يارب سبَّح بحمدك كل شيء حيّْ لنور الهدى: عندما عبَّر بيرم التونسي عن نظرته إلى الحياة في مسارها وختامها!

شعار كتاب الأغاني الثاني
أنشر اليوم  أغنيةً ذات طابع ديني ، تحملها إلينا المطربة الكبيرة نور الهدى ، التي اختزنت أصول الغناء الشرقي ، وامتازت بصوتٍ قادر صدّاح ، أجده مزيجاً من أصواتٍ عديدة سبقته وعاصرته، في خلطةٍ فريدة ، يمكن تمييزها ، ببحَّتِها ، من بين مئات الأصوات.
تمتاز هذه الأغنية ، التي جاءت في أول أفلام نور الهدى في القاهرة : جوهرة ،  بنصِّها ، الذي حمَّلهُ المبدع بيرم التونسي ، في شكل خفي ، نظرته إلى الحياة!

نور الهدى قبل فيلم جوهرة ، الذي قدمها لأول مرة للساحة الفنية في القاهرة

نور الهدى عام 1944

ولدت نور الهدى / ألكساندرا بدران / في مرسين بتركيا فى 20-122-1924 ، إذ كان والدها مهاجراً إلى هناك. تربت وترعرعت في كنف المدرسة الفنية لمحمد عبد الوهاب، الذي كانت تسمع صوته يصدح في البيت ، فقد كان والدها مغرماً بشكل خاص بعبد الوهاب ، وفتحية أحمد ، حيث كانت تجلس لتستمع إليه بإنصات تام ، ثم لتسعى لتقليده بكل دقة ، مستفيدة من قدراتها الغنائية الفطرية .
انتقلت أسرة نور الهدى إلى بيروت ، حيث تبلورت موهبة نور الهدى في سن مبكرة ، لكن والدها كان محافظاً جداً ، ورافضاً لاحترافها الفن ، ثم أصبح مسايراً لذلك ، شريطة مرافقته لها أينما حلت ، سواء أكان ذلك في حلب ، أم في مصر لاحقاً ، عندما صارت في زمن قصير ، نجمة سينمائية ، وبقي ملازماً لها كخيالها ، مما حدَّ كثيراً من إمكانات نجاحها .
تركز النشاط الفني لنور الهدى حتى عام 1943 بين بيروت وحلب ، التي كانت ولاتزال مركزاً من أهم مراكز الطرب في العالم العربي. في حلب اهتم بها الملحن الكبير بكري كردي، و علّمها أساليب النطق الصحيح ، ولحَّن لها عدة أغنيات .
في إحدى زيارات الفنان الكبير يوسف وهبي إلى حلب ، لتقديم مسرحياته ، عرَّفها والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة ، الذي كان طبيبَ أسنان ، وموسيقياً ، وباحثاً في تاريخ الموسيقى العربية ، و كان يرعى الحركة الموسيقية في حلب ، على يوسف وهبي ، الذي كان قد دخل عالم الإنتاج السينمائي ، وكان يبحث عن بطلات لأفلامه التي تحتاج أساساً للغناء.
انتقلت نور الهدى إلى القاهرة ، مع والدها ، بعد أن وقعت مع يوسف وهبي عقداً لمدة خمس سنوات . اختار لها وهبي اسم نور الهدى ، وقدمها لأول مرة في فيلم جوهرة ، في عام 1943.
نجح الفيلم نجاحاً كبيراً ما شجع المنتجين السينمائيين على البحث عن أصوات جديدة، في مصر و سورية و لبنان، بل في كل البلاد العربية.

نعرض اليوم لإحدى أغنيات نور الهدى، في ظهورها الأول في فيلم جوهرة : يارب سبَّح بحمدك كل شيء حيّ ، من نظم بيرم التونسي و ألحان محمد الكحلاوي ، وهو ملحن ومطرب وممثل مصري ، اهتم بتلحين الأناشيد الدينية والأغاني الشعبية.

النص

اعتمد بيرم التونسي ، في النص ، على الأحرف الساكنة كرويٍّ ( قافية ) للشطرات ، وكذلك لأقسام الشطرات الداخلية ، مع تضادٍ لتلك الأحرف الساكنة ، مع أحرف متحركة ، موزعة في النص ، تسمح بإطلاق الصوت ، قبل الوصول إلى نهاية القسم أو الشطرة من البيت ، وذلك لخلق إيقاع داخلي خاص للنص ، ولكنني أرى ، أنه ، إضافة إلى ذلك ، وفي ظل مجمل نصه ، الذي يتوجه إلى الله عز وجلَّ أولاً ، ثم يتحدث عن الحياة بهمومها وأفراحها ، قد وظِّف هذا الأسلوب ، للتعبير عن تلك الحياة ، بهمومها وأفراحها ، وبنهايتها المحكومة بالغياب ، فسمح بإطلاق الصوت لإبراز ملامح الحياة ، وركز على الأحرف الساكنة للقوافي ( الرويّ) في ختامات الأقسام والشطرات ، في تعبيرٍ خفي ، عن همومها وختامها! فالأحرف الساكنة ، يتوقف عندها الصوت بشكل مفاجئ ، كما هي نهاية الحياة ! ألم يقل أبو فراس الحمداني لابنته ، وهو على الفراش الموت : ” أبنـيتـي لا تـجـزعـي **** كل الأنـام إلـى ذهـابْ ” في باء ساكنة ، أنهت البيت ، و رمزت إلى قرب النهاية؟
تجدر الإشارة إلى أن اختتام النص جاء بكلمة يا خيَّ ، في اقتراب من عالم الموّال ، إذ لم يبتعد النص واللحن عن عالم الموّال ، ولكنه أيضاً يؤمن روي الياء الساكنة المشددة ، بهدف إغلاق النص ، من خلال عودة إلى تلك الياء الساكنة المشددة ، التي حكمت الروي في أول أبيات الأغنية!

لنتابع النص وندقق :

يارب سبَّح بحمدكْ * كل شيئ حيّْ
لما تجليت وأجريتْ * الهوا والميّْ
خلقت منها نِعمْ * فيها الشبع والريّْ
يسعى بها القومْ * في ظل الشجر والفيّْ
يارب سبَّح بحمدكْ * كل شيئ حيّْ
لما تجليت وأجريتْ * الهوا والميّْ
يامسعد اللي رضي * بالحظ والمقسومْ
ينام ليله على فرْش الهنا ويقومْ
يارب سبَّح بحمدكْ * كل شيئ حيّْ
لما تجليت وأجريتْ * الهوا والميّْ
دنيا يا مبتئسْ * مجعوله للأفراحْ
إطرح هموم الكدرْ * وأقعد هني مرتاحْ
وإذا أصابك ضنى * ولاّ ابتليت بجراحْ
ياما تمر الهمومْ * مر السحابْ
يا خيّْ

اللحن
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية مرسلة ، أي بدون إيقاع ، يبرز فيها آلتا التشيللو والناي ، وفيما يأتي توظيف الناي مبرراً في اتجاهين : أولاً ، تقوم نور الهدى على المسرح بدور راعية غنم ، والناي هو الآلة الموسيقية المصاحبة لرعاة الأغنام ، كما أنها الآلة المصاحبة عادة للمضامين الدينية ، في عالم الإنشاد الديني ، لأنها ترمز للروح ، نظراً لأسلوب العزف عليها ، المعتمِد على تنفس الإنسان ، فيما يبدو توظيف آلة التشيللو غير مبرر، للوهلة الأولى ، بحسبان أنها ترمز عادة للرجل ، ما يدفع للاعتقاد بأن هذا كان توظيفاً له دلالة صوتية فقط ، في امتزاج صوتها بشكل ملائم مع صوت الناي ، لنكتشف لاحقاً أن المعاني موجهة إلى رجل ، يظهر في المشهد لاحقاً!

جاءت الأغنية على مقام البيات الشجي ، وهو مقام موسيقي متداول شعبياً ، ويتوافق مع شخصية راعية الغنم ، إذ أن عزف الرعيان على الناي ، يأتي عادة على هذا المقام ، كما أنه مقام موسيقي معتمد في أجواء الإنشاد الديني ، وهو بالتالي ملائم لمضامين التوجه لله عز وجلّ في بداية الأغنية. حفلت الأغنية أحياناً بأحرف صوتية ، سمحت لنور الهدى بإطلاق صوتها ، في امتدادات ، خالطتها تعرجات وتلوينات شرقية أصيلة.
انتقل اللحن إلى مقام الحجاز العاطفي ، عند انتقال المعاني من التوجه إلى الله عزَّ وجل إلى الحكمة : يا مسعد اللي رضي بالحظ والمقسوم ، في تعبير عن الرضا المشوب بالألم ، لينتقل لاحقاً إلى مقام الصبا الحزين ، عند : دنيا يا مبتئس مجعولة للأفراح ، في تعبير عن البؤس ، مع إدخال الإيقاع عند كلمة الأفراح ، للتعبير عنها ، في ظل مقامٍ حزين!


د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

One Response to يارب سبَّح بحمدك كل شيء حيّْ لنور الهدى: عندما عبَّر بيرم التونسي عن نظرته إلى الحياة في مسارها وختامها!

  1. محمد عبد القادر الفار says:

    تحليل مهم خاصة ما تفضلتم به عن مقام البيات وتوظيفه في سياق الإنشاد الديني، ومن ثم الانتقال العبقري من محمد الكحلاوي إلى مقام الحجاز عند الإشارة إلى حكمة الله عزّ وجل. رحم الله نور الهدى وبيرم التونسي ومحمد الكحلاوي ويوسف وهبي، ودمتم لنا أستاذنا الكبير.