موشح برزت شمس الكمال لأبي خليل القباني: أول عمل غنائي عربي يُعرض في دار الأوبرا الخديوية عام 1885

شعار كتاب الأغاني الثانيأتوقف اليوم عند المغامرة التي خاضها الشيخ أحمد أبو خليل القباني ، عندما طلب أن يتمكن من تقديم عروضه المسرحية الغنائية على مسرح دار الأوبرا الخديوية بالقاهرة ، إذ كانت عروضها تقتصر على الأعمال الأوبرالية والأوركسترالية الغربية ، كما أتوقف عند موشحه ، برزت شمس الكمال ، ذي التسجيل النادر ، الذي ورد في سياق مسرحية ” الحاكم بأمر الله ” ، أول عروض القباني على مسرح الأوبرا ، وأسلوبه في تلحينه ، الذي ُخطط ليراعي الشخصية التي تعرضها المسرحية ، والمسرح الذي تُعرض فيه ، وحضور الخديوي توفيق العرض.

أشير إلى أنه لولا قيام إذاعة حلب في عام 1951 بتسجيل هذا الموشح كاملاً ، لكان فُقد إلى الأبد.

أبو خليل القباني4

الشيخ أحمد أبو خليل القباني

الشيخ أحمد أبو خليل القباني في الإسكندرية

بعد أن أُحرق مسرحه في دمشق ، سافر الشيخ أحمد أبو خليل القباني إلى الاسكندرية عام 1884 ، مع فرقته المؤلفة من ممثلين ومغنين وراقصين ليقدم عروضه هناك . رحبت جريدة الأهرام بقدوم فرقة القباني ، ودعت الجمهور لحضور مسرحيته الأولى : أنس الجليس وقالت : إن فرقة القباني مؤلفة من مهرة متفننين في ضروب التمثيل وأساليبه ، و جمع من المنشدين والمطربين الذين تروق لسماعهم الأذن.
نجحت المسرحية نجاحاً كبيراً ، لما قدمته من فنون التمثيل والغناء ورقص السماح ، في أشكال غير مسبوقة في الديار المصرية ، واستمر القباني في تقديم مسرحياته في الاسكندرية ، مركِّزاً على السِيَرِ القديمة ، كسيرة عنترة ، وقصص ألف ليلة وليلة،  وقيس و ليلى ، إضافة إلى نصوص معرّبة مثل روايتي: الخل الوفي و عايدة.

في القاهرة..
بعد عدة عروض ناجحة  ، انتقل القباني مع فرقته إلى القاهرة  ، وهناك  أدخل الفواصل الغنائية بين فصول المسرحية وفي ختامها ، واتفق مع عبده الحمولي أهم مطربي عصره ، على الغناء فيها . تسبب هذا في مزيد من النجاح لمسرحه ، فتقدم بطلب لتقديم مسرحياته الغنائية على مسرح دار الأوبرا الخديوية. قُبل طلبه ، بعد تردد ، فهو طلب غير مسبوق ، وينم عن جرأة كبيرة ،  إذ كانت عروض الأوبرا الموسيقية تقتصر على الأعمال الأوبرالية والأوركسترالية الأجنبية.

أوبرا عايدة في أوبرا القاهرة

أوبرا عايدة على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة

مغامرة كبرى
لم يكن الموضوع سهلاً ، فتقديم عمل مسرحي غنائي عربي على مسرح دار الأوبرا ، لأول مرة ، كان مغامرة كبرى  ، مقارنة مع ما كان يقدم على مسرحها  ، منذ أن افتتحها الخديوي اسماعيل عام 1869 احتفاءاً بافتتاح قناة السويس ، بأوبرا ريجوليتو لفيردي، ثم  تتالت فيها عروض الأوبرات والأعمال السمفونية ، بما فيها أوبرا عايدة التي عرضت لأول مرة عام 1871 ، بتأخير لسنتين عن موعدها ، إذ كان من المقرر أن تُفتتح بها دار الأوبرا ، باتفاق بين الخديوي اسماعيل والموسيقار الإيطالي جوزيبه فيردي ، على تلحينها ، خصيصاً للمناسبة ، لولا تأخر إنجازها .
بالنتيجة ، كان على القباني ، أن يقدم عملاً مسرحياً لايقل شأناً عن تلك الأعمال العالمية !! فعلاً مغامرة كبرى..

الحاكم بأمر الله وموشح برزت شمس الكمال
كتب القباني ، لهذه المناسبة ، مسرحيةً تاريخيةً بعنوان ” الحاكم بأمر الله ” ، وضمنّها مشاهد تمثيلية متقنة ، و مجموعة من الموشحات ورقصات السماح المرافقة لها ، كما ضمنها موشحه الخالد ” برزت شمس الكمال من سنا ذات الخمار ” الذي بني على مقام نادر هو ” الحجاز غريب ” ، وعلى إيقاع ” الشنبر الكبير” . جاء الموشح مختلفاً عمّا سبقه من موشحات ، في  طول مدته ، التي قاربت 20 دقيقة ، وفي إيلاء الأهمية لمجموعة المغنين ، معتمداً  أسلوباً يقترب من أسلوب الكورال ، و كذلك في المهابة والوقار اللتان واكبتا اللحن والأداء ، بعيداً عن التطريب ، و في إضافة مقدمات موسيقية لأدوار الموشح ، وفي اعتماد تنقلات مقامية غير متداولة .. ولكن النقطة الأساسية التي أود هنا التأكيد عليها ، هي استخدام  القباني ، في هذا الموشح ، أسلوبَ التتالي المعروف في الموسيقى الغربية : Sequence ، بعد تحويله إلى أسلوب شرقي ، حيث يتصاعد اللحن في الموشح ، من خلال مجموعة جمل لحنية لولبية متصاعدة ، تولد شحنة إنفعالية عاطفية لدى المستمع ، ناجمة عن توتر متصاعد في اللحن ، و تصل إلى ذروة منتظرة ، ولكن دون أن تتوقف عندها ، فالتوقف عندها والتخافض بعدها ، وصولاً إلى درجة استقرار المقام ، فيما يسمى القفلة ، قد يشيعان إحساساً بالطرب ، فيما لايسمح المجال ، ضمن المسرحية ، وفي إطار المهابة والوقار اللذين غلبا عليها ،  بذلك ، ما دعا القباني لمتابعة اللحن مع مرور عابر على تلك الذروة ، وهذا ، في إجماله ، أسلوبٌ غير مسبوق ، عند عرض المسرحية ، في عام 1885 ، يكشف عن تخطيط حقيقي أثناء بناء اللحن ، لمراعاة الإطار الذي يقدم فيه.
تجدر الإشارة إلى أن هذا يطرح الكثير من الأسئلة ، حول الظروف التي أدت إلى اكتشاف القباني لهذا الأسلوب الغربي في التأليف الموسيقي ، والتي قد تشير إلى حضور القباني لعروض الأوبرا في القاهرة ، وانتباهه إليه ، من خلال ما سمع ورأى ، وهذه نقطة جديدة تسجل للقباني ، في انفتاحه ليس فقط على فنون الغرب المسرحية ، بل و في أبعادها الموسيقية أيضاً ، وفي توظيفه لها ، في أسلوب شرقي صميم.

الخديوي توفيق

الخديوي توفيق

الخديوي توفيق
عرض القباني مسرحيته ، وحضرها الخديوي توفيق ، الذي افتُتن بما كان يشاهد ويسمع ، إذ روى أحد المقربين منه ، وعلى لسانه ،أن القباني عندما دخل المسرح ، وجلس على عرش الملك ،مجسداً دور الحاكم بأمر الله ، أثّرت عظمة التمثيل في الخديوي ،فشردت أفكاره ثم وقف ، ووقف الجمهور معه، ثم إذ شعر بنفسه جلس ، وقال لمن حوله : لقد خلت أني في قصر أقجه قلعة ، وأن السلطان عبد العزيز قد دخل ووقف على عرشه ، فوقفت إجلالاً له .
أدى  إعجاب الخديوي توفيق بما رآه وسمعه ، إلى إيعازه  السماح للقباني بالاستمرار في تقديم مسرحياته الغنائية ، على مسرح دار الأوبرا الخديوية ، وأن يكون ذلك مجاناً لمدة عام ، تشجيعاً له ، وإبرازاً لمدى انبهاره بعمله.

أسئلة واحتمالات يطرحها هذا الموشح
كنتُ قد أبرزت ، في برنامجي التلفزيوني ” نهج الأغاني ” ، الذي يعود لعام 1996 ، وفي معرض تحليل اسكتش ” زرياب ” ، لفيروز وكارم محمود والأخوين رحباني ، الذي قدم عام 1955 ، توظيفَ الأخوين رحباني لأسلوب التتالي بشكله الشرقي ، مع ذروة لحنية ، وتتبعت حينها جذوره ، أولاً ، في عملية استرجاعية عبر الزمن ، في أعمال زكريا أحمد ، في النصف الأول من القرن العشرين ، حيث أصبح سمة غالبة في ألحانه ، ما جعل بعض المؤرخين الموسيقيين ينسبون هذا الأسلوب إليه ، وتالياً ، في بعض أدوار محمد عثمان وعبده الحمولي ، التي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر ، مع التركيز ، في هاتين الحالتين  ، زكريا أحمد ، أولاً ، و عبده الحمولي ومحمد عثمان ثانياً ، على الذروة المحرضة للطرب ،  والقفلة التي تليها ، فيما يمكن الآن إضافة هذا الموشح ، كنموذج مبكر جداً لتوظيف أسلوب التتالي ، في شكل حيادي ، ودون ذروة لحنية ، استناداً  إلى التسجيل النادر الذي حصلت عليه بعد نشر برنامج ” نهج الأغاني ” ، و أنشره اليوم ، والذي يطرح احتمالاً قوياً ، في أن يكون أسلوب التتالي في أسلوبه الشرقي الموصوف ، ودون ذروة لحنية ، من إبداع الشيخ أحمد أبي خليل القباني ، ثم طوره الحمولي وعثمان لاحقاً ، في أدوارهما ، مع ذروة لحنية تنتهي بقفلة ، تشيع الطرب لدى المستمعين ، خاصة أن الحمولي عمل معه في مسرحه ، حسبما سلف عرضه أعلاه.

إذاعة حلب وتوثيق التراث الغنائي العربي
في عام 1951 ، كلّف مدير إذاعة حلب ، الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة ، الشيخَ علي الدرويش ، ومجموعة مطربي الإذاعة ، بتسجيل هذا الموشح ، ضمن خطة الإذاعة الهادفة إلى توثيق التراث الغنائي العربي ، فكان التسجيل النادر الذي أعرضه اليوم ، والذي لولا قيام إذاعة حلب بتسجيله كاملاً ، وعشرات الموشحات النادرة الأخرى ،  لكان فُقد إلى الأبد.

أدعوكم لسماع التسجيل ، ليس في سياقٍ صوتي فقط ، إذ لا يكتمل إدراك أهميته ، إلا مع تخيل المشهد المسرحي الذي قُدم فيه الموشح ، و الوقار المطلوب للأداء ، في دار الأوبرا الخديوية ، بحضور الخديوي ، و في بلاط الحاكم بأمر الله!


أصل أخيراً إلى التأكيد على ما يقوله علماء التاريخ : إن الكشف عن أي أثرٍ جديد ، يطرح الكثير من الأسئلة حول النتائج المستقرة!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.