فيروز في مغناة المحبة : المحبة بين البشر هي الطريق إلى استحقاق محبة الله

شعار كتاب الأغاني الثاني

أتوقف اليوم عند مغناة ” المحبة ” لجبران خليل جبران ، و فيروز ، و الأخوين رحباني.
كانت هذه المغناة محاولة فريدة في الغناء العربي لتلحين نص نثري ، و لاشك في أن أهمية النص ، بمعانيه التي تدعو للمحبة والتسامح ، و التي نحتاج إليها اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، هي التي شجعت الرحبانيَين وفيروز ، المؤمنين بهذه الفضائل ، على خوض غمار هذه التجربة الفريدة ، في التلحين والأداء ..الكلمات اقتباسٌ من كتاب ” النبي ” ، لجبران خليل جبران ، الذي نشر أولاً عام 1923 ، باللغة الإنجليزية ، في الولايات المتحدة ، دون نجاح كبير ، لينتشر لاحقاً في الستينات من القرن الماضي ، بعد أن وجد في جمهور الشباب ، من يعتمد نظرته المثالية والرومنسية ، حيث ترجم إلى عشرات اللغات ، كما ترجم للعربية مراتٍ عديدة .
اعتمد الأخوان رحباني إحدى الترجمات ، وهي ترجمة أنطونيوس بشير ، واختارا أحد فصوله الذي حمل اسم : المحبة ، فأعادا صياغة بعض العبارات ، واختصرا بعضها ، وكثَّفا بعضها الآخر ، دون المساس بالمعنى ، ثم قاما بتلحينه ، في صيغة مغناة أسمياها : المحبة.
قدمت فيروز مغناة ” المحبة ” لاول مرة في عام 19699 ، في سياق مهرجان الأرز ، ثم قدمتها مرة أخرى ، أثناء رحلة فيروز والأخوين رحباني إلى أمريكا عام 1971 ، في تكريمٍ لجبران ، الذي عاش طويلاً في أمريكا ، فشاعت وانتشرت . بعد عودتهم من أمريكا ، أعادوا تقديمها على مسرح البيكاديللي في بيروت عام 1972 ، ثم على مسرح معرض دمشق الدولي ، وذلك في سياق مسرحية ناس من ورق.النص:
المشهد الأول
الكورس: آنئذٍ قالت الـ ميترا قالت الـ ميترا:
“حدثنا عن المحبة” فقـــــــال:
فيروز: إذا المحبة ” أومت إلــيــكــــم فاتــبـــعوهـــــا
إذاضمتكم بجناحيها فأطيعوها
إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها”
الكورس: آنئذٍ قالت الـ ميترا قالت الـ ميترا:
“حدثنا عن المحبة” فقـــــــال:
فيروز: “إذا المحبة أومت إلــيــكــــم فاتــبـــعوهـــــا
إذاضمتكم بجناحيها فأطيعوها
إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها”المشهد الثاني
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “تضمكم إلى قلــــبـــــــها كــأغمــــــار حنــطة”
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “على بيادرها تدرسكم لتظــهــر عــريــــكـــم”
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “تطحنكم فتجعلـــكــم كــالثلج أنـــقيــــــــــــــاء،
ثًم تُعدّكــــم لنارهـــا المقدســة
لــــكــــي تصيــــــروا
خــــبـــزاً مـــقــدساً
يــُقــرَّب على مـــــائــدة الــــرب المــــقـــدســـــــة”المشهد الثالث
الكورس: “المــحـــبـــة لا تعطي إلا ذاتــــــــها”
فيروز: “المــحـــبـــة لا تأخذ إلا من ذاتــــــــها”
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “لا تعطي إلا ذاتــــــــها”
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “لا تأخذ إلا من ذاتــــــــها”
الكورس: “لا تعطي إلا ذاتــــــــها”
لا تأخذ إلا من ذاتــــــــها”
فيروز: “لا تملك المحبــــة شيئاً
ولا تريــد أن أحـدٌ يملــــكــــها
لأن المحبة مكتفيــة بالمحبــــة
بالمحبــــة”
الكورس: أمــــا أنــتَ إذا أحــببتَ فلا تقــل الله في قلبي
فيروز: أمــــا أنــت إذا أحــببتَ فلا تقــل الله في قلبي
لـــــكن قـــل: أنــــــا في قـــلب اللــــــــــــــــــــه
أنــــــا في قـــلب اللــــــــــــــــــــه

اللحن :
كما لاحظنا أعلاه ، فقد قسّم الأخوان رحباني النص ، في التسجيل المرفق ، إلى ثلاثة مشاهد ، وخصّا كل مشهد بمقام موسيقي خاص ، ليبنى عليه لحنه ، وبمقدمة موسيقية خاصة ، عدا المشهد الثاني ، الذي جاء استمراراً للمشهد الأول .
جاء المشهد الأول ، الذي شرح مفهوم المحبة ، على مقام الكرد ، ليأتي الثاني ، الذي بين تأثير المحبة على الإنسان ، على مقام العجم ، فيما بني لحن المشهد الثالث ، الذي يشير إلى تماهي المحبة مع ذاتها ، فيما بين البشر ، و أهميتها في التوجه إلى الله عز وجل ، على مقام النهاوند ، مع ختامٍ عام ، جمع مقامي العجم والكرد معاً ، من خلال أداء درجتي استقرارهما معاً.
جاءت المقدمة الموسيقية ، إذاً ، على مقام الكرد ، في جملٍ لحنية ، سنجد صداها لاحقاً في المقاطع المغناة ، التي ستأتي في جمل لحنية متوافقة أو متفاعلة معها ، بما يحقق وحدة العمل ، مع اختلاف بسيط ولكنه مؤثر ، إذ أن الجمل اللحنية في المقدمة الموسيقية ، كانت متحررة من الكلمة ، فجاءت في إيقاعية سلسة ، فيما ، وكما سنلاحظ لاحقاً ، ستأتي الجمل اللحنية المغنّاة بعدئذِ ، محكومة بقواعد مختلفة ، لم يعتد عليها الغناء العربي ، نظراً لأن هذه المغناة ، كما أشرت سابقاً ، كانت من أوائل المحاولات النادرة ، لتلحين النثر في الغناء العربي.
يفتقد النثر الإيقاع الشعري والقوافي ، كما هو معلوم ، وكانت هذه هي المشكلة الأساسية في تلحينه ، وسنتتبع في هذا التحليل ، العناصر التي أضافها الأخوان رحباني ، لتجاوز هذا العائق .
كان ذلك ، أولاً ، في إكساب الجمل اللحنية في المغناة نبضها ، من نبض إيقاعية الكلمات ، لا الجمل ، ولا الشطرات ، ولا الأبيات ، إلا حين سمح النص بذلك ، عندما سعت الترجمة للاقتراب من الصيغ الشعرية ! نلاحظ ذلك من البداية ، في المقاطع التي تؤديها المجموعة ، عند : الكورس: آنئذٍ قالت الـ ميترا قالت الـ ميترا ، أما في المقاطع التي تغنيها فيروز ، فقد استطاع الأخوان إكساب اللحن إيقاعيته ، سواء لأن النص سعى للاقتراب من الشكل الشعري ، عبر توحيدٍ عابر للقوافي ، أو من خلال مد الحروف وخطفها ، لتحقيق التوافق بين نبض اللفظ مع الإيقاع الموسيقي ، ما أدخل عاملاً جديداً لم يكن ضاغطاً في المقدمة الموسيقية . يمكن هنا التوقف مثلاً في المشهد الثالث ، عند : الكورس: “المــحـــبـــة لا تعطي إلا ذاتــــــــها” ، فيروز: “المــحـــبـــة لا تأخذ إلا من ذاتــــــــها” للتمعن في أسلوب المد والخطف .
احتوى المشهد الأول على عناصر موسيقية في النص ، إذ حاولت الترجمة إكساب النص إيقاعية وموسيقية ما ، من خلال محاولة توحيد القوافي ، في نهايات بعض الشطرات ، مثلاً عند : إذا المحبة أومت إلــيــكــــم فاتــبـــعوهـــــا – إذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها – إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها” ، أما في المشهد الثاني ، عندما تحول اللحن إلى مقام العجم ، فقد افتقد النص ذلك ، فعوَّض الأخوان رحباني ذلك ، من خلال تكرار الجملة اللحنية ذاتها ، للشطرات متغيرة القوافي ، مع الحفاظ على إنهاء الجملة اللحنية بذات الطريقة ، لإكساب اللحن الموسيقية التي افتقدها ، نتيجة اختلاف القوافي ، كما في :
فيروز: “تضمكم إلى قلــــبـــــــها كــأغمــــــار حنــطة”
الكورس: “المــحـــبـــة”
فيروز: “على بيادرها تدرسكم لتظــهــر عــريــــكـــم”
الكورس: “المــحـــبـــة”
أما في الشطرة التالية فقد تغير ختام الجملة ليتصاعد للتعبير عن النقاء :
فيروز: “تطحنكم فتجعلـــكــم كــالثلج أنـــقيــــــــــــــاء،
لجا الأخوان ، في محاولة تجاوز الافتقاد إلى الإيقاع الشعري ، إلى توظيف مجموعة الكورس ، ببراعة ، لإكساب العمل إيقاعية خاصة ، من خلال تناوب الأداء بين الكورس وفيروز ، وكذلك من خلال التناوب بين المقاطع الموقَّعة و المرسلة ، و اللجوء إلى التغييرات الإيقاعية ، على مستوى الشطرة الواحدة ، أو من خلال الإيقاع الواضح الصريح ، كما في : الكورس: أمــــا أنــتَ إذا أحــببتَ فلا تقــل الله في قلبي ، فيروز: أمــــا أنــت إذا أحــببتَ فلا تقــل الله في قلبي ، حيث سيطر إيقاع بارز ، وعناصر بوليفونية ، تعبر عن الإجماع ، إذ يتلون اللحن على النص ذاته ، فلكل طريقته في التقرب من الله ، ليتلوه لحن مرسل مضادٍ له إيقاعياً ، تؤديه فيروز ، عند : لكن قل ، إذ يتصاعد اللحن تدريجياً ، في تمهيد لذروة المغناة و ختامها المعلق ، المواكب للفظ الجلالة!
أدت فيروز المغناة باقتدار ، إذ جاء أسلوب التعبير متموجاً مع تموُّج المضامين ، فجاء سلساً رفيقاً في المشهد الأول ، في محاولة الإقناع بأهمية المحبة ، ثم تدرج حتى الختام إذ أصبح أكثر قوة ووضوحاً ، بعد أن تكتمل القناعة عند الجميع ، بأهمية المحبة بين البشر ، وبكونها الطريق إلى استحقاق محبة الله.

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged . Bookmark the permalink.

Comments are closed.