مناظرة موسيقية نادرة بين أمير البزق محمد عبد الكريم وعازف القانون التركي اسماعيل شانشلر سادت فيها البراعة و وازنها الذكاء!!

شعار كتاب الأغاني الثاني

كلنا يعرف أمير البزق محمد عبد الكريم . كنت قد نشرت له على الموقع تسجيلاً لعمله الهام ” رقصة الشيطان ” . أقدم اليوم تسجيلاً نادراً جداً ، لمناظرة موسيقية مدهشة ، بينه وبين عازف القانون التركي اسماعيل شانشلر .

محمد عبد الكريم أمير البزق

كان شانشلر قد زار دمشق في منتصف الخمسينات ، مع قانونه ذي القياس الصغير ، الذي يجعل صوته حاداً أكثر مما هو شائع في العالم العربي ، فأبهر الجميع بقدرته الفائقة على العزف السريع ، واستخدام ما يعرف بالريشة التركية ، وهو ما لم يكن سائداً بين عازفي القانون أو العود في دمشق ، خلافاً لما كان معروفاً في حلب ، من قبل كبار عازفيها ، وأولهم أستاذي الموسيقي الكبير الراحل شكري الإنطكلي ، الذي أخذتها عنه ، عندما كنت طالباً في المعهد الموسيقي بحلب ، بداية الخمسينات ، إلى جانب طلاب آخرين ، ثم علَّمتها لاحقاً للعديد من طلاب القانون في المعهد العربي للموسيقى ، في الستينات والسبعينات، فعلّموها لطلابهم ، لتشيع وتنتشر.

الأستاذ شكري الأنطكلي

المهم هنا ، أن أمير البزق تقدم لحوار مع شانشلر ،وكان ما كان..

حوار أم مناظرة؟ القانون يمتاز بالسرعة..

لم يكن ما قُدم حواراً موسيقياً بين آلتين ، بل كان مناظرة ، لما تضمن عملياً من تنافس واضح . وقع الاختيار على واحدة من أصعب وأسرع المعزوفات التركية على الإطلاق ، وهي لونغة شاهناز ، لتكون أساساً للحوار / المناظرة.، وقد شكل هذا تحدياً وإحراجاً كبيراً لعبد الكريم ، فالسرعة تشكل مجال البراعة الأرحب لآلة القانون ، لمن أتقن أسلوب الريشة التركية في العزف على القانون ، بحسبان أنها توظف كلتا اليدين في العزف ، و لاشك بالتالي ، أنها ستتفوق على يد واحدة ، تستخدم ريشة واحدة ، في العزف على البزق . و مهما كان عبد الكريم بارعاً في حركة الريشة ، هبوطاً أو صعوداً ، لتأمين السرعة ، فإن مسار اللحن ، لا شك ، سيؤدي أحياناً ، إلى تعارض بين الحركة الهابطة أو الصاعدة للريشة ، وبين ضرورة الانتقال بين وتري البزق ، في اتجاه معاكس أحياناً ، ما سيتطلب مهارة استثنائية من عبد الكريم ، للمحافظة على السرعة ، دون تجاوز بعض الأصوات ، التي يتطلبها اللحن ، وهو ماكان ، لو حصل ، سيحرجه تماماً.

التسجيل النادر الذي أنشره اليوم ، يتضمن أولاً المقاطع المشتركة وهي اللونغة ، بنظام عزفها السريع أصلاً ، و مقاطع حوارية مرتجلة ، نتبين من متابعتها أن كل عازف كان يسعى لإبراز قدراته ، و لإحراج الآخر!

استطاع عبد الكريم ، كما يظهر من التسجيل ، مواكبة سرعة شانشلر في القسم الأول ، لبيدأ شانشلر ارتجالاته على القانون ، بمرافقة الإيقاع ، حوالي الدقيقة 1:50 من التسجيل ، و يستمر حتى الدقيقة 5:45 ، أي لحوالي 4 دقائق. يمكن بسهولة ، التأكد من تثبيت شانشلر للمقام الموسيقي ، وتركيزه على السرعة ، لتثبيت سيطرته وبراعته ، وإحراج عبد الكريم.

ولكن البزق يمتاز بتنويع المقامات الموسيقية!

يبدأ عبد الكريم ارتجالاته مباشرة ، أي حوالي الدقيقة 5:45 ، وسرعان ما نراه يدخل ، وبتخطيط يبدو مسبقاً ، ومن الثواني الأولى ، في تغييرات سريعة ومتلاحقة للمقامات الموسيقية ، مع تصويرها في غير مواقعها الأصلية ، مستغلاً نقطة ضعف أساسية في آلة القانون ، عند العزف السريع ، فالريشة التركية تتطلب استخدام اليدين في العزف لتأمين السرعة ، ولا تترك للعازف مجالاً لتوظيف يده اليسرى في تغيير وضع العُرَب التي تؤمن تغيير المقامات ، وهكذا ، لجأ عبد الكريم ، وبعد أن ترك شانشلر يستعرض ما لديه من سرعة ، على مدى حوالي 4 دقائق ، إلى استعراض قدراته هو ، فاعتمد التغيير السريع للمقامات الموسيقية ، و تصويرها في غير موقعها الأساسي ، دون أن يترك المجال لشانشلر ، ليكتشف ما يحصل بسهولة ، بحيث كان عليه ، إن أراد الاستمرار في المرافقة في الخلفية ، أن يتوقف ، لكي يغّيِّر من وضع العُرب بسرعة ، فيما يكون عبد الكريم قد انتقل أثناء ذلك ، إلى مقام موسيقي آخر!

يظهر من متابعة التسجيل ، أن شانشلر ، وفي مكانٍ ما ، لم يعد يعرف أين يعزف عبد الكريم، على أي مقام ، وعلى أي درجة صوتية ! و لذا ، وعندما وجد ، في لحظة عابرة ، حوالي الدقيقة 9:35 ، أن عبد الكريم عاد إلى الدرجة الصوتية الملائمة له ، وقبل أن يترك له المجال ، لكي يدخل في مقام موسيقي جديد ، دخل هو مباشرة في عزف سريع ، لاختتام اللونغة بشكل مفاجئ ، منهياً تلك المناظرة ، و مكتفياً بما حصل ..

توازنٌ أنتج لنا تسجيلاً نادراً!

فعلاً إنها مناظرة حقيقية استعرض فيها كل عازف قدراته ، ولكنني أرى أن عبد الكريم استطاع ان يواكب سرعة القانون الهائلة ، أولاً ، و استطاع بالمقابل ، وبذكائه ، وعبر تغيير المقامات السريع ، وتصويرالمقامات في غير مواضعها ، أن يوازن تلك القدرات ، فأبرز بذلك نقاط قوته ، في موقع ضعف الآخر.

وهكذا توازنت نقاط القوة والضعف في الآلتين ، وخرج المبدعان الكبيران متكافئين ، وأنتجا هذا التسجيل النادر ، الذي أدعوكم لمتابعته ، بما يتوافق مع ندرته و ألقه.

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading