أسئلة قيد البحث : لماذا حوَّل السنباطي رباعيات أطلال ناجي إلى ثلاثيات؟

شعار كتاب الأغاني الثاني

لطالما عرَّفت العمل الفني الحقيقي بأنه الذي يوفر إمكانية قراءته في مستويات متعددة .. وكلما ازداد عمق تلك المستويات كلما ازدادات أهمية ذلك العمل الفني .. و في الواقع فإن قصيدة الأطلال لابراهيم ناجي ورياض السنباطي وأم كلثوم تعطي مثالاً ساطعاً على ذلك!

لقد تناولت هذه القصيدة المغناة مرات عديدة على مدى سنين طويلة ، خلال عملي على موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، وفي كل مرة  ، كنت أعرض لزاوية جديدة ، إذ خصصت جزءاً من حلقة تلفزيونية من برنامجي نهج الأغاني ، لتحليل مقدمتها الموسيقية ، وجزءاً من حلقة أخرى ، لتحليل التعبير في اللحن عن المعاني ، وأسلوب تشكيل النص ، ثم حلقة كاملة من برنامج نحو نهضة موسيقية عربية لشرح بنائها اللحني!

واليوم ، أعرض لسؤال كنت طرحته و ما زال قيد البحث عن إجابة : لماذا حَّول السنباطي الرباعيات في أطلال ناجي إلى ثلاثيات؟

وفي الواقع هذا مافعله السنباطي ، ففي الأطلال ، كما سبق وشرحت منذ 22 سنة في برنامج نهج الأغاني ( 1997 )  ، ثم نقلت الفكرة عني في نوافذ عديدة لاحقاً ، وظَّف السنباطي 10 رباعيات مختارة ، من قصيدتين للدكتور إبراهيم ناجي : قصيدة الأطلال من ديوان ليالي القاهرة ، وقصيدة الوداع من ديوان وراء الغمام ، إذ جاءت القصيدتان على أسلوب الرباعيات ، ثم أعاد ترتيب تلك الرباعيات ليرسم القصة التي أرادها ، وليحقق ضرورات البناء اللحني الذي خطط له .. ولكن السنباطي استبعد ، في 8 رباعيات ، أحد الأبيات ، ليكتفي بثلاثة منها فقط ، ويحول تلك الرباعيات إلى ثلاثيات ! مبقياً على رباعيتين اثنتين كما وردتا .. فلماذا كان ذلك؟

لنستعرض الرباعيات التي اختارها السنباطي ونحدد الأبيات المستبعدة بين معترضتين

يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صرحاً من خيالٍ فهوى 
إسقني وأشرب على أطلاله .. وأروِ عني طالما الدمع روى 
كيف ذاك الحب أمسى خبراً .. وحديثاً من أحاديث الجوى
/ وبساطاً من ندامى حلم * هم تواروا أبداً وهو انطوى /

وهنا نلاحظ أن مضمون البيت الرابع فيه تكرار وزيادة في المعنى تضعف البيت الثالث و لذا تم الحذف.

***

لست أنساك وقد أغريتني .. بفمٍ عذب المناداة رقيقْ 
ويدٍ تمتد نحوي كيدٍ .. من خلال الموج مدت لغريق
/ آه يا قبلة أقدامي إذا شكت الأقدام أشواك الطريق /
وبريقاً ( وبريقٍ)  يظمأ الساري له .. أين في عينيك ذياك البريق

نلاحظ أن قول ناجي : قبلة أقدامي ، غير ملائم.

******

يا حبيباً زرت يوماً أيكه .. طائر الشوق أغني ألمي 
لك إبطاء المدل المنعم .. وتجني القادر المحتكمٍ 
وحنيني لك يكوي أضلعي .. والثواني جمرات في دمي
/ وأنا مرتقب في موضعي .. مرهف السمع لوضع القدم /

استبعاد البيت الرابع أتى لأنه يضعف المعنى في البيت الثالث حيث الثواني جمرات في دمه و إذ به ساكن مرتقب مرهف السمع ما يعارض حرارة الجمرات ويخفض من تأثير حرارتها!

******

أعطني حريتي أطلق يديَّ .. إنني أعطيت ما استبقيت شيَّ 
آه من قيدك أدمى معصمي .. لم أبقيه وما أبقى عليَّ 
ما احتفاظي بعهودٍ لم تصنها .. وإلام الأسر والدنيا لديَّ
/ ها أنا جفت دموعي فاعف عنها .. إنها قبلك لم تبذل لحيّ /

تم استبعاد البيت الرابع لغايات تلحينية ، إذ اعتمد السنباطي إضافة الألف في نهايات الأبيات لإطلاق صوت أم كلثوم وهو ما سمحت به الأبيات الثلاثة الأولى : ما استبقيت شيّا ، ما أبقى عليّا ، والدنيا لديّا ، فيما لا يسمح البيت الرابع بذلك إذ لايمكن القول : لم تبذل لحيّا!

******

أين من عيني حبيبُ ساحرٌ .. في نبل وجلال وحياء 
واثق الخطوة يمشي ملكاً .. ظالم الحسن شهي الكبرياء 
عبق السحر كأنفاس الربى .. ساهم الطرف كأحلام المساء
/ مشرق الطلعة في منطقه .. لغة النور وتعبير السماء /

لعل السنباطي هنا استبعد هذا البيت لأنه أضفى على منطق الحبيب صفات تخرج عن صفات البشر.

******

أين مني مجلس أنت به .. فتنةٌ تمت سناء وسنى 
وأنا حبٌ وقلبٌ هائمُ .. وخيالٌ حائرٌ منك دنا 
ومن الشوق رسولٌ بيننا .. ونديمُ قدم الكأس لنا
/ وسقانا فانتفضنا لحظة .. لغبار آدمي مسَّنا!/

لعلي أرى أن الاستبعاد هنا كان لإيحاءات البيت الأخير.

******

هل رأى الحب سكارى مثلنا .. كم بنينا من خيالٍ حولنا
ومشينا فى طريق مقمرٍ .. تثب الفرحة فيه قبلنا
/ وتطلعنا إلى أنجمه فتهاوين وأصبحن لنا /
وضحكنا ضحك طفلين معاً .. وعدوّنا فسبقنا ظلنا

البيت الثالث هنا جرى استبعاده لأن يقطع المعنى الذي يربط بين الفرحة و الضحك في البيتين الثاني والرابع.

*****

وانتبهنا بعد ما زال الرحيق .. وأفقنا ليت أنّا لا نفيق 
يقظة طاحت بأحلام الكرى .. وتولى الليل والليل صديق 
وإذا النور نذيرٌ طالعٌ .. وإذا الفجر مطلٌ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها .. وإذا الأحباب كلٌّ في طريق

لم يجر استبعاد أي بيت لأن المعاني في الأبيات تعطي تسلسلاً واضحاً لتطور الزمن ولأن البيت الرابع يعطي بعداً درامياً واضحاً ويمهد للأبيات التالية التي غلفتها مشاعر الفراق والألم.

*****

أيها الساهر تغفو .. تذكر العهد وتصحو 
وإذا ما التأم جرح .. جدّ بالتذكار جرحُ
فتعلّم كيف تنسى .. وتعلّم كيف تمحو
/ أو كل الحب في رأ.. يك غفران وصفحُ /

جرى استبعاد البيت الرابع لسببين : الأول يتصل بأسلوب السنباطي في تلحين قصيدة الأطلال ، إذ اعتمد توقفات في الجملة اللحنية بين الصدر والعجز في البيت الواحد ، وهو أسلوب تقليدي تماماً في تلحين القصيدة المغناة. ولما كان البيت الرابع لا يسمح بذلك فقد كان استبعد البيت الرابع / وهناك سبب آخر وهو أنه يضعف المعنى الذي ورد في البيت الثالث فبعد : فتعلم كيف تنسى و تعلم كيف تمحو ، في صياغة حاسمة ، لأنها النتيجة التي ستترسخ في الرباعية الأخيرة ، يأتي البيت الرابع ليطرح سؤالاً يضعف هذا الحسم.

*****

يا حبيبي كل شئٍ بقضاء .. ما بأيدينا خلقنا تعساء 
ربما تجمعنا أقدارنا .. ذات يوم بعد ما عز اللقاء 
فإذا أنكر خل خله .. وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته .. لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء

جاءت هذه الرباعية كاملة ، إذ أن مضمون أبياتها يعبر عن منطق متسلسل متكامل فيه الحكمة : يا حبيبي كل شيء بقضاء ، و فيه احتمالات لقاء قادم ، يجمعهما كغرباء والبيت الرابع يعطي النتيجة : فإن الحظ شاء.

في الإجمال ، نلاحظ إذاً غياب البيت الرابع في الرباعية الأولى ، أما  في رباعية لست أنساك فقد غاب البيت الثالث،  بما يعني أن السنباطي كان يبحث عن بيت ليستبعده ، وليس بالضرورة أن يكون البيت الأخير من الرباعية. طبعاً اضطر السنباطي أن يحول  ( بريقاً ) إلى ( بريقٍ ) في البيت الرابع الذي أصبح ثالثاً! وهكذا في رباعيات القصيدة المختارة جميعها ، كما لاحظنا  ، إلا في رباعيتين سنأتي إليهما لاحقاً. ..
وحتى عندما استقدم رباعيتين من قصيدة الوداع ،  لأغراض تتعلق بالبناء الموسيقي ، كما سبق و شرحت في برنامج نهج الأغاني ، فقد استبعد من إحداهما البيت الثالث أيضاً  ، وذلك في رباعية : هل رأى الحب سكارى:

هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مقمر تثب الفرحة فيه قبلنا
/وتطلعنا إلى أنجمه فتهاوين وأصبحن لنا/
وضحكنا ضحك طفلين معاً وعدونا فسبقنا ظلنا

و فيما لم يؤثر الحذف ، حيثما تم ، على وضوح وتكامل المعنى ، فإن السنباطي حافظ على الرباعية كاملة في حالتين فقط كما لاحظنا:
في الرباعية التالية :

وانتبهنا بعدما زال الرحيق وأفقنا ليت أنا لا نفيق
يقظة طاحت بأحلام الكرى وتولى الليل والليل صديق
وإذا النور نذير طالع وإذا الفجر مطل كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق

وكذلك في رباعية الختام:

يا حبيبي كل شيء بقضاء * ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

وبالتدقيق نلاحظ أن الرباعيتين كانتا تتحدثان عن الفراق ، وأعتقد أنه حافظ على جميع الأبيات فيهما ،  لأنه كان لابد من تطوير الحدث الدرامي في الرباعية شيئاً فشيئاً ، قبل الفراق المفجع ، كما أن النص ، في الرباعيتين ، كان متسلسلاً في صياغته ، ما تطلب الحفاظ على أبيات الرباعيتين.

وبالنتيجة فإنني أرى أن السنباطي فضل شكل الثلاثية على الرباعية؟ للأسباب التالية:

  • كنتيجة لاستبعاده أبياتاً لأنها:
    • بدت له أضعف من غيرها ( وبساطاً من ندامى حلم )  ..
    • ضمت مفردات لم يجدها ملائمة ( آه يا قبلة أقدامي ) ، ( لغبار آدمي مسَّنا!) ،( لغة النور وتعبير السماء ) ..
    • خالفت في  تحريك قافيتها القافية  البديلة التي تسمح له بإطلاق صوت أم كلثوم ( إنها قبلك لم تبذل لحيّ)..
    • خالفت أسلوبه في تلحين صدر وعجز البيت الواحد (  أو كل الحب في رأ.. يك غفران وصفحُ ؟).
  • تكثيف المعاني.
  • تسريع إيقاع التطور الدرامي على مستوى الرباعية الواحدة.
  • تسريع التناوب بين المشاهد الهادئة والحيوية ( شرحت ذلك التناوب و عناصر البناء اللحني بإسهاب في برنامج : نحو نهضة موسيقية عربية جديدة ) بهدف إبراز البناء اللحني و تسريع إيقاع القصيدة ككل ، خاصة أنه لم يعتمد في لحنه لها أي تكرار!

يثبت هذا مرة أخرى ، مدى دقة السنباطي في التعامل مع النص من جهة ، و سعيه لتحقيق أفضل تفاعل بين النص واللحن ، من جهة أخرى.

ملاحظة: لم أستعرض الكلمات التي تم استبدالها عندما قدمت القصيدة لأم كلثوم لأنها كانت مهمة أحمد رامي!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.