لماذا وكيف وظَّف رياض السنباطي مقاماً موسيقياً نادر الاستعمال للتعبير عن مضمون أحد أبيات مديح نبوي؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

سبق لي ، في بحثي حول تموج الألحان للتعبير عن المعاني في أغاني فيروز والأخوين رحباني ، أن قلت بأن أحد أشكال ذلك التموج هو توظيف المقامات الموسيقية لتعبر أيضاً عن المعاني ..

مقالي اليوم يندرج في هذا السياق،  وقد حرضه سؤال أحد متابعي صفحتي ، إذ رفع لي ملفاً صوتياً مجتزأً من قصيدة محمد المختار ، من ألحان رياض السنباطي وأداء فدوى عبيد ، مستفسراً عن المقام الموسيقي للحن البيت التالي :

وكــن لي شـفـيـعـاً يـوم لا ذو شـفـاعـة وأنــت بــه يــا أكــرمَ الرســل شــافــعُ

هل هو من مقام الهزام أم راحة الأرواح أم عراق؟
أجبته أنه من مقام عراق..

ولكن السؤال حرض سؤالين! أولهما : لمن هذه القصيدة ؟ وثانيهما : لماذا لحن السنباطي هذا البيت على هذا المقام النادر .. ؟ وكان أن رحت أبحث عن ناظم القصيدة ، فوجدت في موقع وحيد على الأنترنت ، أنها لشمس الدين النواجي ، وهو شاعر مصري ، ولد وتوفي في القاهرة ، و عاش بين عامي (788 – 859 هـ = 1386 – 1455 م).
وحسب أسلوبي في التوثيق ،  كان لابد من التأكد من أن القصيدة له ، ونظراً لأنها تندرج في إطار المدائح النبوية ، فقد اخترت بين مخطوطات كتبه مخطوطة بعنوان : المطالع الشمسية في مدح خير البرية ( راجع الصورة أدناه) ، وبعد بحث في القصائد التي تضمنتها المخطوطة ، وجدت قصيدة نظمها سنة ست وثلاثين وثمان مائة هجرية ( صورة ) ، وأتت في 82 بيتاً يقول في مطلعها ( راجع الصورة ) :

زمـان اللقـا بـالخـيـف هـل أنـت راجـع * فــلا قــطــعـتـنـي عـن حـمـاك قـواطـعُ

وجدت في سياقها الأبيات الملحنة ، وهي أبيات مختارة وغير متسلسلة من القصيدة الطويلة ، على نحو ما تعودنا عليه من السنباطي ، تبدأ ب ( راجع الصورة ) :

مــحــمــد المــخــتــار أشــرف مــن دعــا * إلى الله وانــقــادت إليــه الشــرائعُ
نــــبـــيٌ كـــريـــمٌ طـــاهـــرٌ ومـــطـــهـَّــرٌ *رؤوفٌ رحــــيــــمٌ خــــاشـــعٌ مـــتـــواضـــعُ
بــــشــــيـــرٌ نـــذيـــرٌ صـــادقٌ ومـــصـــدَّقٌ * ســراجٌ مــنــيــرٌ فــي دجــى الليل لامـعُ
يــبــيــت يــنــاجــي ربـه فـي خشـوعـه * بــتــوحــيــدِ قـلبٍ فـهـو يـقـظـان هـاجـعُ
ألا يــا رســول الله يــا خـيـر مـرسَـل * بـــخـــيــر كــتــاب شــرعُــه مــتــتــابــعُ
أنــلنــي بــفــضـل مـنـك نـُسـكـا وتـوبـة * وعــلمــا هــداه فــي القــيـامـة نـافـعُ
وكــن لي شـفـيـعـاً يـوم لا ذو شـفـاعـة * وأنــت بــه يــا أكــرمَ الرســل شــافــعُ
وكـــم آمـــلٍ وافـــى لبـــابــك راجــيــا * فأعطيته أضعافَ ماهو طامعُ

وبعد التأكد من أن النواجي هو ناظم القصيدة ، و التعجب كيف اهتدى السنباطي إلى هذه القصيدة غير المنشورة في حدود علمي في كتاب حديث الطبع ، وكيف قرر أن البيت الأول ، سيكون أحد أبيات نهايات القصيدة ، انتقلت للإجابة عن السؤال الثاني ، فوجدت أن الأبيات الأربعة الأولى تركز على صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما تركز الأبيات الثلاثة التالية على مخاطبة النبي الكريم ، لتتصاعد في البيت الثالث منها بطلب واضح : وكن لي شفيعاً ،  لتختتم القصيدة ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم ، سبق ولبى رجاء من لجأ إليه ، ما يبرر لنواجي رجاءه بأن يكون رسول الله شفيعه يوم القيامة.

من هنا كان المدخل للبحث في أسباب استخدام السنباطي لمقام نادر لتلحين البيت المتعلق بطلب الشفاعة!

في الواقع ، فقد جاءت الأبيات جميعها على مقامات سلسة و متداولة : راحة الأرواح ( هزام على درجة السي بيمول ) ، بيات ، صبا ، فعودة في الختام إلى مقام راحة الأرواح ، إلا في لحن بيت : كن لي شفيعاً ، إذ مهد له السنباطي بمقدمة موسيقية خاصة مرسلة ، أي بدون إيقاع ، بدأها بارتعاش متلاحق لأقواس الكمان على أوتارها ، وأنهاها بجمل لحنية على مقام العراق ( مقام راحة الأرواح مع استبدال جنس الحجاز فيه بجنس البيات ، الذي سيحمل أيضاً لحن هذا البيت ، جاعلاً الأداء مرسلاً أيضاً دون إيقاع ، متصاعداً إلى ذروة لحنية ، نسبة لألحان الأبيات الأخرى ، إذ اعتبره السنباطي بيت القصيد في هذه القصيدة المطولة ، متابعاً في الأداء المرسل للبيت الأخير ، مع توظيف جنس البيات في البداية ، كجسر بين مقامي العراق وراحة الأرواح ، للدلالة على وحدة المعنى في البيتين ، إذ حمل البيت الأخير التبرير لرجائه شفاعة رسول الله ..

ولكن لماذا قام بهذا التمييز اللحني ؟

أنا أرى أنه لاحظ أن جميع الأبيات ، المعاني فيها واضحة ومؤكدة : صفات النبي الكريم ومخاطبته ، فلتكن ألحانها إذاً موقعة و على مقامات موسيقية سلسة و متداولة ومريحة لأذن السامع ، مثلما يرتاح مناجياً صفات النبي الكريم ، أما هذا البيت : كن لي شفيعاً ، فنتيجته غير مضمونة ، إذ أنه لا تأكيد لاستجابة النبي الكريم لرجائه ، وهنا قرر السنباطي أن يختار هذا المقام نادر الاستعمال ، والذي لم تعتد أذن السامع عليه ، ليعبر عن هذا الشك ، الذي لابد من أنه خالط ذهن الناظم ، وهو ينظم هذا البيت ، في مدى استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لرجائه .. والله أعلم!

لنتابع الآن التسجيل مع تحليلي لمسار المقامات في القصيدة :


سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading