ماهو دور الزعيم الوطني السوري فخري البارودي في توجه فيروز والأخوين رحباني إلى محور الموشحات؟

شعار كتاب الأغاني الثانيالزعيم الوطني السوري فخري البارودي

فخري البارودي 2

الزعيم فخري البارودي

لم تتح لي الفرصة للقاء الزعيم الوطني الكبير فخري البارودي ، وإن كنت أعرفه حق المعرفة من حديث والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة عنه ، فكلاهما وظَّف مكانته الاجتماعية ، في دمشق وحلب ، لإضفاء الاحترام على الموسيقى العربية وفنانيها ، وكلاهما سعى لافتتاح المعاهد الموسيقية لصقل مواهب المبدعين منهم .. كان عملهما يسير على التتالي .. فمعهد دمشق للموسيقى افتتح عام 1947 وأغلق عام 1949 لأسباب مالية نتيجة عدم الحصول على إعانة من الدولة ، فيما افتتح والدي معهد حلب في عام 1949 على نفقته الخاصة في سعي منه لكيلا تتكرر المشكلة التي كانت في دمشق..

دعم فخري البارودي المدرسة الحلبية في الغناء ، وأرادها أن تكون أحد عناصر الشخصية الموسيقية السورية بعد الاستقلال .. فاستقدم الشيخ عمر البطش من حلب إلى معهد دمشق لتعليم الموشحات ورقص السماح ، وتبنى صوت الصبي صباح الدين أبو قوس ذي الأربعة عشر عاماً ، بعد اكتشف فيه جمال الصوت ، بل وأعطاه اسمه فأصبح اسمه : صباح فخري..

ماهي حقيقة موقف البارودي من صوت فيروز ومن ألحان الأخوين رحباني ؟؟

طبعاً هذه المقدمة ليست للحديث عن فخري البارودي .. ولا عن تصميمه لبيته وفق الأبعاد الموسيقية لا المعمارية .. وكيف لجأ إليّ زملائي في كلية الهندسة بدمشق لتفسير تلك الأبعاد .. فلهذا حديث آخر  .. حديثي اليوم يتصل باستكشاف العلاقة بين فخري البارودي والسيدة فيروز والأخوين رحباني .. ذلك الاستكشاف الذي قادني إلى نتائج غير متوقعة .. جعلتني آسف لأن الله لم يمد في عمره عدة أشهر أخرى ليشهد نتيجة رائعة لمساعيه ..

هل كان البارودي ضد صوت فيروز فعلاً كما يقال .. أم ضد ألحان الرحابنة.. وهل كان هناك من أثر لذلك على مسيرتهم ؟ وإن كان أثَّر .. فهل بشكل سلبي أم إيجابي؟ أسئلة هامة .. وإليكم إجاباتي عليها..

رحلة بحث بدأت مع أحمد عسه مدير إذاعة دمشق

بدأت  أسبر أغوار نظام معلومات الموسيقى العربية ، للبحث في هذه المسألة . وجدت بعض الاختلافات بين ما قاله الأستاذ أحمد عسه ، وما قاله الأستاذ منصور رحباني حول الموضوع .. سأعرض أولاً المشترك بينهما:

أحمد عسة2

أحمد عسة

كان أحمد عسة مدير إذاعة دمشق في بداية الخمسينات ، وكان من أشد المتحمسين لفيروز والرحابنة. فأعطى توجيهاته بالإكثار من إذاعة أغنيات فيروز بما فيها من نهج جديد راقٍ في الغناء العربي.‏ لاحظ وجود حملة تجريح فني في عدد من الصحف والمجلات السورية ضد الرحابنة وفيروز ، وسرعان ما اكتشف أن وراءها شبح سيد الطرب السوري القديم فخري البارودي رحمه الله ، إذ كان استمع إلى فيروز عبر الإذاعة ، في أغنية غيب يا قمر أو ما شابهها وهي سوينغ لفيروز وحنان ، فانزعج منها ومن أسلوب غنائها ، وشن حملة عنيفة عليها ، وعلى عاصي ومنصور الرحباني ، معتبراً أن هذه المدرسة مفسدة للطرب الأصيل واعتداء على مدرسة اللون القديم ، كما حفز الصحف والمجلات على السير على منواله . و لما لم يكن أحد في إذاعة دمشق يتجرأ على مخالفة فخري البارودي ، فقد أوقع موقف البارودي هذا إدارة الإذاعة في إرباك شديد.

 


الحل..

تفتقت قريحة مدير الإذاعة أحمد عسة عن خطة تجعل فخري البارودي يغير رأيه. كان الأخوان رحباني قد قاما تحت وطأة ضغط البارودي بتلحين قصيدة ” إلى راعية ” لفيروز قصيدة إلى راعية لفيروز وفق أسلوب التلحين القديم ، ووقعاها باسم مستعار وسجلاها لصالح الإذاعة  . بعد التسجيل ، التقى أحمد عسه البارودي على باب الإذاعة مصادفة ، فقال له البارودي : شو ياأحمد..لساك مصرّ على هاللون الدخيل على الطرب الأصيل؟ لون الرحابنة وفيروز؟‏

 وبكل هدوء أجابه أحمد عسه: أنا أنتظر مقابلتك يافخري بك، فقد اكتشفت فتاة شامية رائعة الصوت. جندناها لإحياء مدرستك الغنائية مدرسة الموشح والدور والموال. وكل مرادي أن تسمعها لتتأكد من أننا لم نتنكر للتراث الذي تحافظ عليه.‏

 وسأله البارودي: ومااسمها؟‏

 فأجابه مدير الإذاعة: إنها من عائلة محافظة وكان شرطها للوقوف أمام الميكرفون هو أن نتكتم على هويتها.‏

وذهب الاثنان إلى أحد استديوهات الإذاعة، وأدار أحمد عسة شريط تسجيل على أغنية (إلى راعية) وبعد أن استمع فخري البارودي إلى الغناء، صرخ هاتفاً:إي هادا صوت..مو صوت فيروز اللي حاملو وداير فيه جنابك.. هادا الطرب الأصيل..‏

 وهنا أجابه أحمد عسه وكان سجل له ما قال : اسمع يافخري بك..هذا الصوت الذي سمعته الآن هو صوت فيروز..وهذه الأغنيات شغل الرحابنة وقد سجلت لك كلامك. ، فأسقط في يد فخري البارودي واستسلم للأمر الواقع، وفيما بعد أصبح من أشد المتحمسين لصوت فيروز وموسيقا الرحابنة.‏

هذه الرواية تركز على رفضه لصوت فيروز أكثر من رفضه لألحان الرحابنة ، وسنرى دائماً كيف انقسمت الأقلام بينهم .. وهذا موضوع حديثه قادم إن شاء الله ، ولكن ليس اليوم ..


ماذا قال منصور رحباني ؟؟

رواية منصور رحباني تتوافق في الإطار العام مع هذه الرواية ، وإن كانت تعطي تفصيلاً ينصف فيروز ، وهذه نقطة أخرى لا بد من متابعتها لاستجلاء حقيقة العلاقة بين فيروز ومنصور رحباني .. ومن جديد .. ليس اليوم .. منصور إذاً ركز على أن رفض البارودي كان لألحانهما أكثر من رفضه لصوت فيروز .. يقول : ”  إن اعتراض فخري البارودي كان على أسلوبنا في تلحين قصيدة : “سنرجع يوماً الى حيّنا”، إذ أننا لم نطل المد اللحني على حرف الألف في كلمة “هنالك” من بيت “هنالك عند التلال تلال/ تنام وتصحو على عهدنا”. وادعى أننا نشوه اللفظ العربي وبالتالي اللغة العربية. لتتبع اللحن يمكن مراجعة الملف الصوتي التالي لمسمع من قصيدة سنرجع يوماً إلى حينا : –مسمع-من-سنرجع–

وأثار الموضوع في مجلس النواب، لكن أكثرية النواب انتصرت لنا، فقبلها فخري البارودي على مضض. لكنه لم يسكت، بل أخذ في مجالسه الخاصة والعامة يغمز من قناة أحمد عسة مدير الاذاعة بأن هذا يذيع أغاني “المدرسة الرحبانية الهجينة التي تفسد الطرب الأصيل وتعتدي على مدرسة اللون القديم، بصوت المطربة فيروز التي لا تصلح إلا لتلك الأغاني الهجينة”.


 سجلت بعض نقاط بحاجة للبحث أكثر..

1-      قصيدة سنرجع يوماً إلى حينا من تسجيلات القاهرة في زيارة الرحابنة وفيروز لها عام 1955 ، وكان أحمد عسة هنا قد ترك إذاعة دمشق ، فيما قصيدة إلى راعية تعود لعام 1952..

2-      قصيدة إلى راعية تحمل نفس الخطأ اللحني ( وفق مدرسة البارودي ) .. عند قول فيروز : تورفرف  بدلاً من ترفرف.. ولاشك في أن البارودي كان انتبه إليه .يمكن متابعة الملف الصوتي التالي لمسمع من قصيدة إلى راعية لفيروز لاستكشاف موقع الخطأ: –مسمع-من-إلى-راعية–

والغالب أن الذاكرة خانت منصور رحباني في تحديد الأغنية .. أو أن البارودي ألمح لاحقاً إلى وجود خطأ في تلحين الألف في “هنالك ” ، فبقيت في ذاكرة منصور رحباني ، إذ أنني لا أظن أن البارودي يبني موقفه المتشدد على ملاحظة بسيطة كهذه ، خاصة أن قصيدة ” إلى راعية ” تحمل الخطأ ذاته!! أو أنه قصد تخفيف اعتراض البارودي ليكون على تفصيل بسيط في ألحان الأخوين رحباني .. ولم ينتبه إلى أن الخطأ اللحني موجود في الأغنية التي حققت رضا البارودي ، حسب الرواية….


بالتالي أرجح أن اعتراض البارودي كان على الخط التلحيني للرحابنة ، وخاصة في الأغاني الراقصة  التي قدمتها الإذاعة .. هذا الخط الذي لا يظهر جمال صوت فيروز ، وأن قبوله اللاحق لم يكن لصوت فيروز كما في رواية أحمد عسة ، بل للخط التلحيني الجديد المغاير بالكامل للخط الذي كان مع فيروز وحنان في بداياتهما .. والذي أبرز قيمة صوتها الحقيقية..


تثبيت الموقف في كل مناسبة..

مما يثبت ذلك ما يورده نظام المعلومات ، من أن المناسبة الثانية التي ظهرت فيها فيروز أمام الجمهور عام 1952 في عيد الجلاء ( وليس للمرة الأولى ، و ليس عام 1957 كما يجمع النقاد ) في نادي الضباط ، بمناسبة عيد الجلاء ، وغنت يومها قصيدة ” عنفوان ” للشاعر السوري الكبير عمر ابو ريشة ، ضمت أيضاً طالبات مدرسة دوحة الأدب الدمشقية ، في وصلة من الموشحات ورقص السماح ، كان الشيخ عمر البطش علّمها لطالبات المدرسة ، ثم تلاميذه الدمشقيون ، وخاصة الأستاذ عدنان منيني.. كانت رسالة دائمة ، بأن دمشق تتمسك بأصالة الفن السوري الأصيل .. إلى جانب ترحيبها بفيروز والأخوين رحباني..


يؤكد هذا الاستنتاج أن نظام معلومات الموسيقى العربية ، أفادني أن الزعيم البارودي أقام في عام 1959 حفلة في نادي الضباط ، على شرف فيروز والأخوين رحباني ، حضرها لفيف من رجالات البلاد ، وذلك بمناسبة نجاح “الليلة اللبنانية” الأولى في معرض دمشق الدولي نجاحاً عظيماً،  و في تلك الحفلة  توجّه فيروز وعاصي بكلمة شكر صادقة لأهالي دمشق.. أما الشكر الفعلي فقد كان بأن أورد الأخوان رحباني في حفلهما عام 1960 في معرض دمشق ، عدة موشحات مما يحبه البارودي .. ومنها موشح في ليالٍ الذي صاغاه على لحن الشيخ أبي خليل القباني : بالذي أسكر من عرف اللمى ، وكذلك موشح لما بدا يتثنى..

 

صورة دمشق في أذهان الرحابنة كما أرادها البارودي

هي صورة دمشق المحبة للموشحات ورقص السماح ، تلك التي سعى البارودي لترسيخها في أذهان الرحابنة ..  وأنا أعتقد الآن أن ضغط البارودي وأهمية إذاعة دمشق ، كانا أحد الأسباب الأساسية في ابتعاد الرحابنة عن مسار لحني خفيف تماماً .. لا يليق بصوت فيروز .. هو ما قدمته مع حنان ( التي كان اسمها يسبق اسم فيروز في الأسطوانات ربما لأسبقيتها في هذا الخط  !) .. و في ترسيخ مسار آخر أكثر رصانة  ..  اتخذت القصيدة فيه مكاناً بارزاً ..  كان قد بدأ مع أغنيات مثل حبذا يا غروب ، وإن في لون لحني آخر .. و أطلق شخصية فيروز كما استقرت لاحقاً ..

حفلة معرض دمشق الدولي لعام 1966

لاشك عندي اليوم ، في أن الرحبانيان أحسا بالأسى .. لأن الراحل فخري البارودي لم يحضر حفلهما في معرض دمشق الدولي في صيف عام 1966 ، الذي قدما فيه ، لأول مرة ، ضمن الصورة التي ترسخت في أذهانهما عن دمشق ، تحفتهما : أرجعي يا ألف ليلة .. إذ كان الموت غيبه قبل ذلك بأشهر ، في 2 أيار 1966 ..

ولا يفوتني هنا أن أذكِّر بأن السيدة فيروز عندما عادت للموشحات لاحقاً ، فإنها لجأت للملحن السوري الكبير محمد محسن في موشح : سيد الهوى قمري.. ولعل السبب يعود ، إضافة إلى تفوق الراحل محمد محسن في هذا المجال ،  إلى صورة دمشق في ذهنها كمحبة للموشحات .. و ربما إلى صورة البارودي الذي كان وراء هذا الخط في مسيرتها الفنية..

بحث يقود إلى آخر..

ولكن نقطة أخرى في نظام المعلومات أعادتني إلى حليم الرومي وعلاقته بالأخوين رحباني .. إذ ظهر تناقض في المعلومات حول حفلة عام 1954 … فالمعروف أن فيروز غنت فيها أيضاً قصيدة الأخطل الصغير ” ذكرى بردى ” من ألحان الأخوين رحباني .. فيما برزت مصادر أخرى لتشير إلى أن الحفلة ضمت أيضاً حليم الرومي إلى جانب فيروز ، وأنه هو الذي غنى في تلك الحفلة  قصيدة الأخطل الصغير ” ذكرى بردى ” .. فهل كان حليم الرومي يقبل ، وهو الملحن ، أن يغني من ألحان غيره .. أم أن الأغنية التي غنتها فيروز أصلاً لحليم الرومي وليست للرحابنة …  أم أنهما انتبها حينها إلى القصيدة فأعادا تلحينها.. ؟ أسئلة لا تنتهي ولا تزال بحاجة للكثير من الجهد  .. والاستكشاف..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading