موشح أقبل الصبح يغنّي : تعبير موسيقي حمل الحزن في طياته عن أبياتٍ تتغنى بالحياة كتبها شاعرٌ قضى في ريعان الشباب!

شعار كتاب الأغاني الثاني

أبو القاسم الشابي

في نهاية الثمانينات من القرن الماضي ، خصصت حلقة برنامجي التلفزيوني ” العرب والموسيقى ” للحديث عن الملحن السوري الكبير بكري كردي ( ملحن الأغنية الشهيرة ابعتلي جواب التي اشتهرت بصوت الأستاذ صباح فخري ) . شارك في الحلقة الأساتذة  مصطفى ماهر و محمد قدري دلال وحسن بصّال وكامل بصّال وأنور صلاحية ، ممن رافقوا الملحن الكبير . في سياق الحلقة قدم الضيوف وغيرهم أداءاً مباشراً لبعض ألحانه ، ومن ذلك أداؤهم لموشح ” أقبل الصبح يغني ” ، للشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي  ، الذي عُرف أساساً من خلال قصيدته الشهيرة : إذا الشعب يوماً أراد الحياة.
من البداية طرحت السؤال : لماذا اختار بكري كردي مقاماً نادر الاستعمال ، أي مقام البستنكار ، الذي يغلب عليه طابع الحزن وعدم الارتياح ، لتلحين قصيدة تتغنى بالصبح إذ يغني؟! قادني هذا السؤال إلى البحث في خفايا حياة أبي القاسم  وهذا الموشح .. وإليكم النتائج!
القصيدة و الشاعر
جاءت قصيدة ” أقبل الصبح يغني ” في سياق مجموعة من قصائد أبي القاسم الشابي ، أسماها أغاني الرعاة ، تغنى فيها بالطبيعة ، ووصف حياة رعاة الغنم في تجوالهم فيها ، مع أغنامهم طيلة يومهم . من البداية ، استغربت أن يكتب الشابي قصائد تتغنى بالطبيعة ، وهو الشاعر المريض ، الذي توفي وعمره لايزيد عن 25 سنة ! . عدتُ إلى ديوانه ، ووجدت أن جلَّه فيه الكثير من القنوط واليأس ، سواء من حياته ، ومرضه ، أو من مجتمعه ، الذي لم يستجب لدعوته للثورة على الاحتلال الفرنسي ، في قصيدته الشهيرة : إذا الشعب يوماً أراد الحياة ، إلا بعد وفاته المبكرة ، التي لعلها زادت من وقع القصيدة في وجدان الناس ، فبدأت المظاهرت الكبرى في تونس بعد أربع سنوات من وفاته!
وفي الواقع ، لم يكن الشابّي يستطيع أن يمارس حياة الراعي بنفسه ، إذ أنه كان مصاباً بالقلب منذ نشأته ، كما كان جسمه ضعيفاً غير قادر على بذل أي جهد حقيقي ، فهاهو يقول في إحدى يومياته ، وقد مر ببعض الضواحي : ” ها هنا صبية يلعبون بين الحقول ، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني ، والمدرسي ، يرتاضون في الهواء الطلق ، والسهل الجميل ، ومن لي بأن أكون مثلهم ؟ ولكن أنى لي ذلك ، والطبيب يحذر علي ذلك ، لأن بقلبي ضعفاً ! آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ، ومستودع أحزاني ، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية ” . نعم .. لقد قضى الشابّي حياته عليلاً ، بسبب تضخم شديد في القلب ، كان يمنعه عن كثير من النشاطات ومنها ارتياض الطبيعة .. وهنا كان السؤال : هل كانت هذه القصيدة حنيناً إلى الطبيعة .. أم رفضاً لواقع حياته ..؟
وهنا .. كان تعمُّقٌ في خلايا أغاني الرعاة ، للإجابة على هذا السؤال .. وسرعان ما وجدت قصيدة منها ، تؤكد ما كنت توصلت إليه ، فهاهو يقول ، وقد جرَّب يوماً أن يرتاد الطبيعة ، فوجد جسمه منهكاً لا يسمح له بالتمتع بجمالها :

لله يومَ مضيتُ أوّلَ مرّة ٍ* للغابِ، أرزحُ تحت عبءِ سَقامي
ودخَلتُه وحدي، وحوْلي موكبٌ *هَزِجٌ، من الأحلامِ والأوهامِ
ومشيْتُ تحت ظِلاله مُتَهَيِّباً * كالطفل، في صمتٍ، وفي استسلامِ
….
باكَرْتُ فيه الغابَ، مَوْهُونَ القُوى َ* متخاذِلَ الخُطُواتِ والأَقدامِ
وجلستُ تحتَ السّنديانة ِ، واجماً *أرنو إلى الأفُق الكئيب، أمامي
فأرى المبانيَ في الضباب، كأنها * فِكْرٌ، بأرضِ الشَّكِّ والإبهامِ
أو عَالَمٌ، ما زال يولَدُ في فضا * الكونِ، بين غياهبٍ وسِدامِ
وأرى الفجاجَ الدامساتِ، خلالَه * ومشاهدَ الوديان والآجامَ
فكأنها شُعَبُ الجحيم،رهيبة ُ* ملفوفَة في غُبشة ٍ وظَلامِ
صُوَرٌ، من الفنِّ المُرَوِّعِ، أعجزت * وَحْيَ القريضِ وريشة َ الرسّامِ
وَلَكَمْ مَسَاءٍ، حَالمٍ متوَشِّحٍ * بالظّلِ، والضّوءِ الحزين الدامي

ولكن هل حملت قصيدة ” أقبل الصبح يغني ، ما يشي بهذه المعاني ؟
جاءت قصيدة ” أقبل الصبح يغني ” في 40 بيتاً من الشعر، نظمت في عشر مجموعات ، تشكلت كل مجموعة من أربعة أبيات . تمعنت في القصيدة .. يعبر النص في ظاهره عن يوم في حياة راعٍ للغنم .. يستيقظ مع إقبال الصبح فيحث غنمه على الانطلاق إلى الغاب للاستمتاع بالطبيعة … التي يصف دقائقها بالتفصيل ، وفي النهاية عودة الخراف إلى مأواها مع ميل الشمس نحو الغروب.. ولكنني لاحظت وجود بعض العبارات التي تكشف حقيقة مشاعره ، إذ يصف في البيت الثالث أوراق الزهور باليابسة ، و في الأبيات 33 و 34 و 35 يقول : لن تَملِّي يا خِرافي في حِمى الغابِ الظَّليلْ ، فزَمَانُ الغابِ طفلٌ لاعبٌ عَذْبٌ جميلْ ، وزمانُ النَّاسِ شَيْخٌ عابِسُ الوجهِ ثَقيلْ

نص القصيدة كاملاً : 

أقْبَلَ الصُّبْحُ يُغنِّي للحياةِ النَّاعِسَهْ
والرُّبى تَحلمُ في ظِلِّ الغُصونِ المائِسَهْ
والصَّبا تُرْقِصُ أَوراقَ الزُّهورِ اليابسَهْ
وتُهادي النُّورَ في تِلْكَ الفِجاجِ الدَّامسَهْ
ماغفا السمّار بعد الصبح إلا لمما
والندامى ما فاقوا بعد من رشف اللمى
أَقبلَ الصُّبْحُ جميلاً يملأُ الأُفْقَ بَهَاهْ
فتَمَطَّى الزَّهرُ والطَّيْرُ وأَمواجُ المياهْ
قَدْ أَفاقَ العالم الحيُّ وغَنَّى للحياهْ
فأَفيقي يا خِرافي وهَلُمِّي يا شِياهْ
واتبعِيني يا شِياهي بَيْنَ أَسرابِ الطُّيورْ
واملإِي الوادي ثُغاءً ومِراحاً وحُبُورْ
واسمعي هَمْسَ السَّواقي وانشقي عِطْرَ الزُّهُورْ
وانظري الوادي يُغَشِّيهِ الضَّبابُ المُسْتَنيرْ
واقطُفي من كلإِ الأَرضِ ومَرعاها الجَديدْ
واسمعي شبَّابتي تَشْدُو بمعسولِ النَّشيدْ
نَغَمٌ يَصْعَدُ مِنْ قلبي كأَنفاسِ الوُرودْ
ثمَّ يَسْمو طائراً كالبلبلِ الشَّادي السَّعيدْ
وإذا جئْنا إلى الغابِ وغطَّانا الشَّجَرْ
فاقطُفي مَا شئْتِ مِنْ عُشْبٍ وزهرٍ وثَمَرْ
أرضَعَتْهُ الشَّمسُ بالضَّوءِ وغذَّاهُ القَمَرْ
وارتَوَى مِنْ قَطَراتِ الظَّلِّ في وقتِ السَّحَرْ
وامْرَحي مَا شئتِ في الوديانِ أَو فَوْقَ التِّلالْ
واربضي في ظلِّها الوارِفِ إنْ خِفْتِ الكَلالْ
وامْضَغي الأَعشابَ والأَفكارَ في صَمْتِ الظِّلالْ
واسمعي الرِّيحَ تُغَنِّي في شَمَاريخِ الجِبَالْ
إنَّ في الغابِ أَزاهيراً وأَعشاباً عِذابْ
يُنشِدُ النَّحْلُ حوالَيْها أَهازيجاً طِرابْ
لمْ تُدَنِّسْ عِطرها الطَّاهرِ أَنفاسَ الذِّئابْ
لا ولا طافَ بها الثَّعْلَبُ في بعضِ الصِّحابْ
وشذاً حلواً وسِحْراً وسَلاماً وظِلالْ
ونَسيماً ساحرَ الخطوَةِ مَوْفُورَ الدَّلالْ
وغُصوناً يرقُصُ النُّورُ عليها والجَمالْ
واخضراراً أَبديًّا لَيْسَ تَمحوهُ اللَّيالْ
لن تَملِّي يا خِرافي في حِمى الغابِ الظَّليلْ
فزَمَانُ الغابِ طفلٌ لاعبٌ عَذْبٌ جميلْ
وزمانُ النَّاسِ شَيْخٌ عابِسُ الوجهِ ثَقيلْ
يتمشَّى في مَلالٍ فَوْقَ هاتيكَ السُّهولْ
لكِ في الغاباتِ مرعاكِ ومَسْعاكِ الجميلْ
وليَ الإِنْشادُ والعَزْفُ إلى وَقْتِ الأَصيلْ
فإذا طالتْ ظِلالُ الكَلإِ الغضِّ الضَّئيلْ
فهلمِّي نُرْجِعِ المَسْعَى إلى الحيِّ النَّبيلْ

الموشح :

بكري كردي

رأينا أن قصيدة ” أقبل الصبح يغني ” كانت تخيلاً لحياة الرعاة وشوقاً إليها ، و رفضاً لواقع حياة الشاعر ، ولم تكن ناجمة عن واقع عاشه وتمتع به ، فهل كان هذا سبب اختيار مقام البستنكار لبناء لحن الموشح؟
نص الموشح
بني الموشح على الأبيات الأربعة الأولى فقط من القصيدة ، والتي خصصت للدورين الأول والثاني بلحنهما المتكرر حسب قالب الموشحات الحلبية:
الدور الأول :
أقْبَلَ الصُّبْحُ يُغنِّي للحياةِ النَّاعِسَهْ
والرُّبى تَحلمُ في ظِلِّ الغُصونِ المائِسَهْ
الدور الثاني :
والصَّبا تُرْقِصُ أَوراقَ الزُّهورِ اليابسَهْ
وتُهادي النُّورَ في تِلْكَ الفِجاجِ ( أصبحت في نص الموشح : الظِلال ) الدَّامسَهْ
أما الخانة التي تشكل الذروة اللحنية للموشح فقد بنيت على بيتين هما :
ماغفا السمّار بعد الصبح إلا لمما
والندامى ما فاقوا بعدُ من رشف اللمى
بحثت في ديوان أبي القاسم فلم أجد هذين البيتين ، وبالتالي أعتقد أنهما أضيفا من قبل الشاعر حسام الدين الخطيب ، الذي شكل ثنائياً مع الملحن بكري كردي لفترة طويلة . موضوع البيتين كان بعيداً عن وصف الطبيعة ، إذ اقترب من الغزل ، اللازم لتحقيق الذروة اللحنية في الخانة ، فيما لم يعد الملحن لتأمين ” الغطاء ” ، حسب قالب الموشح التلحيني ، بل اكتفى باختتام اللحن مع الخانة.


اللحن :
جاء اللحن على مقام بستنكار نادر الاستعمال ، الذي يتشكل من جنسي السيكاه والصبا ، و على إيقاع الأقصاق  9/8 . طبعاً هناك احتمال بأن يكون الملحن بكري كردي قد اختار مقام البستنكار ، لاحتوائه على جنس الصبا ، الذي يغلب عليه طابع الحزن ، وقد مرت كلمة الصبا في البيت الثالث من الموشح ، أو بسبب وصف الزهور باليابسة في البيت ذاته ، فيما يخالف هذا الرأي أن الأبيات الأولى التي تتغنى بالصبح جاءت على جنس الصبا أيضاً .. أما اختيار جنس السيكاه اللامع فهو مبرر ، لأنه يسمح بتشكيل الذروة اللحنية التطريبية للخانة ، و إبراز بريق اللحن فيها ، عند : ماغفا السمّار بعد الصبح إلا لمما ، ليتخافض اللحن في تعبير لافت عند : ما فاقوا ، تمهيداً لاختتام الموشح ، كما ورد في تسجيل البرنامج ، فيما كان الشيخ بكري الكردي قد سجل الموشح تاماً مع غطائه الذي أتى نصه ، على لحن الدور الأول ، كما يلي :
سل ليالينا الخوالي كيف اضحت دارسة
ووجوها كاللآلي كيف صارت عابسة
وهو نصٌ لم يرد في نص القصيدة الأصلي أيضاً ، ولكنه يؤيد فكرة فهم بكري كردي لظروف القصيدة وعلاقتها بحياة الشاعر.
قبل أن نتابع الموشوح كما أدته لنا مجموعة الأساتذة المشاركين في الحلقة من برنامج العرب والموسيقى إليكم موشح أقبل الصبح بصوت بكري كردي في تسجيل يعود لعام 1965 :


أدى هذا بالنتيجة إلى اعتماد مقام البستنكار ، المشكل من الجنسين ، لبناء اللحن عليه ، ولذا ، فإنني أعتقد أن اخنيار هذا المقام ، أتى لأنه يحمل جدلية جنسين موسيقيين ، أحدهما حزين وثانيهما لامع ، ما يجعله في مجمله يعبر عن عدم الارتياح ، وأن ذلك كان انطلاقاً من إدراك بكري كردي لحقيقة التضاد ، بين إقبال القصيدة على الحياة ، ورفض الشاعر لواقع حياته ، الذي أنهى حياته وهو في ريعان شبابه!

لنتابع الآن موشح أقبل الصبح كما جاء في برنامج العرب والموسيقى

 


أما كيف لحَّن الأخوان رحباني وغنت فيروز هذه القصيدة ، في جدليتها .. فلهذا حديث آخر!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading