في ذكرى رحيل بيرم التونسي : عندما يدفع الزجّال بالملحن نحو مسارات إبداعية جديدة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

أتوقف اليوم عند ذكرى رحيل بيرم التونسي ، التي تحل في يوم 6 كانون الثاني / يناير من كل عام ، لأعرض فكرة أراها هامة ، وهي دور الشاعر أو الزجّال في توجيه اللحن! وفي الواقع ، فإن كل شيء في عالم الغناء العربي يبدأ بالنص ، فماهو دور نص حمل عناصر غير مسبوقة في توجيه الملحن .. وهل يمكن عدُّ الشاعر أو الزجّال في هذه الحالة شريكاً في اللحن إن استجاب لتلك العناصر فعبر عنها ؟ ما رأيكم؟

سيد درويش وبيرم التونسي

كمثال لإيضاح الفكرة ،  أتوقف أولاً عند التوتر الذي شاب العلاقة بين بيرم وسيد درويش قبل أن يلتقيا ، بسبب نقد بيرم الدائم لسيد ، واتهامه له بسرقة الألحان في أعماله لمسرح نجيب الريحاني ، ما أدى ، بعد أن جمعتها صدفةٌ ، إلى عكس المتوقع ، إذ عرض سيد على بيرم ، لمعالجة هذا التوتر ، كتابة  نص مسرحيته الجديدة ،  ورأى بيرم أن يُخضع الشيخ سيد ، عبر ما يكتبه من نصوص في أغاني المسرحية إلى تحديات ،  بغية أن يثبِّت عليه تهمة السرقة ( كما يتوقع ) ، أو أن يتمكن الشيخ سيد من نفيها بصورة عملية واضحة ، وذلك من خلال تقديم ألحان غير مسبوقة ، توجهه إليها مطبات ضمَّنها بيرم لنصه ، لا ينجو منها إلا كل ملحن بارع..

تجلى هذا في عدة ألحان ضمن مسرحية شهرزاد ومن أهمها نشيد دقت طبول الحرب..

وإليكم التفاصيل:

عندما نُفيَ بيرم إلى تونس كتب مقالات كثيرة في جريدة الزمان التونسية ،  توقف في إحداها عند علاقته بسيد درويش ، وذلك في مقالته المنشورة في عدد 2 مايو/ أيار 1933 .  وبعد أن عرض بيرم لنقده اللاذع لألحان سيد درويش في مسرحيات نجيب الريحاني،  والذي نشره في الصحف أثناء عرض تلك المسرحيات ، متهماً الشيخ سيد بالسرقة ، وعرض للقاء جمعهما في مناسبة اجتماعية ، حيث جلسا جنباً إلى جنب ، دون أن يعرف أحدهما الآخر ، ليأتي من يقوم بمهمة التعريف ، فوجئ بيرم ، الذي كان يتوقع هجوماً كبيراً من الشيخ سيد ، بعرض منه ليكون كاتب نص مسرحيته الجديدة ، لصالح الفرقة التي أسسها هو ، بعد انفصاله عن الريحاني..

كتب بيرم بعد ذلك يقول:

“كانت الرواية التي افتتح بها فرقته «شهرزاد» وكان عليَّ أن أنظم له خمسة عشر لحنا في مواقفها المختلفة ، ولا يتصور غيري وغيره أننا اسکندریان لكل منا من المشاكسة والعناد ما يخيف الأخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد قد رد علي أبلغ رد في ألحانه التي وضعها لهذه الرواية ، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم. ويعلم الله أن الوقت الذي قضيته في العمل معه كان عبارة عن جلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصٍ لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد في عدة أيام، بينها الزجل العادي لا يكلفني إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلني بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له في أسعد ساعات صفائه.. “.

في سياق هذه المسرحية ، وكمثال على الفكرة التي طرحتها في بداية مقالي ، أتوقف عند نشيد دقت طبول الحرب..

لقد كتبه بيرم على شكل حوار متقاطع ، ومتزامن ، تتقاطع فيه الأفكار وتتناقض ، فرضته حبكة الرواية ، ودفعه إليه ذلك التحدي ، إذ يستحيل أن يلحن في سياق متسلسل ، كما جميع الألحان التي كانت عرفتها الموسيقى العربية ، ومن هنا فقد فكر سيد درويش في أن عليه أن يضع أكثر من لحن لكل مسار في النص ، ولاشك في أنه نفذ هذا بشكل فطري تماماً ، إذ أنه لم يسبق له أن درس أساليب الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، ومع هذا فقد أتت النتيجة مبهرة فعلاً ، فقد طرق سيد درويش في هذا اللحن أبواب البوليفوني ( تعدد الألحان ) ، مع توظيف أسلوب الكونتربوان ( الألحان المتعددة تشكل تآلفات منسجمة صوتياً ) ، معتمداً مقام العجم الملائم للجو الحماسي المسيطر ، وذلك عندما غنت مجموعة الجنود لحناً أول ، يعبر عن تأييدها لقائدها زعبلّة ، الذي ينطلق في لحن ثان ، لإعطائهم تعليمات القائد المؤمن بالنصر ، فيما يتقاطع هذا في تضادٍ للأفكار في النص ، مع الهزيمة التي يروج لها معارضوه .. في لحن ثالث!

التسجل المرفق يوضح تزامن مسارات النص المتعارضة ، مع مسارات الغناء..

وبالنتيجة : هل يمكن عدُّ بيرم شريكاً في هذا اللحن ؟ ما رأيكم؟

 


د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

3 Responses to في ذكرى رحيل بيرم التونسي : عندما يدفع الزجّال بالملحن نحو مسارات إبداعية جديدة!

  1. أحمد عطار says:

    شكرا جزيلا

  2. Yasser58 says:

    قصة جميله تعبر عن إبداع بيرم التونسي والسيد درويش
    نعم يمن اعتبار بيرم شريكا بهذا الإبداع

  3. محمد النابلسي says:

    من ابداعتكم دكتو