ماري جبران في أغنية يا زمان : صوتٌ قادر يُخرج المطربَ – الملحنَ المعروف عن ثوبه التلحيني!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في بداية الخمسينات غنت ماري جبران لصالح إذاعة دمشق أغنية : يا زمان ، من كلمات عزت الحصري ، و ألحان المطرب والملحن المعروف نجيب السراج ، لتأتي الأغنية ، بعيدة كل البعد عن الأغاني الهادئة ، التي اعتدنا عليها في ألحان و أغاني نجيب السراج . إنه الصوت القادر على أداء التضاريس اللحنية جميعها ، تطريباً و تعبيراً ، الذي اجتذب السراج ليدخل عالم الطرب من أوسع أبوابه ، مع ملامح تعبيرية وتوقفات مرسلة ، قرَّبت الأغنية من قالب المونولوج الرومنسي ، دون أن تدخله تماماً في ظل التطريب الذي غلَّف اللحن ، وتكرار كلمة يا زمان ، في ختام كل مشهد من مشاهد الأغنية.

ماري جبران

لا يوجد توثيق دقيق لولادة ماري جبران ، وتتراوح الروايات بين أعوام 1905 و1907 و1911 . كانت ولادتها في بيروت ولكنها انتقلت مع أسرتها إلى دمشق ، عام 1915 ، إبّان المجاعة الشهيرة التي حلت بجبل لبنان ، خلال الحرب العالمية الأولى ، والتي توقفتُ عندها في مع مقالي عن أغنية الروزانا . انتقلت ماري إلى القدس بعد وفاة والدها ، وتعلمت هناك أصول الغناء العربي الأصيل ، لتتنقل بعدها إلى دمشق فحلب ، حيث استقرت لمدة ، فزادت من معارفها في أصول الغناء ، لتعود إلى دمشق مجدداً ، ثم إلى بيروت. في بيروت تعرفت على بديعة مصابني ، التي كانت تمتلك صالة للغناء في القاهرة ، عمل فيها أكثر الفنانين في بداياتهم ، فاستقدمتها بديعة إلى مصر ، حيث حققت نجاحاً كبيراً ولقبت : ماري الجميلة.

مع انطلاق الحرب العالمية الثانية ، عادت ماري إلى دمشق ، واستقرت فيها ، متعاونة مع ملحنيها ، وهكذا سجلت في عام 1952 أغنية يا زمان ، من ألحان نجيب السراج.

لم تعش ماري طويلاً ، إذ قضت عام 1956 ، وهي في الأربعينات من عمرها ، بعد صراع مع المرض ، ولم يحضر جنازتها إلا عدد قليل من المحبين ، بعد أن كان ذكرها قد غاب خلال مرضها ، لتتحقق شكواها في أغنيبتها : يا زمان ، من الزمان ، عندما يصبح الإنسان في نهايات عمره ، غريباً في وطنه ، وذلك عندما تقول في الأغنية : واللي انحرم من بهجته ( الزمان ) يصبح غريب جوّا الأوطان!

أغنية يا زمان

لهذه الأغنية تسجيلٌ صوتيٌ فقط ، ولذا فقط أضفتُ لها مشاهد من دمشق ، أن التسجيل تم لصالح إذاعتها.

تمثل نجيب السراج في لحنه لهذه الأغنية ، مجمل المدارس التلحينية الشائعة في ذلك الوقت ، فجاء لحنه سنباطياً ، في أجواء ألحانه لأم كلثوم ، مع لمحات من ألحان فريد الأطرش وزكريا أحمد ، دون أن يقتبس منها إلا بعض المفردات اللحنية العابرة ، التي أعدُّها في عداد توارد الخواطر . جاء اللحن على مقام النهاوند على درجة الري ( خفضت الطبقة بمقدار نصف درجة صوتية لإراحة المطربة في الجوابات ) ، مع تلوينات مقامية كلاسيكية كالمرور على مقامي البيات والراست .

لم تزد المساحة الصوتية للأغنية عن ثمانية أصوات موسيقية ، وهي مساحة صوتية محدودة ، وقد تركزت في منطقة الأصوات الحادة ، وكأنما نجيب السراج ، الذي كان عليه أن يغني الأغنية لماري ، لكي تحفظها ، اعتمد مساحة صوته لوضع اللحن ، و سجله في طبقة صوته ومساحته ، ثم أعطاها إياه لتغنيه في منطقة صوتية أكثر حدة ، جاذبة لأذن المستمع ، فلم يستفد تماماً من المساحة الواسعة لصوت ماري جبران ، وهذه نقطة هامة في أصول التلحين ، إذ كثيراً ما قيَّد صوت الملحن لحنَه ، فلم يستفد من مساحة صوت المطرب ، إن كانت أوسع من مساحة صوت الملحن.

ركز السراج على طول الأغنية ، وقد جذبته قدرات ماري الصوتية ، على توفير جرعة دسمة من التطريب ، والتضاريس اللحنية ، والقفلات ، مبتعداً عن مدرسته اللحنية والغنائية الهادئة ، التي اعتدنا عليها منه في أغانيه ، وقد فعل هنا مثلما فعل أحمد صبري النجريدي ، في العشرينات من القرن الماضي ، في ألحانه لأم كلثوم ، حيث تركزت ألحانه لها أيضاً على منطقة الأصوات الحادة ، وفي مساحة صوتية محدودة نسبياً . ولكن التركيز على هذه المنطقة ، مع طول الأغنية : 19 دقيقة ، وهو ما كان سائداً في ظل سيطرة الإذاعات في الخمسينات ، وحاجتها للأغاني الطويلة ، أخرج اللحن عن تقاليد الغناء الأصيل ، الذي يُبنى على تطوير اللحن ، تدريجياً ، من منطقة الأصوات المنخفضة ، فالمتوسطة ، فالحادة ، لكي يكون هناك ذروة واضحة للأغنية ، قبيل انتهائها ، فيما أتت الذرى هنا متكررة على طول الأغنية ، ما أبرز إحساس السراج الزائد بجمال صوت ماري جبران ، و لكنه أكسب الأغنية نوعاً من الرتابة.

لا يقلل كل هذا من جمال اللحن والأداء ، ولكنها ملاحظات كان لابد منها لتقييم ٍذي مصداقية ، لهذه الأغنية الجميلة ، التي تسيطر على الوجدان لدى سماعها ، وخاصة عندما تتكرر كلمة يازمان .. مع آهات الحسرة .. في ختام كل مشهد من مشاهدها!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.