قصيدة لست أدري لعبد الوهاب : حملت أول محاولة معاصرة للتعبير اللحني متعدد الأبعاد عن ضياع الإنسان وحيرته أمام الأسئلة الكبرى في الحياة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في عام 1944 ، قدم الأستاذ محمد عبد الوهاب قصيدة لست أدري ، ضمن أعمال سادس أفلامه ” رصاصة في القلب ” ، الذي بُني على قصة للأستاذ توفيق الحكيم ، و جاءت في موقع يلائم تسلسل أحداث الفيلم الدرامية.

يروي فيلم ” رصاصة في القلب ” قصة محسن (عبد الوهاب) ، وهو شاب جذاب تتهافت عليه الصبايا ، إذ عُرف بإسرافه في الإنفاق ، ولكن هذا جعله غارقاً في الديون. يتعرف على فتاة جميلة ، ويشعر بعاطفة حب حقيقية نحوها ، ثم يفاجأ بأنها خطيبة صديقه الطبيب ، فيهرب منها وفاءاً لصديقه رغم إعجابه بها ، وهنا تأتي قصيدة لست أدري ، لتعبر عن حالته النفسية ، في الفيلم ، فماهي الغاية من حياته إن كان غير قادر على تحقيق ما يرغب ؟ محققة في هذا ما كان سبق لعبد الوهاب أن أرساه في السينما الغنائية ، منذ فيلم الوردة البيضاء ، في ضرورة أن تأتي الأغنية السينمائية في السياق الدرامي للفيلم ، وتعبر عنه.

سنتوقف أولاً عند أسبقية قصيدة لست أدري الغنائية ، إذ أنها من القصائد الغنائية النادرة في الغناء العربي،  التي عالجت مسائل فلسفية تأملية ، ثم سيتم استعراض اختيارات الأستاذ عبد الوهاب من القصيدة الأصلية ، للشاعر إيليا أبو ماضي ، التي كانت أتت في 71 رباعية ، وصولاً إلى شرح التعبير اللحني الذي وضعه الأستاذ عبد الوهاب ، ليواكب المعاني الفلسفلية في النص ، وإلى شرح أسلوب التفاعل الذي اعتمده في وضع اللحن وتطويره. سيشير المقال أخيراً إلى الجدل الذي رافق إطلاق القصيدة في سياق فيلم رصاصة في القلب ، ويلمح إلى من كان وراءه..


القصيدة

جاءت قصيدة لست أدري للشاعر إيليا أبي ماضي بعنوان ” الطلاسم ” ، ووردت في ديوانه ” الجداول”  الذي صدر عام 1927 ،  وتشكلت من  71 رباعية ، تطرح كل منها سؤالاً في الحياة ، و تنتهي  بعبارة : لست أدري . اختار عبد الوهاب منها 3 رباعيات هي التالية:

جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت
ولقد أبصرت قدّامي ( أمامي ) طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري
أنا لا أذكر شيئاً من حياتي الماضيه

أنا لا أعلم شيئاً عن حياتي الآتيه
لي ذاتٌ غير أنى لست أدرى ماهيَ
فمتى تعرف ذاتي كنه ذاتي
لست أدري
أين ضحكي وبكائي و أنا طفل صغير
أين جهلي ومراغي وأنا غض غرير
أين احلامي وكانت كيفما سرت تسير
كلها ضاعت .. ولكن كيف ضاعت ؟
لست أدري

تدل اختيارات الأستاذ عبد الوهاب من القصيدة على أنه استعرضها بكاملها ، واختار منها ما يمكن أن يشكل موضوعاً متكاملاً ، فالرباعية الأولى أتت في بداية القصيدة ، فيما أتت الرباعيتان التاليتان ، في النسخة المغناة ، في نهاية القصيدة . نلاحظ أيضاً أنه اعتمد كلمة ” أمامي ” بدلاً من ” قدّامي ” الواردة في النص الأصلي ، وسنتابع لاحقاً شرحه أسباب ذلك ، رغم معرفته بأن الوزن الشعري لا يستقيم مع هذا التبديل.

أسبقية القصيدة في الغناء العربي

تعتبر قصيدة ” لست أدري ” من القصائد الغنائية النادرة في الغناء العربي،  التي عالجت مسائل فلسفية تأملية ، و فيما عدا موشح ” العناية صدف ” ، الذي كنت عرضت له سابقاً ، فإنني أسجل أن الغناء العربي ، قلما تعرض لطرح الأسئلة الكبرى في الحياة.  كان الأستاذ محمد عبد الوهاب إذاً السباق في دخول هذا المجال ، في العصر الحديث ، في قصيدة لست أدري ، التي أتبعها بعد 45 عاماً بأغنيته الأخيرة ” من غير ليه ” ، من نظم مرسي جميل عزيز ، والتي طرحت أسئلة مشابهة ، و كان سجلها عام  1975 ليغنيها عبد الحليم حافظ ،  لتعبر ، مرة أخرى ، عن حالة عبد الحليم  النفسية في ختامات حياته ، و عندما توفي عبد الحليم قبل تسجيلها ، قدمها عبد الوهاب عام 1990 ، بصوته المسجل سابقاً ،  مع إضافة الفرقة الموسيقية عليه ، لتعبر مجدداً عن حالته النفسية ، قبيل وفاته .

تجدر الإشارة إلى أن بعض القصائد الغنائية دارت أحياناً في المجال ذاته ، إذ كان مرسي جميل عزيز ، قد كتب قصيدة ” سوف أحيا ” ، وغنتها السيدة فيروز عام 1955 ،  وكذلك قدم الأستاذ فريد الأطرش قصيدة ” عدت يا يوم مولدي ” عام 1962 ، ضمن أعمال فيلم ” يوم بلا غد ” ، فيما أعاد الأستاذ عبد الحليم حافظ ، وفي ذات العام ، تسجيل قصيدة ”  لست أدري ” ضمن أعمال فيلم الخطايا.

التعبير بالصورة

اختار مخرج الفيلم محمد كريم أن يتم تصوير الأغنية ليلاً ، لكي يزيد هذا من الشعور بالضياع!

التعبير اللحني

لما كان التعبير عن المعاني الفلسفية المعاصرة يتطلب تعبيراً لحنياً متطوراً ، فقد لجأ الأستاذ عبد الوهاب ، إلى جمل لحنية تعتمد أصواتاً موسيقية متباعدة ، لتعبر عن الضياع الذي يعبق في جو القصيدة ، ولعله استلهم هذا من الآهات في دور ” ضيعت مستقبل حياتي ”  لسيد درويش ، الذي تنقلت فيه الآهات ، في أسلوب غير مسبوق في الموسيقى العربية ،  بين أصوات موسيقية متباعدة ، للتعبير عن الضياع أيضاً .


يمكن ملاحظة هذا في بداية الأغنية ، التي أتت مبنية على مقام العجم على درجة المي بيمول ، فبعد مقدمة موسيقية قصيرة ، وفق ما اعتمده عبد الوهاب لأغاني الأفلام ، من مقدمات موسيقية قصيرة ، تؤديها آلة القانون ، في سياق تأملي ، بأسلوب الرشّ ( النقر السريع المتناوب على الأوتار من اليدين ) ، يعبر عن التقاطر السريع والكثيف للأفكار والخواطر ، ، ثم يأتي رد من الفرقة الموسيقية ليمهد للغناء ، نجد أن عبد الوهاب يبدأ بشكل مفاجئ ، مع كلمة جئت ، فيما يشبه إخبار السامع بمجيئه إلى هذا العالم ، في لحن حيادي تماماً ، له إيقاعية في نقرتين : جِئ – تُ ، ثم تظهر الأبعاد الصوتية بالظهور ، عندما يتنقل في غنائه لجملة : لا أعلم من أين ، بين أصوات موسيقية متباعدة ، متناسقة مقامياً ،  تعبر عن الضياع!

يمكن التوقف أيضاً عند لحن جملة لست أدري ، في الرباعية الأولى والرباعية الأخيرة التي تنهي القصيدة ، إذ يعبق في تخافضه ، بالحسرة والألم ، فيما يتضاد هذا اللحن ، مع لحن الجملة ذاتها في الرباعية الثانية  ،  حيث يتصاعد اللحن ،  أولاً ، عند : كنه ذاتي ، ليتصاعد أكثر ، عند : لست أدري ، في صيحة ألم واستنكار ، مشكلاً ذروة الدراما في القصيدة !

تجدر الإشارة أيضاً إلى انتقال عبد الوهاب ، في الرباعية الثانية ، إلى مقام صبا زمزمة عند : ليَ ذاتٌ غير أنى لست أدرى ماهيَ ، في تعبير جديد بأسلوب مقامي هذه المرة ، فالصبا زمزمة قريب في أجوائه من مقام الصبا الحزين ، ولكنه يخفف من بعده العاطفي ، ويعطيه بعداً عقلانياً ، أراده عبد الوهاب ، لأن أرباع الأصوات تختفي فيه ، فيما يتلازم هذا مع تخافض لحني عند : ماهيَ ، معبر عن الحيرة!

التفاعل

اعتمد الأستاذ عبد الوهاب في هذه القصيدة عنصراً آخر ، هو تفاعل الجملة اللحنية ، وهو أسلوب يعتمد جملة لحنية أولى ، ثم يكررها لاحقاً مع تحوير لها ، وكان لجأ إليه لأول مرة ، في مونولوج  ” الظلم ده كان ليه ” ، ضمن أعمال فيلم يحيا الحب عام 1938 . جاء هذا في قصيدة ” لست أدري ” عندما انتقل من الجملة الأولى : جئت لا أعلم من أين ” ، إلى جملة ” ولقد أبصرت أمامي طريقاً فمشيت ” في جملة تفاعلية عن الأولى ، بعد جملة ” و لكني أتيت ” ، التي شكلت الجسر بين الجملتين المتفاعلتين ، لتأتي جملة ” وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت ” ، في جملة لحنية  تفاعلية أخرى .. حتى الختام مع جملة ” لست أدري “، التي تختم الفقرة اللحنية.

الرباعية الثالثة والأخيرة : تعبيرموسيقي  جديد عن الضياع

تستحق المقدمة الموسيقية للرباعية الأخيرة أن نتوقف عندها ! تبدأ بمقدمة موسيقية تفاعلية ، مع الألحان التي سبق ورودها في الأغنية ، لتنتقل بشكل مفاجئ إلى مقام الكرد على السي بيمول ، ثم تنتقل آلات الكمان  ، بشكل مفاجئ إلى درجة الصول ، وهي درجة صوتية ، ليست ضمن درجات مقام الكرد ، الذي استقرت عليه نهاية المقدمة الموسيقية ، منفذة أسلوب التريمولو ،  أي التناوب المتلاحق السريع لحركة القوس ، فيما يعبر عن الذكريات تتقاطر على ذهنه ،وهو بهذا يطرح مجدداً أسلوب المسافات الصوتية المتباعدة للتعبير عن الضياع ، مع تطوير له ، من خلال إضافة بعد عدم التناسق المقامي بين الأصوات المستخدمة ! ليبدأ الغناء عند : أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير ، مع تخافضات لحنية عند : طفل صغير  ، غض غرير ، تعبر عن الحسرة ، ليتصاعد اللحن عند : أين أحلامي مستنكراً ضياع أحلامه ، ليتخافض اللحن عند كلها ضاعت في تعبير أخير عن الضياع!

للأمانة العلمية ، وتوخياً للمصداقية ،  أقول بأن سيد درويش وظَّف أسلوب عدم التناسق المقامي بين الأصوات المستخدمة للتعبير عن الضياع ، وأن ذلك أتى أيضاً في قسم الآهات في دور ضيعت مستقبل حياتي ، وهو مبني على مقام البيات الشوري ، الذي تأتي فيه درجة اللا بيمول ، فيما مرت الآهات على درجة اللا الطبيعية مخالفة السياق المقامي للأصوات المستخدمة!

ختام القصيدة : تعبير أخير وموسيقي أيضاً عن الضياع .. والحيرة!

تختتم القصيدة بلحن من الفرقة الموسيقية حافل بالتخافضات على أنصاف الدرجات الصوتية ( الكروماتيك ) التي تعبر الضياع ، إذ كلما سعى اللحن ليستقر على درجة استقرار تريحه ، عاد وتخافض بنصف درجة صوتية ، إلى أن تغيب الموسيقى!


لنتابع الآن القصيدة صوتياً مع تقديمٍ لها ، بصوت الأستاذ محمد عبد الوهاب ، يشرح فيه أسباب تعديل النص

أود أن أقول أخيراً أن عبد الوهاب ، في تنويعه لأساليب التعبير عن الضياع ، غنائياً ومقامياً وصوتياً ، عبّر عن كثافة إحساس الإنسان بالضياع  والحيرة ، أمام أسئلة الحياة الكبرى!

اعتراضات على القصيدة

أثارت القصيدة لدى تقديمها اعتراضات كثيرة على ما تطرحه من أسئلة ، وكذلك أغنية من غير ليه التي جاء في نصها : جايين للدنيا ما نعرف ليه، ولا رايحين فين، ولا عايزين إيه. ، وهو المعنى ذاته الذي جاء في قصيدة لست أدري : جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت، لماذا جئت لست أدري!

ولكن قصيدة ” رباعيات الخيام ” لأم كلثوم ، والتي بنيت على ترجمة أحمد رامي لرباعيات عمر الخيام ، لم تثر أي ردود فعل ، رغم أن معانيها ليست بعيدة : لبست ثوب العيش لم أستشر / وحرت فيه بين شتى الفكر /ولم أدرك لماذا جئت / أين المفر؟ ومن المحتمل ، بسبب هذه الملاحظة ، أن يكون الأستاذ عبد الوهاب وراء ردود الفعل ، التي أثيرت حول أغنيتيه ، كنوع من أنواع الدعاية التي كان يتقنها لأعماله .. والتي قد أتوقف عندها قريباً ..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.