هل يمكن أن نحول موجات الموسيقى إلى ألوانٍ وأشكال؟ وهل هي عملية آلية تحول الأصوات الحادة إلى حمراء والباردة إلى زرقاء ؟ أم أنها عملية تتعلق بمدى تأثير الأصوات الموسيقية على الفنان، الذي يترجم عملية التأثير في وجدانه ، إلى ألوانٍ وأشكال ، انطلاقاً من تجربته الذاتية ، و ما اختزنته ذاكرته ، من تجارب وحوادث وذكريات! كان لابد من إجراء تجربة عملية لاستكشاف تلك العلاقة بين الموسيقى والألوان .. و إليكم كيف استطعت إقناع الفنان التشكيلي الكبير فاتح المدرس بمشاركتي مغامرة تلفزيونية غير مسبوقة!
عرفت فاتح المدرس في حلب و أنا في سن الصبا ، فهو صديق العائلة ، ثم اقتربت منه أكثر بعد أن أقمت في دمشق ، للتدريس في كلية الهندسة بجامعة دمشق.
كان هناك توافق بين علاقتي مع الموسيقى وعلاقته بها .. فأنا أركز في عزفي على الارتجال ، في بعده التعبيري على الغالب ، مبتعداً عن عزف مؤلفات موسيقية لآخرين ، وبالمقابل كان فاتح المدرس عازفاً بارعاً على البيانو ، يركز في عزفه على الارتجال التعبيري أيضاً!
كثيراً ما كنت أرقبه يعزف في مرسمه ، لينتقل إلى متابعة رسم لوحة ، كان قد شكل فضاءها ، ليعود إلى العزف ، فالرسم ، وكأنما كان عزفه يحرض لديه أشكالاً أو ألواناً ، يجري تجسيدها على اللوحة ، فتحرض أفكاراً موسيقية في ذهنه ، يسهم سماعها في تحديد الشخصية المتصوَّرة لكل لون ، وتضادها مع محيطها ، ليتشكل مضمون اللوحة النهائي ، عبر دفق إبداعي جدلي ، يتأثر بالمحيط واللحظة ، و بوعيه لما كان قد عزف وصوَّر!
ولذا ، كان فاتح المدرس أول من جاءت صورته أمامي ، وأنا أفكر في عام 1987 ، في تخصيص حلقة من برنامجي التلفزيوني : العرب والموسيقى ، لاستكشاف العلاقة بين الموسيقى والألوان ، هادفاً إلى إجراء تجربة أمام الكاميرا ، تُرتجل فيها الموسيقى ، ويُرتجل فيها التشكيل واللون!
ولكن المعضلة كانت في إقناعه كي يدخل معي في تلك المغامرة غير المسبوقة!
طرحت عليه في مرسمه ، أولاً ، الأفكار الشائعة حول أوجه العلاقة بين الموسيقى والألوان ، و ذكّرته بفيلم والت ديزني : فانتازيا ، الذي اعتمد على علاقة آلية بين حدة أو عرض الصوت وحرارة اللون أو برودته . سألته هل يؤيد ذلك ، أم أنه يرى أن تلك العلاقة تمر عبر الدماغ الإنساني ، وتفاعلاته الذاتية ، والعواطف ومتغيراتها ، التي تختلف بين مستقبل وآخر ، مدركاً مسبقاً أنه سيعارض الأوجه الشائعة للعلاقة ، في حماس ، مراهناً على أنه بذلك ، سيكون قد دخل في جو حوار ، سيجد طريقه لاحقاً إلى الجمهور العام ، عبر الكاميرا.. وأن الموسيقى والرسم لن يكونا غائبين!
قال بأنه لا يوافق على تلك العلاقة الآلية ، وأن اللون الأزرق يمكن أن يكون حاراً ، وأن لكل لون شخصيته المستقلة ، وأن حرارة الألوان تتعلق بالعلاقة التي ينسجها الرسام بين شخصياتها المتناقضة ..
طرحت عليه تجسيد هذه الفكرة أمام الكاميرا مباشرة ، وبدلاً من أن يعزف ثم يرسم ، كما تعود في مرسمه ، فليستمع إلى ارتجالات مني على القانون .. و يرسم!
كنت أدرك أن هذه مغامرة .. فكأنك تطلب من شاعر أن يرتجل قصيدة أمام الكاميرا ، حسبما يتأثر من سماعه لموسيقى يسمعها لأول مرة ، ضمن مدة محددة .. وبالنسبة لفاتح المدرس ، فلاشك بأنها مغامرة ، فماذا إن لم تحرض الموسيقى عنده أي مشاعر أو صور ، ناهيك عن أنه مطبوع بالتغيير ، وقد تحتاج اللوحة كي تستقر إلى مدة ، قد لايستوعبها البرنامج!
لم يتردد فاتح المدرس في القبول ، فهو الجريء الواثق بنفسه و بي .. وهكذا جرى نقل مرسمه إلى استوديو التلفزيون ، لتتشكل خلال ساعة ، ثلاث لوحات ، بنيت على وقع ثلاثة ارتجالات على القانون ، كان فاتح يستمع خلالها ، فترتسم عبر ريشته ألواناً و أشكالاً ، تضمها لوحات ، يزينها على الهواء.. توقيع!
الحلقة كانت من إخراج المخرج الراحل حكمت الصبان.