إلى أي مدى يحق لشعبٍ ما ورث تراثاً حضارياً أن ينتسب إليه إن لم يكن عارفاً بتفاصيله .. مبدعاً في تطويره ؟

شعار كتاب الأغاني الثانيالحضارة.. من يرثها؟
بادرني قائلاً : أنا متابعٌ لما تنشره في ثنايا كتاب الأغاني الثاني ، من توثيقٍ لنتاج الموسيقى العربية ،  إبان فترة النهضة التي عاشتها في القرن العشرين ، و من كشفٍ لمكامن الإبداع في تجلياتها ، ومن مساعٍ للتأسيس لنهضة جديدة ، تعيد لها ألقها ، مع توظيف أحدث التقانات.. وقد حرَّض هذا لدي السؤال التالي:
إلى أي مدى يحق لشعب ما ، ورث تراثاً حضارياً ، أن ينتسب إليه ، إن لم يكن عارفاً بتفاصيله .. مبدعاً في تطويره ؟
قلتُ :
سؤالٌ مشروع .. إذ يحق لأي شعب أن ينتسب إلى تراثه ، وأن يكتسب بالتالي موقعه الحضاري المعاصر ، وذلك بقدر ما يمتلك ، من المعرفة بذلك التراث ، و من القدرة على استنباط المبادئ الجمالية والفكرية التي بني عليها ، ومن الإبداع اللازم لتطويره ، في نتاجات معاصرة ، تتضمن في خلاياها تلك المبادئ ، ما يكفل لذلك الشعب توثيق دوره الحضاري في بناء التاريخ الإنساني ، و استدامة هويته الثقافية ، على مستوى العالم.

الأسطرلاب رمز من رموز التطور العلمي العربي

الحضارة ضيفٌ عابر في تاريخ البشر
تكمن المشكلة في أن الحضارة غالباً ما تكون ضيفاً عابراً على تجمعات البشر ، يستكين إليها لوهلة من عمر الزمان ، قد تطول أو تقصر ، إذ تدعوه لزيارتها ، من خلال تفتّح خلاياها للمعرفة ، ثم يغادرها ، بعد أن يستولد هو نفسه عناصر تجفيف تلك الخلايا ، مع شيوع فِتَنِ المال وتناقضات المصالح ، تاركاً لكل تجمع إنساني ، مهمة توثيق نهضته العابرة ، لتكون أساساً لزيارة قادمة لذلك الضيف ، إن حصل وعاد ، ومانحاً ذلك التجمع ، القابلية الأكثر حضوراً ، لتتبع نتاج الحضارة الوليدة ، في أرض أخرى ، إن سعى لذلك .. وقد أثبت التاريخ أن هذا الضيف العابر ، غالباً ، لا يعود ! .. و أنه إن عاد ، فسيكون ذلك بعد مرور فترة طويلة من الزمان .. وكأنه في الواقع يعود لأرض جديدة..
بالنتيجة ، كانت تتقطع الصلات بين الشعب ، في استمراريته في أرضه ، وقد غادرتها الحضارة ، و بين فترة حضارية ” يتيمة ” عاشها ، إذ ينتقل نتاجها ، وقد أصبح غريباً في أرضه ، مع ذلك الضيف العابر ، ليسهم في تشكيل حضارة جديدة ، في أرض جديدة ، رغم أي محاولات خجولة ، قد تكون حصلت ، لتوثيق نتاج تلك الفترة الحضارية ، وهي على طريق الأفول ..

حديقة أنداسية

أملٌ مشروعٌ إلى حين!
هكذا كانت حال الحضارات .. ومع ذلك ، فإننا اليوم يحدونا الأمل ، و قد تقارب العالم ، بفعل عناصر وعوامل عديدة ، علمية وتكنولوجية ، أن نتمكن من توثيق تراثنا الحضاري القريب أولاً ، وحتى البعيد ،  ومن استنباط المبادئ الجمالية والفكرية التي بني عليها ، إن لم يكن موثِّقوه قد فعلوا ، في حينه ، أو كانوا فعلوا بقدرات إنتاج ونشر محدودة ، لنوفرها لأجيالنا الشابة ، فتبني عليها نتاجات معاصرة ذات امتداد حضاري .. فبهذا يحق لنا أن ننتسب إلى تراثنا ، ونكفل استدامة هويتنا الثقافية ، على مستوى العالم ..
هذا الأمل مشروع ، وممكن التحقيق ، إن خلُصت النيّات ، وكان ذلك ، ضمن أجل محدود ، و  قبل أن تتقطع الصلات مجدداً ، بيننا وبين تراثنا الحضاري ، القريب على الأقل  ،  فالحضارة لاشك تترك آثارها لمدة ما في شعب عندما تغادره.
مع الوقت قد تذوي هذه الآثار  ، وتذهب دون رجعة ، إن لم يحمها الشعب ، وانصرف إلى نتاج حضارات أخرى كلياً متخلياً عن دوره الحضاري.  أما إن احترم ما أنتجه الآباء والأجداد في فترة حضارية سابقة ، دون تأخير ، ودرسه وتعمق فيه ، وعمل على تطويره ، استناداً إلى خصائصه المميزة ، التي ولدتها تلك الفترة الحضارية ، مع الانفتاح على نتاجات حضارات أحدث والاستفادة منها ، وخاصة أدوات التكنولوجيا الجديدة  ، فإنه لاشك سينتج فترة حضارية جديدة ذات خصوصية ، لأنها تستند إلى ما ورثه ، و ما تفاعل معه.
إن فعلنا ذلك ، فإن هذا سيسمح لنا بالاستمرار في حجز مكان لنا على الساحة الحضارية العالمية ،  أما  إن تأخرنا ، وتملكتنا نوازع الاستكانة إلى نتاج حضارات وافدة ، والرفض لنتاجات أهلنا ، فسوف تتآكل فرصنا في استعادة مكاننا الحضاري ، مع مرور الزمن ، و سوف نفقد عندها حقنا في الانتساب إلى تراثٍ ورثناه ، فأهملناه .. وأضعناه..

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.