شهادات صحفية: سعد الله آغا القلعة عازف قانون ومبدع ألحان بقلم الشاعر عبد الكريم الناعم

شعار كتاب الأغاني الثاني

في الأول من أيار/ مايو عام 1989 ، طالعتني صحيفة تشرين السورية بمقال كتبه الشاعر الأستاذ عبد الكريم الناعم ، عرض فيه تحليله لأساليبي في العزف على آلة القانون.
أنشر اليوم ذلك المقال ، مع إضافة نماذج من عزفي تتوافق مع تصنيف الشاعر لها.

جريدة تشرين – الأول من أيار 1989

بقلم عبد الكريم الناعم 

لقد عرف بعض جمهور القناة الثانية في دمشق الدكتور سعد الله آغا القلعة وهو يقدم برنامجه الموسيقي: “العرب والموسيقا “،ولم يكن بث القناة الثانية يتجاوز حدود دمشق آنذاك، ونظراً لأهمية هذا البرنامج ولما فيه من قيمة علمية، ثقافية، حضارية تتجذر في تربة الإبداع الروحي لهذه الأمة فقد جرى نقله إلى القناة العامة، ومازال متابعو هذا البرنامج على موعدهم معه، ولست بصدد الكلام على هذا البرنامج، بل ثمة أمر أكثر أهمية في نظري هو الدكتور سعد الله ذاته، كمبدع، وكفنان له شخصيته الخاصة الممتازة، والمتميزة.

كيف تعرفت إليه


الذين عرفوا الدكتور سعد الله عبر شاشة التلفزيون عرفوه كمثقف موسيقي وكباحث ، وكملم بالموضوع الذي يشتغل فيه: الموسيقا،وعرفوه وهو يشرح أسس المفاضلة في قبول الطلاب الجامعيين، إذ أحد اختصـاصاته ، برمجة الكومبيوتر كواحد من اختصاصات علمية عدة يحملها، إضافة إلى كونه يحمل شهادة دكتوراه في الهندسة. هذه المعلومات، على ما فيها من دلالة تتعلق بغنى بشخصية المعني فإنها بعيدة جداً عن الجانب الذي أريد الكلام فيه، وهو: إبداعه الموسيقي، ونشاطاته المعروفة في هذا المجال.

أظن أن قلة قليلة من الناس تعرف أن المعزوفة التي تقدم كشارة لبرنامج، ” العرب والموسيقى ” هي من تأليف وعزف الدكتور سعد الله، ولئن استمع إليه البعض في حوار مرتجل بين النغم واللون، هو والفنان التشكيلي فاتح المدرس، فإن الطريقة، على ما هي فيه من جدة، ومفاجأة، فإنها لا تبسط إلا مساحة صغيرة من ذلك الأفق الإبداعي ،وإذا كان للفنان فاتح المدرس من الشهرة والحضور ما يجعل الذي شاهدناه من ارتجال في الرسم، إن صح التعبير- موجة من تلك الأمواج المتدفقة المتتابعة فإن ما عزفه الدكتور سعد الله كان يفتقر إلى ذلك الرصيد، وكان ارتجاله الحواري التعبيري، ربما، كل ما يعرفه معظم الجمهور عنه.

على شريط كاسيت استمعت إلى محاضرة ألقاها الدكتور سعد الله في المركز الثقافي العربي بحمص قبل عدة سنوات حيث كان يدرّس في جامعة البعث، كلية الهندسة، ومنذ أن استمعت إلى تلك الطريقة الرائعة، الخاصة في العزف على آلة القانون بدأت رحلتي في التعرف على هذا الفنان المبدع، و إذا كنت لست من ذوي الاختصاص في الموسيقا فإنني أقدم انطباعاتي كواحد من محبي السماع الموسيقي، وكواحد من متذوقي الموسيقى.

من المسلم به أن طموحات أي فنان في أن يكون له حضوره الخاص في الأثر الإبداعي بحيث ما إن ترى اللوحة، أو تقرأ القصيدة، أو تستمع إلى العزف، ودون معرفة مسبقة بالاسم، حتى تقول إن روح فلان تشع، ونادرون جداً هم الذين يصلون إلى هذه الذروة، ففي مجال الموسيقا، أعني العزف على آلة تحديداً، قلة هم الذين ما أن تستمع إلى العزف حتى تقول أن هذا فلاناً من العازفين، وتلك مسألة لا علاقة لها بالتلحين، فقد يبدع الملحن ألحاناً جيدة ولا يكون عازفاً جيداً،والأمر في العزف أكثر صعوبة بحكم الموروثات الارتجالية المستقرة في الذاكرة عبر تاريخ موغل، ومن أبرز من عرفناهم في هذا المجال أمير البزق محمد عبد الكريم، والأخوان جميل بشير ومنير بشير على العود، وأنور منسي على الكمان، وعبد السلام سفر على الناي، أسوق ذلك على سبيل المثال لا الحصر.


إن للدكتور سعد الله آغا القلعة طريقة وأسلوباً خاصين في العزف على آلة القانون ليسا لغيره على الإطلاق، وهو يحافظ على روحية هذه الخصوصية إن في التقاسيم التي يمكن أن نطلق عليها أنها كلاسيكية، وأن في المقطوعات التي هي من تأليفه وعزفه، والذي لاشك فيه أنه قد اكتشف في آلة القانون إمكانيات لم يسبقه أحد إليها، فيما أعرف، فأنت تستمع في عزف له فتمثل في زهنك شخصية القانون مضافاً إليها أسلوبه الخاص، وفي معزوفة ثانية يحتوي القانون شخصية البيانو بتقنية عالية، وفي ثالثة تمتزج شخصية الآلة بحضور خاص لآلة البزق،وفي رابعة قد يطل عليك الغيتار،أو السنطور.

إن اكتشاف هذه الطاقات في الآلة، مع المحافظة على شخصية القانون، وعلى شخصية العارف أمر لا يتسنى إلا للموهبة الفذة، المستندة إلى دراسة معمقة تعتمد البحث، والثقافة، والتنقيب في التراث الموسيقي العربي خاصة، وفي الموسيقا الشرقية بعامة، إضافة إلى اطلاع واسع، وعلمي على الموسيقى العالمية، ولعل من أبرز ما يميز أسلوب الدكتور سعد الله في العزف أنه يجمع في عزفه بين المدرسة المحلية في التقاسيم، والتي يمكن أن نطلق عليها المدرسة الشامية، والمدرستين المصرية والعراقية، ولكل مدرسة بعض ما يميزها عن الأخرى. فإذا استمعت إليه تشعر بمزج هذه المدارس، بأسلوبه الخاص، حتى لكأنه يقوم بعملية توحيد الشخصية الفنية التي غذّت فرقتها وبعثرتها الأوضاع الانفصالية القطرية.

الحداثة الموسيقية

إن الحداثة الموسيقية، وتحقيق إضافة نوعية في العزف والتأليف الموسيقي تشكلان هاجساً حافزاً لدى الدكتور سعد الله ولديه العديد من التجارب المسجلة في العزف التعبيري المدروس والمنفذ بتقنية وحساسية عاليتين، بل وثمة تجارب حداثية تعتمد على الإضافة، والتجديد، واعتماد سلالم موسيقية جديدة تحتاج لذوي الاختصاص لتحليلها،ولشرحها، ولتسليط الضوء عليها. إن فهم موضوعة الحداثة عند الدكتور سعد الله جعله يسعى إلى الإضافة والتجديد انطلاقاً من أن شجرة الموسيقا العربية تضرب جذورها عميقاً في تربة الروح العربية، وهو بذلك يتمسك بشخصية الأمة في إبداعها الذي لابد له أن يدخل منطقة الجمود والموت إن لم يثابر على فعل الإبداع ذاته.


تقديم ومثابرة

لقد قدم الدكتور سعد الله عبر برنامجه عدداً من الفرق الجادة، والأفراد المتميزين، وكان في كل ما رأيناه يبحث عن القيمة الفنية العالية، وليس ما استمعنا إليه عن سعيد فرحات بمشاركة عدد من كبار المنشدين الدينيين إلا واحداً من جهوده المتتالية، ومن منا لا يذكر تقديمه لصبري المدلل، ونوري اسكندر، ولفرقة الغسانية ، وإحياء التراث، وفرقة الرقة، وقد نكون على موعد مع طاقات فنية أخرى. فهو مازال يبحث عن الأصيل، الجاد، المتميز في زمن يفور بالرداءات الفنية.

من يقدمه؟

لقد قلت كل ما سبق لأصل إلى طرح السؤال التالي:

ترى من يقدم لنا سعد الله آغا القلعة الذي قدم لنا كل هذا، وما زال يجهد من أجل تقديم المزيد؟

لقد سجل الدكتور سعد الله في صيف العام الماضي قرابة ثلاث ساعات في فرنسا سجلت على اسطوانات. وكان المدعو الوحيد الذي طلب منه أن يعزف في التلفزيون الإسباني في مؤتمر موسيقي عقد في إسبانيا قبل بضعة أشهر، ولديه من تسجيلاته الخاصة عدد لا بأس به من الساعات، فهل ثمة من يقدمه لنتعرف إليه كعازف فريد؟

ترى هل يعمد التلفزيون في بلدنا إلى إمتاعنا بشيء من عزفه مع الإشارة إلى اسمه وهل تفعل الإذاعة ذلك؟ إنها أسئلة تنطوي على رغبة حارة، وكلام هدفه فتح الأعين على كنز فني نادر فهل نفك (الرصد) ونتملّى جماليات تلك الجواهر النادرة؟!!. عسى أن يكون ذلك.

عبد الكريم الناعم

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.