قصيدة أنا في سكرين من خمر وعين التي اشتهرت بصوت الأستاذ صباح فخري .. من لحنها ؟

شعار كتاب الأغاني الثانياشتهرت قصيدة ” أنا في سكرين من خمر وعين ” ، لشاعر العاصي بدر الدين الحامد ، عندما غناها الأستاذ صباح فخري ، بقدرات صوته الاستثنائية ، ولحنها الجميل. وكانت هناك تساؤلات كثيرة حول أصل اللحن ، وإجابات غير دقيقة أو غير مكتملة ، لأنها لم تقترن بأي وثيقة صوتية تثبت الإجابة ، أو تنفيها ، وهذه علة الكتابات المطبوعة في الكتب والصحف ، فيما يوفر لنا العالم الرقمي دمج النصوص والوثائق الصوتية والبصرية ، ما يعطينا إمكانية إعطاء إجابات أكثر اكتمالاً ودقة  .. للتاريخ

المقال التالي يوضح أصل اللحن ، والأخطاء التي وقع فيها البعض في توثيقه ، كما يوضح أسباب تلك الأخطاء ، في تناقل المعلومات المكتوبة ، دون تدقيق الوثائق الصوتية ، التي تحمل دائماً الإجابات الشافية..

بدر الدين الحامد

بدر الدين الحامد

الشاعر و القصيـدة

كان بدر الدين الحامد شاعراً معروفاً في مدينة حماه السورية ، عاش بين عامي 1897 و 1961 . لقب بشاعر العاصي ، و توزع نشاطه بين الشعر الوطني ، والشعر الغزلي ، فكانت له قصائد عديدة ضد الفرنسيين ، تحث على النضال لنيل الاستقلال ، ولكنه كان شاعراً غزلياً أيضاً  ، غلب على شعره رقة الألفاظ و جزالتها.


كتب بدر الدين الحامد قصيدته : أنا في سكرين من خمر وعين ، في أربعينات القرن العشرين ، التي قال فيما لُحِّن منها:

أنا في سكرين من خمر وعين
واحتراق بلهيب الوجنتين
لاتزدني فتنة بالحاجبين
أنا في سكــرين ..
***
ياحبيبي أقبل الليل فهيا للمدام
وابعث العود يغنينا تراتيل الغرام
نفحتني منك في الخمرة أنفاس الهيام
ياحبيبي إن تكن لي فعلى الدنيا السلام
أنا في سكــرين ..
***
أترع الكأس وطيبها بعطر من لماك
واسقنيها إن عيني لاترى شيئا سواك
وليقولوا ماأرادوا أنا صب في هواك
جنتي كأس الحميا ونعيمي في رضاك
أنا في سكــرين ..
***

المناسبة
كانت أغلب السهرات في حماه تقام في بيت الوجيه نعسان الحريري ، وهو من هواة الموسيقى والتلحين، وكانت تجمع أصدقاء من أمثال الشاعر أحمد الجندي ، و رفيق فاخوري ، وبدر الدين الحامد . يروي الشاعر أحمد الجندي،  أن الشاعر بدر الدين الحامد ، ألقى قصيدة جديدة في إحدى تلك السهرات ، وهي قصيدة أنا في سكرين على أصدقائه ، فقام الوجيه نعسان الحريري ، الذي كان يعزف على العود ، بتلحينها مباشرة ، وسرعان ما شاع اللحن في حماه وحمص ولبنان ، وسجله مطربون  ، ومنهم ابراهيم العباس أبو مهدي و صليبة القطريب . ( التسجيل المرفق أدناه بصوت صليبة القطريب بعد مقارنات ويعزى عند البعض إلى ابراهيم العباس أبو مهدي ، ولم يتوفر تسجيل آخر بصوته للمقارنة) ، وكذلك عبد الواحد شاويش.

اللحن
بني اللحن على مقام النهاوند الرومنسي الشاعري ، وعلى إيقاع راقص ، هو الفوكس تروت ،  لم يبرزه أسلوب العزف على العود ، وعلى قالب الطقطوقة ، بلحنين متناوبين : لحن المذهب أ وهو لحن أبيات أنا في سكرين من خمر وعين المتكرر ولحنٌ ثانٍ : ب على مقام البيات ، هو عبارة عن ارتجالات على نص الأبيات ، مع تأثر واضح بقصيدة جفنه علم الغزل ، وخاصة عند التغني بكلمة يا حبيبي في القصيدتين .. وفي الواقع الأغنية مشكلة من لحن واحد : أ هو لحن المذهب ، ثم ارتجالات متأثرة بوضوح بقصيدة جفنه علم الغزل، ثم يُترك للمطرب أن يضيف عليها ارتجالات ذوقية حسبما يرى ، وهذا يتوافق مع رواية الاستاذ أحمد الجندي في أن اللحن كان وليد اللحظة .

لاحقاً : نسخة سري طمبورجي
في بداية الخمسينات ، سجل الأغنية سري طمبورجي ، لصالح الإذاعة السورية ، وهو أيضاً فنان من مدينة حماه ، كان حضر جلسة تلحين الأغنية ، وفق رواية الشاعر أحمد الجندي ، حيث قام بوضع مقدمة موسيقية ، بدأت بعزفٍ مرسلٍ تعبيري لآلة الكمان ، تلاه لحنٌ متأثرٌ بمقدمة أغنية افرح يا قلبي للسيدة أم كلثوم . يبدأ سري طمبورجي بعدها بغناء المذهب ، حيث تم تحوير اللحن الأصلي ، وإن بقي في أجوائه العامة ،  وضبطُ اللحن الثاني : ب ، في غناء مرسل يقترب من الارتجال ، يُكررُ بذاته في الأغصان ، مع إضافة لوازم موسيقية ، ما حقق اختلافاً واضحاً عن اللحن الأصلي ، وجعله أكثر مهنية وتماسكاً ، وهو ما مكن سري طمبورجي من تسجيله باسمه كملحن في سجلات إذاعة دمشق. يلفت الانتباه ، ختام المقدمة الموسيقية المتكررة بين الأغصان ، بجملة ختام متداولة في أغاني التانغو ، ثم عودة لإعطاء إيقاع الفوكس ، قبل البدء بالغناء ، و كذلك بعض التعبير في الأداء الغنائي عند عبارة ” تراتيل الغرام ” مثلاً ، و لفظه الجيم المصرية عند كلمة ” جنتي ” ضمن جملة جنتي كأس الحميا “!!

ثم : نسخة الأستاذ صباح فخري
فيما بعد ، ضم الأستاذ صباح فخري هذه القصيدة إلى برنامجه الغنائي ، بلحن المذهب الأصلي كما جاء قبل تحويره من قبل سري طمبورجي ، ولحنٍ جديدٍ موقّعٍ للغصن الأول ، ب ، مع ارتجالات جديدة ثُبِّت لحنُها ، مبتعداً عن الارتجال على لفظة يا حبيبي ، التي كانت في النسخة الأصلية متأثرة بقصيدة جفنه علم الغزل ، وتلا ذلك عودة للارتجال المقنن بوضوح في الغصن الثاني ، أي اللحن : ج ، ما يعد بالنتيجة تطويراً للحن الأصلي ، كما اعتمد كلمة ” خمرتي ” بدلاً من ” جنتي ” في البيت الأخير ، . أدى الأستاذ صباح فخري الأغنية بأسلوبه الخاص ، الذي أعطاها أبعاداً جديدة ، في مجالي التعبير والتطريب ، والقدرات الصوتية الاستثنائية.

بعد أن غنى الأستاذ صباح فخري القصيدة بالشكل الجديد للحن ، شاعت نسخته بين المغنين ، حتى في حماه وحمص ، وغابت النسخة الأصلية ، التي ، كما سمعنا ، كانت لحناً واحداً للمذهب ، وارتجالات ذوقية يسايرها الإيقاع.

مقارنة الألحان الأربعة:


نتابع الآن أداء الأستاذ صباح للأغنية في دار الأوبرا المصرية عام 1997


وأخيراً

نعم .. لقد تعرض مسار قصيدة أنا في سكرين من خمر وعين للكثير من الجدل ، إذ أن الأستاذ صميم الشريف في كتابه الموسيقى في سورية أرجع اللحن إلى سري طمبورجي ، كما سُجل في إذاعة دمشق ، فيما أرجعه آخرون ، كالأستاذ عادل أبو شنب ، للأستاذ صباح فخري ، ولكل منهما ، كما سمعنا ، إسهامه في اللحن النهائي الذي صدر بصوته ، ولكن لحن المذهب ، الذي عرفت به الأغنية ، يبقى لملحن غير معروف ، كما هي حالة العديد من المواهب السورية التي بقيت طي النسيان : نعسان الحريري ، وكان لابد من تفصيل الموضوع وإيضاحه ، من خلال مقارنة النسخ الثلاث .. صوتياً .. للتاريخ.

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading