لماذا أركز على الموسيقى : هل تعلم أن عزف الموسيقى أو الاستماع إليها أو فهمها يحفز أدمغتنا على العمل بشكل أكثر فعالية من أي نشاط إنساني آخر؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

سألني : لماذا تُركز على الموسيقى في ما تنشر ؟ فيما طيف اهتماماتك العلمية والهندسية والفنية والثقافية والفكرية يتعدى الموسيقى ، إلى مجالات عديدة ، تجاورت فيها العلوم والتقانات والفنون مع محاور أخرى ، قد تبدو اليوم أكثر أهمية بكثير من الموسيقى .. لماذا تركز على فهم الموسيقى أكثر من الاستماع إليها للاستمتاع ؟ فيما يظهر أن الغالبية العظمى من محبي الموسيقى يفضلون الاستمتاع على الفهم ..

في الواقع .. غايتي كانت دائماً ، وانطلاقاً من تجربة شخصية ، لا تقف فقط عند الموسيقى بحد ذاتها ، بل كانت تمتد أيضاً للوصول إلى هدف أبعد ، وهو تطوير القدرات .. لقد اقتنعت ، ومنذ زمن بعيد ، أن الموسيقى ، بأبعادها الفنية الجميلة ، تولد لدى الاستماع إليها ، شعوراً طاغياً بالاستمتاع ، ولكنها أيضاً كلغة مجردة ، حافلة بالمعلومات الصوتية والزمنية ، ذات التركيبات العلمية والهندسية ، في كل ثانية من ثواني بثها ، تجعل الاستماع إليها ، بدرجة أولى ، والسعي لفهمها بدرجة أعلى ، تدريباً حقيقياً للدماغ ، حيث يضطر الدماغ هنا أن يوظف كافة أدواته ، المخصصة للفن والإبداع ، والمخصصة للعلم والرياضيات ، في آن واحد ، لمتابعة عمل موسيقي أو غنائي ، بدرجات مختلفة حسب الغاية ، استماعاً ، أو فهماً ، ما يشكل بحد ذاته تدريباً استثنائياً للدماغ ، سيساعده على التعامل لاحقاً مع أي مجال آخر ، علمي أو فني ، بشكل أفضل.

ولذا فقد ركزت جهودي ومنذ سنوات طويلة ، عبر التلفزيون ، من خلال برامجي حول الموسيقى العربية ، في إطار مشروع موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، ولا أزال ، من خلال موقعي على الإنترنت ، وصفحتي على موقع فيس بوك ، على تقريب الموسيقى العربية من الفهم ، علماً بأن الاستمتاع والفهم غير متعارضَين .. إذ يمكن أن نستمع للاستمتاع أولاً .. ثم نستمع لمحاولة الفهم ثانياً ..

وأود في هذا المجال ، أن أشارككم هذا الفيديو ، الذي يجسد دراسة ل Anita collins ، و الذي يبين ، أن أحدث الدراسات العلمية الخاصة بالدماغ ، تؤكد ما ذهبتُ إليه من سنوات طويلة .. ورغم أن الفيديو بالإنجليزية ، فقد تمت ترجمته للعربية.

سيبين الفيديو ما سبق و قلته باختصار قبل قليل : الاستماع للموسيقى ، يحرض عدداً أكبر من خلايا الدماغ على العمل ، نسبة لأي نشاط إنساني آخر ، بل إن عازفي الموسيقى ، يضطرون لتشغيل نصفي الدماغ سوية ، في حالة نادرة أمام النشاطات الإنسانية الأخرى ، التي تتطلب تشغيل أحد النصفين لا كليهما ، حسب كون النشاط علمياً رياضياً أو فنياً إبداعياً .. ما يدربهم على التجول بين جانبي الدماغ بسهولة أكثر ، أثناء محاولة التعامل لاحقاً مع أي ظاهرة تقودهم الحياة للتعامل معها ، تحليلاً أو تركيباً..!


وأخيراً .. إنني أجد في هذا أيضاً رسالة للآباء والأمهات ، للسعي لتعليم أولادهم الموسيقى ، وتشجيعهم على فهمها ، ليس بالضرورة لامتهانها ، ولكن لتحفيزهم على النجاح بشكل أفضل في التعامل مع أي نشاط إنساني آخر ، من جهة ، و لإبعادهم ، من جهة أخرى ، عن آفات هذا العصر.. ولهذا حديث آخر..

لأهمية الموضوع إليكم ترجمة نص الفيديو:

هل تعلم أنه في كل مرة يلتقط الموسيقيون آلاتهم ، تنطلق الألعاب النارية في كل أنحاء الدماغ لديهم ؟ قد يبدون من الخارج ، بحالة من الهدوء والتركيز ، في قراءة النوطة ، وتطبيق الحركة المطلوبة بدقة وحرفية ، لكن ثمة حفلة صاخبة تجري داخل عقولهم .

كيف نعرف ذلك ؟ في العقود القليلة الماضية ، أحرز علماء الأعصاب تقدماً نوعياً في فهم كيفية عمل الدماغ ، عن طريق مراقبته المباشرة ، بواسطة أدوات ، مثل الرنين المغناطيسي ، وماسحات التصوير المقطعي . يتم تثبيت الأجهزة على الناس ، وعند القراءة ، أو حل تمارين رياضية ، تنشط مراكز معينة من الدماغ ، حيث يمكن مراقبة النشاط الدماغي.

ولكن ، عندما طلب الباحثون من المشاركين الاستماع للموسيقى ، شاهدوا ألعاباً نارية ، إذ تنبهت مراكز عديدة من الدماغ ، في نفس الوقت ، بينما كان يعمل على تحليل الصوت ، وفصله إلى أجزاء ، لفهم عناصره ، كاللحن والإيقاع ، ومن ثم يجمع الأجزاء مجدداً ، لتصبح تجربة غنائية موحدة . تنجز أدمغتنا كل هذه الأعمال بظرف ثانية ، بين لحظة سماعنا للموسيقى ، ولحظة بدء التفاعل مع الإيقاع .

عندما تحول العلماء ، من مراقبة أدمغة مستمعي الموسيقى ، إلى أدمغة الموسيقيين ، تحولت الألعاب النارية الصغيرة ، إلى حفلة صاخبة . تبين أن الاستماع إلى الموسيقى ، يشغل الدماغ ببعض النشاطات المذهلة ، أما العزف بالنسبة للعقل ، فهو تماماً كما الرياضة بالنسبة للجسم . لاحظ علماء الأعصاب ، أن أماكن متعددة ، تنشط في الدماغ ، تزامناً مع تحليل المعلومات المختلفة ، بمتواليات معقدة ومترابطة وفائقة السرعة .

ولكن ماذا عن التأليف الموسيقي الذي يشعل الدماغ ؟ لازال البحث حديثاً ، لكن لدى علماء الأعصاب فكرة رائعة : عند العزف على آلة موسيقية ، تنشط كل منطقة من الدماغ في آن معاً ، وخاصة البصرية والسمعية والحركية ، وكما الحال في أي عمل آخر ، تؤدي التمارين الموسيقية المتواصلة والمنتظمة إلى تقوية وظائف الدماغ ، مما يتيح لنا تطبيق تلك القوة على النشاطات الأخرى .

الاختلاف الأبرز بين الاستماع للموسيقى وعزفها ، هو أن العزف يتطلب مهارات حركية دقيقة ، تتم إدارتها في كلا النصفين ، كما يدمج الدقة اللغوية والرياضية  ، والتي يتولى إدارتها النصف الأيسر من المخ ، مع المحتوى الروائي والإبداعي ، الذي يتولى إدارته النصف الأيمن . لهذه الأسباب ، تبين أن العزف، يزيد من حجم ونشاط الجسم الثفني للدماغ ، وهو الجسر بين كلا النصفين ، مما يتيح للرسائل أن تعبر الدماغ بشكل أسرع ، ومن خلال مزيد من المسارات .

قد يتيح ذلك للموسيقيين حل المشاكل بمزيد من الفعالية والإبداع ، في كلا الشقين الأكاديمي والاجتماعي ، فالتأليف الموسيقي ، يتطلب صياغة وفهم المحتوى العاطفي والرسالة .

غالباً ما يتميز الموسيقيون بمعدلات أعلى في الوظيفة التنفيذية ، وهي سلسلة من المهام المترابطة ، تتضمن التخطيط والاستراتيجية والانتباه للتفاصيل ، وتتطلب تحليلاً متزامناً للجانب المعرفي والعاطفي . لهذه القدرة أيضاً الأثر على كيفية عمل أنظمة الذاكرة ،  وتكون وظائف الذاكرة لدى الموسيقيين متطورة ، من حيث تأليف الذكريات ، وفرزها، واسترجاعها بسرعة وفعالية أكبر . وجدت الدراسات ، أن الموسيقيين يستخدمون أدمغتهم ، المتصلة جداً ، لإعطاء كل ذكرى وسمات مختلفة ، مثل وسمة خيالية ، ووسمة عاطفية ، ووسمة سمعية ، وأخرى سياقية ، أشبه بنحرك بحث جيد .

ولكن كيف عرفنا أن هذه الفوائد تأتي حصراً من الموسيقى ؟ لم لا نقول الرياضة أو الرسم ؟ أو ربما أن هؤلاء الذين دخلوا عالم الموسيقى ، كانوا أذكياء من البداية ؟

بحث علماء الأعصاب في هذه القضايا ، وحتى الآن اكتشفوا ، أن الجوانب الفنية والجمالية لتعلم العزف على آلة موسيقية ، تختلف عن أي أنشطة أخرى ، بما في ذلك الفنون المتبقية ، وقد أجريت العديد من الدراسات العشوائية للمشاركين ، الذين أظهروا معدلات متشابهة في الوظيفة المعرفية ، والمعالجة العصبية ، عند البداية ، ووجدت أن هؤلاء الذين درسوا الموسيقى لفترة معينة ، أظهروا تحسناً في مناطق متعددة من الدماغ ، بالمقارنة مع الآخرين . البحوث الأخيرة عن الفوائد العقلية للعزف ، طورت من فهمنا للوظيفة العقلية ، كاشفة الإيقاعات الداخلية ، والتفاعل المعقد ، الذي يؤلف الأوركسترا المذهلة .. لأدمغتنا.

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged . Bookmark the permalink.

Comments are closed.