كيف نؤسس لكي تكون الفنون عنصراً مستداماً ومؤثراً في تشكيل الشخصية المجتمعية المتوازنة ؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

استفسرَ ، في تعليقٍ له على حلقة التعليم باستخدام تكنولوجيا المعلومات ، من برنامج المعلوماتية ، الذي كنت أقدمه نهاية التسعينات على التلفزيون السوري ، والتي نشرتها على قناتي على يوتيوب ، إن كنت أقبل الإجابة عن  استفسارات له ، ولما أجبت بالإيجاب كتب:

أشكرك … دعني استهل استفساراتي بما يتعلق بالفن… ودعني أعمم جميع ألوان الفن في سؤالي … كيف يمكن ان تساهم المدارس في الارتقاء بالذوق الفني للنشء؟… هل جعل مادة الفنون إلزامية يساعد؟ هل النشاط اللاصفي؟ هل التحفيز المادي والمعنوي؟ هل يجب أن يكون هناك منهج كتابي أم يمكن ان يتم هذا دون الحاجة الى ذلك؟

فكتبت :

التوجيه للموسيقى يبدأ في سن الطفولة

أعتقد أننا لا يمكن أن نعزل الارتقاء بالذوق الفني كهدف مستقل .. كما أن الموضوع أعقد من وضع منهج ، وإلزام المدارس بتدريسه ، أو من تحفيز مادي أو معنوي .. إنها عملية متكاملة ومستدامة ، تتم على مراحل ، ذات أبعاد متنامية حلزونية التطور ، تبدأ من توفر قناعة عند المجتمع ، ابتداءاً من المسؤولين عن جميع القطاعات المتعلقة بالفنون ، نشرها ، وإنتاجها ، وتعليمها ، وصولاً إلى مختلف قطاعات المجتمع ، بأهمية الفنون ، كعنصر من عناصر الشخصية المجتمعية المتوازنة ، التي تؤمن للمجتمع استقراره ، ونموه ، وتطوره ، فيما تشكل جزئية الارتقاء بالذوق الفني ، عنصراً من عناصر تلك العملية المتكاملة .

سأركز فيما يلي على الموسيقى أحياناً ، مدركاً أن ما سأقوله ينطبق على الفنون جميعها ، ومركزاً على عناصر أساسية ، مع الإقرار بإغفالي لعناصر أخرى ، لا يتسع المجال لتعدادها ، والتوقف عندها.

يتطلب تجسيد قناعة المجتمع بأهمية الفنون ، كسياسة مجتمعية ، وضع خطة ، وبرنامج تنفيذي ، يتضمن الإجراءات اللازمة والمتزامنة لتحقيقها. ويبدو لي أن من أهم العناصر أولاً ، توجيه مختلف أدوات المجتمع للتركيز على احترام الفنون أولاً ، و لتعزيز مكانة المبدعين في إطارها ، لكي يشكل كل منهم رمزاً أو قدوة أو مثلاً أعلى ، يطمح الأطفال والشباب للسير على نهجه ، مع ما يتطلبه ذلك من نشر نتاج المبدعين ، وشرحه والتعليق عليه من قبل نقاد مختصين ، فيما تتطلب استدامة أهمية الفنون في المجتمع ، أولاً : توفير القدرة على اكتشاف المتفوقين ، ليكونوا مبدعي المستقبل ، وتوفير مواقع لتعليمهم ، ومن ثم مواقع لرعايتهم و نشر نتاجهم ، و ثانياً : بناء القدرة على التذوق الموسيقي لدى النشء الجديد ، لكي يتشكل الجمهور الذوّاق المتتبع للأعمال الإبداعية ، و الرافض لما يخرج عنها ، والذي يؤسس لبناء مجتمع جديد ، أعمق تواصلاً مع الفنون ، وأكثر احتراماً لها.

بالنتيجة ، إنها عملية متكاملة كما قلت ، تؤمن تحقيق الهدف المنشود نسبياً ، وتؤسس للانطلاق مجدداً ، وفي كل مرة ، في عملية مماثلة ، أعمق تأثيراً ..

من المتوقع أن تنطلق الإجراءات المتزامنة ، أولاً ، عبر وسائل تشكيل الرأي العام / إذاعة وتلفزيون وصحف .. /  للتركيز على هذا الهدف ، بغية أن تتشكل لدى المجتمع عموماً ، و الأسر خصوصاً ، قناعة تحفزها على التركيز في تربيتها لأطفالها ، قبل المدرسة ، على احترام الفنون ، ما يتطلب توفير البرامج الإعلامية التي تركز على التذوق الموسيقي ، من قبل نقاد قادرين على تقديمها للأهل بأسلوب شيق ، دون الدخول في تفاصيل الموسيقى وتعقيداتها العلمية التفصيلية ، و كذلك توجيه كتّاب المسلسلات لإدماج الفنون ، ومنها الموسيقى ، في القصص التي ترويها مسلسلاتهم ، مع إيلائها أهمية واضحة ، وتمرير رسائل تربوية من خلالها لمتابعيها ، ما يشجع الأسر في إجماله ، على احترام الفنون أولاً ، وتذوقها ثانياً ، و توجيه أطفالها وأبنائها ، ثالثاً ، إلى متابعة تلك البرامج ، و الاستماع للموسيقى ، من خلال البرامج الإعلامية ، فليس هناك ضمان أن تكون كل الأسر مهيأة أصلاً لتكون هي المحفِزة على ذلك، إضافة إلى إمكانية مناقشة مضامين الأعمال الفنية مع الأطفال و الأبناء لتقوية اعتزازهم بالفنون.

وفي سياق متزامن ، تقوم الجامعات بالعمل على توفير المدرسين المختصين ، الذين يتم انتقاؤهم على أساس الموهبة ، وفقط الموهبة ، للقيام بتدريس تذوق الموسيقى في المدارس ، انطلاقاً من مناهج توضع على هذا الأساس ، مع الابتعاد أثناء وضع تلك المناهج ، عن تعليم عناصر اللغة الموسيقية المعقدة في البداية ، والتركيز بالمقابل على الاستماع ، والتذوق ، والفهم ، والتدريب على الأداء البسيط ، على أن يتم إدماج عناصر اللغة الموسيقية بالتدريج. يُوجه مديرو المدارس لاحترام دروس الفنون ، وعدم تخصيصها لمواد أخرى تبدو لهم أكثر أهمية ، فيما يُدربُ مدرسو الفنون على أساليب اكتشاف المتفوقين من التلاميذ ، و يوجهون لعرض قدراتهم في النشاطات المدرسية ، كما يقوم المدرسون بتشجيع المتفوقين  على الانتساب إلى المعاهد الموسيقية ، و بتوفير ظهورهم في البرامج الإعلامية المتخصصة ، وفي نشاطات منظمات المجتمع الأهلي ، ضمن شبكة من أساليب التواصل المجتمعي اللازم بناؤها ، وذلك بغية تعريف المجتمع بالمتفوقين ، بما يكفل تشجيعهم ، و يدفعهم إلى تركيز جهودهم على تعزيز قدراتهم الفنية ..

ويجدر بنا أيضاً التفكير في إجراءات أخرى داعمة للإبداع ، ومنها تطبيق قوانين حفظ حقوق الملكية الفكرية ، و  تشجيع تشكل جمعيات المجتمع الأهلي التي تعنى بالفنون ، وكذلك تشجيع رجال الأعمال على رعاية الأعمال الفنية عالية المستوى ، من خلال تخفيض الضرائب على أرباحهم من نشاطاتهم الاستثمارية والتجارية ،  بقدر ما يسهمون في دعم الأعمال الفنية ، أو تشجيعهم على إنشاء شركات لإنتاج الأعمال الفنية ذات المحتوى الإبداعي ، و على توزيع تلك الأعمال ونشرها..

نعم إنها عملية متكاملة ، رسمت هنا بعضاً من خطوطها ، يجدر بنا الإسراع في تنفيذها ، لكي نحيط أطفالنا وأبناءنا بجو عام محفز على احترام الفنون وتذوقها ، وعلى تعظيم القيم الجمالية والأخلاقية والإنسانية ، سواء أكان هذا في إطار الأسرة أو الإعلام أو التعليم أو التربية ، بهدف تمتين علاقاتهم المجتمعية ، و إبعادهم على مجالات أخرى ،  تشوه تلك العلاقات ، و تبدو للأسف مسيطرة ، مع التركيز على المدرسة ، لأنها الموقع الذي يؤسس القدرة على تذوق الأعمال الفنية ، و لأنها نقطة الانطلاق لاكتشاف المبدعين ، و لتوفير الجمهور الذواق الداعم لهم في المستقبل ، سواء أكان ذلك تشجيعاً ومتابعة ، أم نشراً وإنتاجاً ، لأن خريجي المدرسة ، هم المجتمع القادم ، فإن أحسنّا تأهيلهم فنياً ، فإننا نضمن استدامة الفنون ، لأنهم لن يشكلوا جمهورها المؤيد والمتابع فقط ، وإنما ، ومن خلال تنوع مواقع عملهم ، سيكونون الداعمين لها ، وبشكل أفضل من مجتمعنا المعاصر ، إنتاجاً ونشراً ورعاية ، لندخل ، وكما سبق وأشرت ، في مسار حلزوني متنامٍ ، تصبح فيه للفنون الأهمية التي تستحقها .. والتي قد لا يعيشها جيلنا ، ولكنه سيكون المؤسس لها .. إن أراد..

تجدر الإشارة ، في ظل أن لكل مظهر من مظاهر النشاط الإنساني أوجهاً متعددة من الضرر والنفع ، إلى أن الكثير من التشوهات المجتمعية ، يأتينا اليوم ، عبر توظيف مضلل للفنون ، إذ تحفل الأفلام والمسلسلات والأغاني ، بكل ما هو مشوه للعلاقات المجتمعية عامة ، و الأسرية على وجه الخصوص .. وما دام أن استفسارك أتى عبر اليوتيوب ، فإنني أشير مثلاً ، إلى أن الأفلام المترجمة إلى العربية على يوتيوب  ، تركز أساساً على أفلام العنف والرعب والجريمة وغيرها ،  وأنه سيصعب عليك أن تجد فيلماً ذي سوية فنية عالية ، ومقولة اجتماعية أو تاريخية ، من الإنتاج العالمي ، إلا إن بحثت عنه بالإنجليزية أو الفرنسية ، ما يدل على أن تلك الأفلام أصبحت تشكل الطلب الأبرز في مجتمعاتنا العربية ، للأسف ، و ما يعني ضرورة إطلاق حوار حول هذا الموضوع ، ليس هنا مجاله ، ولكنني أشرت إلى هذا الواقع ، للتأكيد على أنني ركزت في إجابتي على فنون ذات مضامين جمالية و أخلاقية وإنسانية .. تسهم في تجانس المجتمعات..  لا في تفكيكها..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged . Bookmark the permalink.

Comments are closed.