لماذا لم يؤرخ العرب لموسيقاهم؟

شعار كتاب الأغاني الثانيأجيب اليوم عن سؤال هام وصلني من باحث في مجال التأريخ : لماذا تأخر التأريخ للموسيقى العربية نسبة للأمم الأخرى ؟ وهل هناك من معالجة لهذا الواقع ؟

وإليكم الإجابة التي أنشرها لتعميم الفائدة :

أولاً: خلافاً للمتداول : في كتابة تاريخ الموسيقى ، النص هو نصف الحقيقة ، والتسجيل الصوتي ، إن وجد ، فهو الأساس.

في الواقع ، تختلف عملية كتابة تاريخ الموسيقى عن عملية تأريخ أي نشاط إنساني آخر ، نتاجه قابل للطباعة على الورق ، وذلك نظراً لخصوصيتها ، المتمثلة أساساً ، في تداخل الوثائق المكتوبة التي تحمل التأريخ ، مع الوثائق السمعية والبصرية ، التي تشكل المنتج الموسيقي التقليدي الذي يؤرَّخُ له .

تسبب هذا في ثغرات كثيرة في نتائج عمليات تأريخ الموسيقى ، بسبب الفصل التام بين النص التاريخي ومضمونه الموسيقي ، على مستوى التطبيق الفعلي ، إذ لم تكن هناك أي إمكانية ، لتجسيد الوثائق المكتوبة والوثائق السمعية البصرية ، على حامل واحد ، يسمح بضبط التجانس بين المعلومات التي تحملها، والنتائج التي يتم التوصل إليها.

بالمقابل ، لم تتأثر عمليات التأريخ لمجالات النشاط الإنساني الأخرى بهذا الواقع ، فالتأريخ للفلسفة أو الأدب أو الشعر أو التصوير ، على سبيل المثال ، ممكن ، حيث النص الحامل للتأريخ ، و النص الحامل للمنتج النهائي المؤرخ له ، أو الصورة ، قابلان للتجسيد على حامل واحد ، يسمح بالمقارنة والتدقيق المباشر.

نعم : المشكلة في التأريخ للموسيقى ، أن النص الحامل للتأريخ لا يشكل إلا نصف الحقيقة ، التي لا تكتمل إلا بالتسجيل الصوتي ، إن وجد ، فهو الأساس ، لتأريخ متكامل ذي مصداقية.

ورغم أن هذا الواقع أدى إلى تأخر التأريخ للموسيقى عند الشعوب كافة ، نسبة لمظاهر النشاط الإنساني الأخرى ، فقد استطاعت أمم عديدة أن تنجز التأريخ لموسيقاها ، بالوسائل المتاحة ، فيما بقي العرب بعيدين عن إنجاز هذه المهمة التاريخية.

المعالجة ممكنة

ولكن التطور الكبير الذي شهده التوثيق الرقمي للنصوص و الوثائق السمعية والبصرية في العقود الأخيرة ، و بسبب تطور الأدوات المعلوماتية ، وفَّر أمالاً كبيرة في تجاوز العوائق الموصوفة أعلاه ، ولكنه تسبب ، وبالنسبة لعملية تأريخ الموسيقى ، في ضرورة إعادة النظر في المنهجيات التقليدية ، لعدم صلاحيتها ، سواء لجهة توثيق المعلومات ، أم لتقاطعها و لتحليلها أم لاستغلالها ، كما ولَّد خيارات متعددة لها ، بسبب الإمكانيات المتعددة لتداخل المضمون الموسيقي وحوامله المكتوبة والسمعية والبصرية ، مع أحدث التقنيات المعلوماتية ، التي توظف آليات البحث ، و التأليف الرقمي التشاركي ، و التغذية الراجعة الآنية ( بغرض التدقيق وتوثيقه ) ، للوصول إلى المنتج النهائي ، الذي أصبح موحد الحامل. وهو ما أجسده في الكثير من المنشورات على موقعي على الإنترنت ، حيث يتداخل النص مع الوثائق السمعية والبصرية بليونة كاملة.( لنتابع أسلوب النشر الذي أتبعه حيث ما يظهر باللون الأزرق ، المتداخل مع النص ، هو لمشغل صوتي ، يسمح بالاستماع المباشر إلى اللحن ، موضوع البحث ، كما يظهر  تداخل الملفات السمعية البصرية ، مع الصورة ، مع الملفات الصوتية ، ضمن النص ذاته ، لتسهيل المقارنات).

وسرعان ما انتقل هذا الأسلوب في توظيف اللوازم الموسيقية ، إلى الأشكال المطورة للقوالب التلحينية الأخرى ، مع انتقال عناصر من المونولوج الرومنسي إليها ، فأصبحت من  أهم ملامح تطوير القوالب التلحينية الغنائية القديمة. ظهر هذا في الأعمال الغنائية التي جسدت ملامح تطوير قالبي القصيدة والطقطوقة ،  في إطار اقترابهما من قالب المونولوج الرومنسي.

كانت البداية مع محمد عبد الوهاب في قصيدة : ” الهوى والشباب ” 1931 ، التي اقتربت من قالب المونولوج ، حيث بدأت ملامح اللوازم الموسيقية الجديدة تظهر ، الهوى والشباب محمد عبد الوهاب .

ثم جاءت قصيدة محمد عبد الوهاب ” أعجبت بي ” في عام 1935 ، لتقترب أكثر من قالب المونولوج ، و تحفل بتقاطعات موسيقية مفاجئة ، مع الجمل اللحنية المغناة ، في سياق أداء البيت الشعري الواحد ، أعجبت بي محمد عبد الوهاب ،   كما برزت اللوازم الموسيقية لاحقاً في قصيدة ” الجندول ” 1940 ، في أسلوب مشابه.

وفي سياق متصل ، برزت اللوازم الموسيقية في أعمال  الملحنين الآخرين ، كما في قصيدة ” أسقنيها ” من ألحان  محمد القصبجي لأسمهان 1939 ، و  في أغنية ” فرق ما بيننا ليه الزمان ” للقصبجي أيضاً مع أسمهان 1940  ، التي جاءت على قالب الطقطوقة المطورة ، وكذلك في أعمال متنوعة لرياض السنباطي وفريد الأطرش ، لتتحول اللوازم الموسيقية مع الوقت إلى عنصر هام من عناصر اللحن.

أما في السينما ، التي كانت تتطلب جرعة تعبيرية أوضح ، فقد تطورت أهمية اللوازم الموسيقية  في إيضاح الأبعاد التعبيرية للأغنية السينمائية ، وخاصة في الحواريات الغنائية ، ومنها مثلاً حوارية ” حكيم عيون ”  عام 1944 ، لمحمد عبد الوهاب مع راقية ابراهيم ، التي جاءت في سياق فيلم ” رصاصة في القلب ” ، و التي حفلت في مسارها بلوازم موسيقية تعبيرية درامية .

 

من هنا فإن علينا ألا نقلد تجارب الدول الأخرى المنجزة في تأريخ الموسيقى، لأنها تمت في ظروف سبقت ولادة الأدوات المعلوماتية في صورتها الحديثة ، وعلينا أن نبني تجربتنا المتأخرة ، باستخدام أحدث التقانات ، وخاصة في تقاطع المعلومات ، بين ما هو مكتوب ومكتوب ، ولكن أيضاً بين ما هو مكتوب ومسجَّل ، حيث هناك الكثير من الأخطاء والمغالطات التي انتشرت واعتبرت حقائق ، عندما كانت ترد مكتوبة في الكتب ، بينما تكشف أي مقارنة بسيطة بينها وبين التسجيل الصوتي زيف التحليل الوارد و ضعف النتائج.

 

 المعالجة إذاً ممكنة ، وحرق المراحل ممكن ، إن توفرت مؤسسات تهتم بإنجاز هذه المهمة ، إلا أن الواقع ، للأسف ، لا ينبئ بتوفر أي مؤسسة تتصدى لهذه المهمة ، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية!

 

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading