أم كلثوم و السنباطي في أوبرا عايدة : أول وآخر محاولة سينمائية جدية لتعريب الأوبرا حاصرها الطول والحذف و تغريدات أسمهان!

شعار كتاب الأغاني الثاني

تعرف العرب على الأوبرا أولاً من خلال عرض أوبرا ريجوليتو ، في القاهرة ، بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869 ، والتي أتى عرضها بطلب من الخديوي اسماعيل ، الذي ظلمه التلفزيون كثيراً في مسلسله الشهير ، فلم يقدم إنجازات عهده العلمية والفنية..
كان الخديوي قد اتفق مع الموسيقار الإيطالي جوزيبه فيردي ، على تقديم أوبرا عايدة ، التي تدور أحداثها في مصر ، فلم يتمكن فيردي من إنجازها في الموعد المحدد ، ما تسبب في عرض أوبرا ريجوليتو  ، لفيردي ، لتعرض أوبرا عايدة بعد سنتين ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أوبرا عايدة راسخة في أذهان المصريين ، تقدم في مناسبات متكررة من قبل أهم الفرق الموسيقية العالمية ، وخاصة أمام الأهرامات ..
في عام 1942 ، قررت أم كلثوم ، تقديم هذه الأوبرا بشكل سينمائي في فيلم سمي باسم الأوبرا : عايدة ، في محاولة للبقاء على قمة الحداثة في الموسيقى العربية ، أمام رائعة القصبجي و أسمهان: يا طيور . جاء الفيلم من إخراج أحمد بدرخان ، وبطولة السيدة أم كلثوم وابراهيم حمودة ، و قُدمت في سياقه أول محاولة سينمائية لتعريب الأوبرا : أوبرا عايدة ، في نص لأحمد رامي ، بعد إرهاصات في أعمال لمنيرة المهدية وداود حسني ، اعتمدت ملامح مبسطة من فن الأوبرا ، دون أن تغيِّر من أسلوب الأداء الصوتي الشرقي إلا فيما ندر ..
جاءت أوبرا عايدة في الفيلم أولاً في فصلين. لحَّن الفصل الأول محمد القصبجي، كما لحَّن الثاني رياض السنباطي، وكان التوزيع الموسيقي من نصيب ابراهيم حجاج ، وقيادة الأوركسترا من نصيب عزيز صادق. جاء لحن السنباطي في أسلوب جمع بين الأسلوب الأوبرالي وبعض التوجه للتطريب، كما نتابع من التسجيل المرفق ، مع اعتماد أسلوب الغناء من الحنجرة في الأداء ، فيما ابتعد محمد القصبجي عن ذلك ، مفضلاً اعتماد التعبير في ألحانه ، كما قيل ، إذا أنني لم أستمع إلى الفصل الذي لحنه بسبب إتلافه ، كما سأشرح غداً ، مما أفقد قسمي الأوبرا تماسك الألحان فيهما.
تسبب طول الأوبرا في صيغتها الأولى ضمن الفيلم، في بطء إيقاعه، فهاجمه النقاد.أدخلت تعديلات فنية على الفيلم ، وأضيفت مشاهد وحذفت أخرى، كما أضيفت أغانٍ جديدة لأم كلثوم، من ألحان زكريا أحمد، وألغيت مشاهد من الأوبرا، كما حُذف الفصل الذي لحنه القصبجي منها ، كما أسلفت ، لتقصير مدتها. ولكن هذا لم ينقذ الفيلم من مصيره المحتوم..

لنتابع التسجيل الكامل للفصل الثاني قبل أن نتوقف عنده بالتحليل الموسيقي


في التحليل الموسيقي

كتب أحمد رامي النص بالعربية الفصحى ، وفق الأسلوب الذي تم تداوله في إرهاصات تعريب هذا الفن ، وحمّله ، وهو المدرك لضرورات فن الأوبرا ، والذي خًبِر المونولوجات الرومنسية مع محمد القصبجي ، كثافةً كبيرة ًفي الأحرف الصوتية ، بما يسمح بإطلاق الصوت ، وهو العنصر الأساس في غناء الأوبرا.
يكفي أن ندقق أحرف المد في بيتي المدخل:
راداميس : أرااااااااااكِ يااااااا نووووووور عينيييييييييي بعد اشتياقاااااااايييييييي ووجدييييييي
عايدة: دعنيييييييي ولااااااااا تدنُ منيييييييييي ماااااااابااااااالك الآاااااااان عنديييييييييي
جاء النص حوارياً على الغالب ، ما قيد الملحن في جملٍ لحنية مرسلة بعيدة عن الإيقاع ، إلا في بعض اللمحات الموسيقية والغنائية الموقعة العابرة ، وهو ما أبعد الأوبرا عن الجمهور ، الذي أحس ببعض الرتابة ، كما خلا الفصل الثاني من أي مشاهد فردية لأم كلثوم أو لابراهيم حمودة ، تجسد إطلاقاً لعنان العواطف ، ما كان سيفسح في المجال للسنباطي لمزيد من الحرية في التلحين والتعبير ، ولأم كلثوم اجتذاب إعجاب محبيها ، المعتادين على صوتها طليقاً بمفرده . طبعاً من المحتمل أن تكون هذه العناصر متوفرة في المشاهد التي حذفت ، ولكن ما بقي كان يفتقد إلى ما يجذب جمهور السينما ، نسبة لما كانت حفلت به الأفلام الغنائية التي سبقت فيلم عايدة ..
حاول رياض السنباطي ، معالجة هذا الواقع ، من خلال التركيز على منطقة الأصوات الحادة لأم كلثوم وابراهيم حمودة ( الجواب ) الجاذبة للجمهور ، مبتعداً عن مناطق القرار المنخفضة ، ما جعله يوظف في اللحن مساحة صوتية محدودة ، لم تزد عن 10 أصوات موسيقية ، هي المساحة المشتركة بين أم كلثوم وابراهيم حمودة ، ما أضاف بالنتيجة رتابة جديدة ، أبعدها تركيز السنباطي على التعبير عن المواقف المتنوعة ، بين الحماسة والغزل ، وكذلك مشاعر الخزي و العار التي عاشها بطل الأوبرا راداميس ، في انتقالات صدامية أضافت تلويناً تعبيرياً وأعطت اللحن إيقاعاً داخلياً ، عوَّض إلى حد كبير العناصر المفتقدة.
سيطر التوزيع الموسيقي وفق الأسلوب الكلاسيكي الغربي المعتمد في فن الأوبرا ، وقد اعتمد السنباطي في اللحن باتالي على المقامات الموسيقية الخالية من أرباع الأصوات عموماً ، أي النهاوند ( مينور ) والعجم ( ماجور ) ، بما يسمح باعتماد التوزيع الموسيقي ، ولكنه مع ذلك مرَّ عدة مرات على مقام الراست الشرقي مثلاً ، للتأكيد على صلاحيته للتعبير عن العواطف حيث يلزم ، حتى مع التوزيع الهارموني…
وصلت أم كلثوم إلى جواب درجة مي بيمول ، في أحدّ الأصوات ، عند إطلاق صوتها على لفظة الشقاء ، وكذلك قبيل ختام الفصل ، فيما وصل ابراهيم حمودة إلى جواب درجة الفا ، بشكل عابر ، ما يبرز قدرات صوتية في المساحة الصوتية تتفوق فيها أم كلثوم على حمودة بأربعة أصوات نسبية على أقل تقدير ، حين الأخذ بعين الاعتبار للوضع النسبي لأصوات النساء إلى أصوات الرجال.
بالمقابل ، أستطيع أن أعتبر هذه الأوبرا مدرسة ، في توظيف التلوين المقامي ، و في تصوير المقامات ، أي تنفيذها في مواقع مختلفة ضمن المسار اللحني ، بما يكفل العدالة الكاملة في إبراز صوت أم كلثوم وابراهيم حمودة في أبدع صورة ، وهو ما لم نره في قيس وليلى لعبد الوهاب وأسمهان ، حيث لجأ السنباطي إلى الدخول المفاجئ في مقام جديد مثلاً ، يلائم الطبقة الصوتية لحمودة ، أو الموقف الحماسي المستجد ، فلا يشعر المستمع بالتغيير المقامي ، ويجذبه لمعان الصوت ، وهو أسلوب متداول في الأوبرا لمواءمة اختلاف الطبقات الموسيقية بين المغنين ، اتبعه الأخوان فليفل والأخوان رحباني لاحقاً مع فيروز ، وهذا طبيعي إذ درس الأخوان فليفل والأخوان رحباني هذا الأسلوب من أساليب الموسيقى الغربية ، بينما طبقه السنباطي دون أن يكون قد درسه في الأصل ، ما يبين مدى الدقة والاتقان في عمله.
ومع ذلك ، فقد ركز السنباطي على إطلاق أم كلثوم صوتها ، في المناطق الحادة ، بشكل أكثر لمعاناً من صوت ابراهيم حمودة ، كما ورد عند : ونبتسم في ربــــــــاه – على ربــــــاها وفي حمـــــاهــــــا – تعال ننسى الشقــــــاء .. حيث وصلت في هذه التغريدات إلى درجة صوتية حادة للنساء وهي جواب المي بيمول ( كلمة الشقاء ) .. فيما لم نجد أي تغريدة لحمودة !
لإعطاء فكرة عن المقامات المستخدمة وتلونها ، مع اعتماد الدرجات الصوتية للبيانو ، بسبب التوزيع الموسيقي المرافق ، يكفي أن أقول أن السنباطي بدأ لحنه على مقام النهاوند على درجة المي ، وأنهاه على مقام العجم على درجة اللا بيمول ، ما يعد بحد ذاته غير مسبوق في الموسيقى العربية ، إلا فيما فعله عبد الوهاب في لحنه لقصيدة يا جارة الوادي عام 1928 ، مراعياً مساحة صوته هو ، كما تنقل السنباطي على طول اللحن، وعلى التتالي ، بين : مقام النهاوند على درجة المي ، العجم ( سلم ماجور ) على درجة السي ، النهاوند على درجة لا بيمول ( سلم مينور ) ، الراست على درجة لا بيمول ، العجم على درجة لا بيمول ، الكرد على درجة مي بيمول ، الكرد على درجة لا بيمول ، النهوند على درجة لا بيمول ، العجم على لا بيمول.
طبعاً بالنسبة للعازفين الشرقيين ، لاشك في أنهم خفضوا ضبط آلاتهم الموسيقية نصف درجة ، لكي تصبح هذه التصاوير المقامية ملائمة لهم أكثر أثناء العزف ..
تأثر السنباطي في تلحينه لأوبرا عايدة بلحنه لأم كلثوم ” نشيد الجامعة ” ، الذي أتى في سياق فيلم نشيد الأمل عام 1937.
شاركت فتحية أحمد في دور بسيط في هذا الفصل ، بينما يقال بأن دورها كان هاماً في الفصل الأول الذي أُتلف!
يعتبر إتلاف القسم الخاص بالقصبجي خسارة كبيرة للموسيقى العربية، إذ أتلفت أصوله ولم يبق منها أي أثر!!.

من المحتمل أن يكون النجاح الهائل الذي حققه أداء أسمهان لمونولوج تغريد البلابل ” يا طيور ” قبل سنوات ، إلى جانب طول الفيلم وحذف الفصل الأول ،  من أهم مسببات فشل أوبرا عايدة.

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.