رجعت ليالي زمان في تسجيل بصري نادر جداً ومكتمل لفيروز : ألمحت إلى مستقبل المدرسة الرحبانية و أعطت عناصر من قالب الدور وظيفة تعبيرية نادرة ، فمن لحنها؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

في عام 1972 ، وفي سياق مسرحية ناس من ورق ، غنت السيدة فيروز ( ماريا في المسرحية ) أغنية رجعت ليالي زمان الجميلة ، التي يتوافق فيها النص واللحن على التغني بأيام زمان ، وألحان زمان. هي بلاشك أغنية استثنائية في مسيرة السيدة فيروز ، إذ أنها الأغنية الوحيدة  التي اقتربت كثيراً من قالب الدور، أهم وأعقد قالب غنائي عربي، مكسبة إياه وظيفة تعبيرية نادرة ، مع محافظتها على أساسيات القالب المدوَّر (الطقطوقة)   ، ومقاربتها قالب الموشح أيضاً ، في أسلوب متطور لحنياً من جهة ، ومتلائم مع مضمون النص ، من جهة أخرى!
المقال التالي يسلط الضوء على هذه الأغنية الهامة ، و يجيب عن سؤال هام تكرر في المراسلات التي تصلني حول هوية ملحنها ، إذ أشير إلى تناقض ما وثقته مراجع في هذا الإطار ، عُرف مؤلفوها بقربهم من الأخوين رحباني!

قالب الدور.. باختصار شديد

يتشكل قالب الدور كما أرسى عناصره الملحن المبدع محمدعثمان في نهايات القرن التاسع عشر ، و في تعريف موجز جداً ، من مجموعة من الأجزاء اللحنية المتسلسلة والمتصاعدة الحيوية ، التي لكل منها عناصره الخاصة ، وأهم تلك الأجزاء ، التي تميز قالب الدور عن غيره من قوالب التلحين في الموسيقى العربية الكلاسيكية : الآهات ، التي يتبادلها المطرب والكورس ، والهنك ، وهو ترداد جملة لحنية بعينها عدة مرات على نص محدد ، مع تلوينات يؤديها المطرب ، تظهر قدراته الصوتية و تمكنه من التنقل بين المقامات ، فيما المجموعة ( الكورس) تكرر تلك الجملة اللحنية .

القالب المدوَّر (الطقطوقة ) أيضاً في إيجاز

أما قالب الطقطوقة التقليدي ( المدوَّر ) ، قبل أن يطوره زكريا أحمد وعبد الوهاب وفريد الأطرش وآخرون ، فيتشكل في تعريف موجز أيضاً ، من لحنين متكررين ، أحدهما للمطرب ولنسمه أ ، و ثانيهما للكورس ولنسمه ب ، ويكون تسلسل لحن الأغنية: أ ب أ ب أ ب أ ب

 حققت أغنية ” رجعت ليالي زمان ” قالب الطقطوقة جزئياً ، بوجود لحنين أ و ب متكررين ، كما سنرى ، وقد تم الاكتفاء بتكرارٍ لمرة واحدة لكل منهما فقط ، نظراً لأن القسم الثاني من الأغنية سيشهد تطويراً هاماً ، وهو الاقتراب من قالب الدور ، عند تكرار اللحن أ من خلال تضمينه الآهات ثم الهنك.

أود أن أؤكد على أن إدماج الآهات والهنك كان لغايات تعبيرية  كما سنرى في التحليل التالي ، وعلى أسلوب السيدة فيروز التعبيري في أداء الأغنية أيضاً ، إذ أضفت على الأغنية ذات الأجواء الشرقية الأصيلة ، غلالات من التعبير عن المعاني ، نحتاج إليها لدى تقديم الأعمال التراثية ، إلى جانب أساليب التطريب المعروفة.


لنتتبع اللحن والكلمات والتحليل الموسيقي:

مقدمة موسيقية على مقام الكرد
الدخول في الغناء على إيقاع المصمودي 8/8

لحن أول: أ على مقام الكرد

رجعت ليالي زمان رجعوا أهالينا

ورجعوا حبايب زمان يتحكموا فينا

***

لحن ثان ب سيتكرر: التحول للبيات عند وسلم يا هوى ثم عودة لمقام الكرد

أمر الهوى بأمر الهوى

وسلم ياهوى وقول للزمان قول للزمان

والله زمان زمان زمان

****

لحن أول : أ على مقام الكرد مع نص جديد و تطوير في اللحن بإدخال الآهات والهنك

عهدك بقلبي قديم عهد الصبا الغالي
// يأتي أولاً اللحن أ المتكرر ، مع تلوينات مقامية على البيات والحجاز ، ثم تأتي الآهات ، والتي فيها تداخل مع أسلوب الهنك ، مبنياً على الآهات ، من خلال التناوب في أداء الآهات ، بين المجموعة وفيروز مع العلم أن التكرار على جملة عهد الصبا الغالي ثم الآهات فيه تعبير واضح عن مدى الارتباط بتلك الفترة وإكساب لهذا العنصر التراثي وظيفة تعبيرية

ليل القمر والنسيم بعدهن على بالي //
الهنك مستمر عند ليل القمر والنسيم وهو أيضاً تعبيري عن مدى الارتباط بفترة الصبا و وصف  اللقاءات خلالها بين الحبيبين

***

لحن ثان ب يتكرر:

أمر الهوى بأمر الهوى

وسلم ياهوى وقول للزمان قول

والله زمان زمان زمان

لحن والله زمان التخافضي فيه حسرة واضحة

****

أستطيع أن أقول بأن هذه أغنية استثنائية في مسيرة السيدة فيروز ،  لأنها الوحيدة التي اقتربت إلى درجة كبيرة من قالب الدور التقليدي ، ولكن و بالنتيجة وفي رد على أسئلة كثيرة وصلتني حول ملحنها في ظل إرجاعها في بعض المراجع المكتوبة إلى فيلمون وهبي..

غلاف أسطوانة باسم رجعت ليالي زمان


حسم عائدية الأغنية..

سبق أن نوهت عند دراسة عائدية أغنية يا عاقد الحاجبين إلى مبدأ درج الجميع على اعتماده ، وهو أن الأعمال التي تقدم في الإطار الرحباني تعود لهما بشكل أساسي ، إلا ما يتم التنويه عنه لدى نشر العمل الغنائي ، و بالعودة إلى نظام معلومات الموسيقى العربية مجدداً ، تبين وجود سجل فيه لصورة الوجه الخلفي لغلاف أسطوانة مسرحية ” ناس من ورق ” ، يوثق  الأعمال الغنائية في المسرحية ومددها الزمنية ، وقد تم التنويه فيه عن الأعمال التي لا تعود للأخوين ، ولم تذكر ” رجعت ليالي زمان ” في ذلك التنويه ، ما يثبت أخيراً أن الأغنية تعود للأخوين رحباني ، وأن ما ورد في بعض المراجع المطبوعة لم يكن دقيقاً.

غلاف الوجه الخلفي لأسطوانة مسرحية ناس من ورق الذي يحدد عائدية الأعمال الغنائية

غلاف الوجه الخلفي لأسطوانة مسرحية ناس من ورق الذي يحدد عائدية الأعمال الغنائية


ملاحظات هامة على اللحن:

يمكن اعتبار تكرار اللحن أ مع تغيير الكلام نوعاً من التأثر بقالب الموشح التلحيني ، حيث يبدأ ذلك القالب بلحن أول ا يسمى الدور الأول ثم بتكرار اللحن أ على نص جديد ويسمى الدور الثاني.
ملاحظة أخيرة:

اشتمل النص على جملة محيرة : ورجعوا حبايب زمان يتحكموا فينا! يمكن تفسير هذه الجملة في احتمالين :
الأول : أتت الأغنية ، في اعتمادها على قالب الدور ، رداً على مقالات كثيرة ، كانت اتهمت الأخوين بالإغراق في البعد عن التراث الموسيقي العربي ، و في عدم امتلاك أدواته ، وفي التغريب ، وفي التركيز على الأغنية القصيرة ، ومن المحتمل أن تكون هذه الجملة ، إلماحاً من الأخوين ، إلى هذا الواقع ، ورغبة كاتبي المقالات في التحكم بمسارهما.
الثاني : نظراً إلى أن هذه الجملة أشارت إلى حبايب زمان ، والتحكم ، فمن المحتمل أن تكون ، وقد أتت عام 1972 تحديداً ، قبيل تفكك هذه المدرسة المبدعة ، تعبيراً عن واقع العلاقة بين عاصي و منصور و فيروز ، و مساعي أحدهم للتحكم ، ولن أزيد!

أغان أخرى

تجدر الإشارة إلى أن قصيدة غنيت مكة لفيروز من شعر سعيد عقل ، تضمنت ملامح من أسلوب الهنك ، في البيتين التاليين :
ضج الحجيج هناك فاشتبكي بفمي هنا يا وُرق تغريدا
و أعز رب الناس كلهم بيضا فلا فرقت أو سودا
حيث هناك بعض التداخل مع الكورس ، وبالنتيجة هناك تقارب مع أجواء الدور ، ولكنه ليس تماماً ما يسمى ” الهنك ” ، حيث الكورس يكرر جملة لحنية قصيرة ، قد تكون مبنية على كلمة أو كلمتين ، أو جملة قصيرة ، و فيروز تنفرد ” بتلوينات تطريبية ” عليها أيضاً قصيرة ، كما أن أغنية ” بعتلك يا حبيب الروح ” ، من ألحان زياد ” قريبة ” من قالب الدور ، دون أن تحقق عناصره ، إذ أنها تحتوي على ملامح من ” الهنك” و” الآهات” ، مدموجة في مقطع غنائي واحد ، وليست منفصلة ، ولا مكتملة ، كما في رجعت ليالي زمان!
يمكن الإشارة أيضاً إلى أغنية سحرتنا البسمات من ألحان زكي ناصيف ، التي تقترب من قالب الموشح ، وتتضمن عنصر الآهات ، ولكنها لا تحتوي على عنصر الهنك.

لنأت إلى هذا التسجيل النادر والمكتمل للأغنية وهو من حفل معرض دمشق الدولي عام 1972. للأسف هذه هي الجودة المتوفرة للتسجيل.

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.