا تزال حاضرة في الذاكرة ، ولكن الصورة الأولى التي سجلت أول ظهور لي على شاشة التلفزيون ، وحفظتها الذاكرة ، تبقى صورة ذلك الشاب ، الذي أتى إليَّ ، وأنا ضائع في الاستوديو الكبير ، يسأل عما سأقدمه للناس .. شابٌ خلوقٌ لطيفٌ هادئ ، نظرته فيها ذكاء وحماس ، وذهنه متفتح لمعرفة التفاصيل! ..

تعجبتُ كيف يثير شاب يافع ، قادم من حلب ، إلى التلفزيون في دمشق ، لأول مرة ، هذا الاهتمام بالتفاصيل .. شرحتُ له ، وقد بدأت أستعيد نفسي .. أنني سأسجل ، على آلة القانون ، عدة تسجيلات ، يندرج كلٌّ منها في مسار ..  مسارات تقليدية ، يغلب عليها الطرب ، ومسارات تعبيرية ، ومسارات تجديدية! فالعازف لا تكتمل قدراته ، إلا إن استطاع أن يدلي بدلوه ،  في هذه المساراتِ ، كلِّها .. وأنني سأبدأ بعرض أسلوبٍ جديد ، لم يسبق أن قُدِّم َفي العالم العربي حتى ذلك الوقت ، وهو العزف متعدد الأصابع .. استفسر و تمعَّن .. ثم قال: على بركة الله ..
عندما تابعت التسجيل لاحقاً .. أدركتُ لِمَ استفسر وتمعن .. لقد حاول ، في تعامله مع الصورة ، أن يبرز هذا التميز ، في أسلوب يقدم لأول مرة! وهو ما سنلحظه عندما نتابع التسجيل.. ومن بدايته!

وفيما بعد .. وكلما التقيتُه في ممرات التلفزيون ، أو في مناسبات فنية  أو اجتماعية أو رسمية .. ورغم المواقع التي شغلتُها في مجالات أخرى .. فقد كنتُ أستعيد شعور الرهبة الذي رافقني قبيل التصوير ، و شعور الثقة الذي استعدتُه ، بسبب الطاقة الإيجابية التي ولَّدها حضورُه .. واهتمامُه ..

كان ذلك الشاب ، الخلوقُ اللطيفُ الهادئ ، الذي نظرتُه فيها ذكاء وحماس ، و الذي ذهنه متفتحٌ لمعرفة التفاصيل ، هو المخرج رياض ديار بكرلي ، الذي رحل عن دنيانا منذ أيام .. رحمه الله ، و صبّر رفيقة عمره ، السيدة المخرجة رويدا الجراح .. أما أنا فستبقى تلك الصورة حاضرةً .. ما بقيتُ!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.