الإيقاع في الغناء العربي : عكس تطور الفكر الموسيقي العربي في نهوضه وتنوعه .. وفي ذبوله!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في الإيقاع..

آلة الرقالإيقاع ظاهرة من ظواهر الحياة الطبيعية ، تعددت مظاهره فيها ، من تعاقب  الليل والنهار ، و  الفصول الأربعة ، و الشهيق والزفير ، والجوع والشبع ، والنوم واليقظة ، وانتظام ضربات القلب ..  وقد جسد الإيقاع بالتالي الدلالة على استمرار الحياة وحدوثها ،  فلولا تلك المظاهر الإيقاعية الطبيعية التي قد تتجلى أيضاً في أي حركة في الطبيعة ، من ركض الخيل ، و سير الإبل ، ونمو الأزهار ، مترافقة بتلك الأصوات الساحرة ، من تغريد الطير ، وغناء الإنسان ، لما شعرنا بتجدد الحياة واستمرارها مع الزمن .. فالإيقاع إذاً عنصر من عناصر الحياة ، وبحدوثه تنتقل حالة الإنسان من سكون إلى حركة .. من جماد إلى روح.

وكان لابد من أن يتجسد الإيقاع في الفنون الإنسانية ، قديمها ، كالموسيقى والغناء والرقص والمسرح والأدب والشعر والتصوير ، وحديثها كالأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية ، كل حسب إطاره وطريقته.


الإيقاع الشعري

الخليل بن أحمد الفراهيدي 1

الخليل بن أحمد الفراهيدي – رسم تخيلي

اعتمد الشعر العربي في إيقاعه ، كما صنَّفه الخليل بن أحمد الفراهيدي ، على عناصر مطابقة للمفردات العربية ، أسماها الأسباب و الأوتاد و الفواصل وفق ما يلي:
السبب الخفيف : متحرك وساكن كقولك: لا، منْ –  السبب الثقيل : متحركان متتاليان كقولك: لِمَ ، لَكَ –  الوتد المجموع: متحركان وساكن كقولك: نعَمْ، أتى – الوتد المفروق : متحرك وساكن ومتحرك كقولك : ماتَ، جاءَ – الفاصلة الكبرى: ثلاثة متحركات وساكن كقولك : سكنوا، سألَتْ – الفاصلة الكبرى : أربعة متحركات وساكن كقولك : سأَلَهَمْ، عَمَلُنا.
ثم جاءت التفعيلة وهي الخلية الإيقاعية الأصغر ، و تنشأ عبر تركيب ما للعناصر الموصوفة أعلاه ، فالبحر الشعري ، وهو الخلية الأكبر ، وينشأ عبر تركيب ما للتفعيلات ، لنصل إلى القافية ، وهي الخلية التي تنهي دورة إيقاعية شعرية واحدة .

قام الخليل بن أحمد الفراهيدي بهذا معتمداً على عملية إحصائية للشعر العربي ، لعلها أول عملية إحصائية في تاريخ تطور الفنون الإنسانية ، ولكنه اقتصر في ذلك ، على إظهار الترتيب الذي يجب حفظه بين الأحرف الساكنة والمتحركة ، حتى يتألف منها كلام يلذ سماعه .

بالنتيجة ، قام الفراهيدي بعمليتين رائعتين ، تدلان على تفكير هندسي مجرد : رمَّز الشعر ، ووضعه في نماذج محددة ، ولكنه بالمقابل حدد للشعراء بعض الأوزان ، ليسكبوا فيها أخيلتهم وصورهم الشعرية ، مبعداً إياهم عن استنباط أية إيقاعات أخرى ، قد تنتج أجواء جمالية مختلفة ، ما تسبب لاحقاً في سعي الشعراء لزيادة الجرعة الموسيقية في شعرهم ، عبر إدخال الزحافات والعلل ، التي كانت محاولة جادة ، غير كاملة برأيي ، لكسر رتابة الإيقاع الشعري كما حدده الخليل ، و لفتح آفاق جديدة أمام إبداعاتهم.

إلا أن  شكل القصيدة العمودية بقي مسيطراً ، وكان على حركة التجديد في الشعر أن تنتظر ثمارها في تلك البلاد البعيدة : الأندلس ، حين ولد الموشح ، كفن شعري ، يعتمد في إيقاعه ، على الإيقاعات الموسيقية ، كثيرة التنوع ، ثرية العناصر ، التي تطورت بموازاة إيقاعات الشعر ، ثم انفصلت عنها ، لأنها ولدت من البداية .. حرة!

الإيقاع الموسيقي

نعم .. لقد تمتع الإيقاع الموسيقي عموماً ، والعربي خصوصاً ، بحرية كاملة ، إذ اعتمد ، بحسبانه التنظيم الزمني لحركة اللحن ،على تركيبات ذوقية على مستويين : جوهرية ومركبة . تتولَّد الإيقاعات الجوهرية من تركيبات بسيطة بترتيب معين ، لتناوب ثلاثة عناصر  : عنصر التوتر – النبضة القوية / الدم / ، وعنصر تحرير التوتر – النبضة الضعيفة / التك / ، وعنصر السكون ، ويقوم الملحن في حرية كاملة بتحديد التناوب الملائم الفكرته الموسيقية ، حيث تتوالى فيه النبضات القوية والضعيفة ، المتقاطعة مع ومضات  سكون ، في تسلسل معين ، ثم  يتم تكرار ذلك التسلسل عدداً من المرات ، على طول الفكرة اللحنية ، فيكسِب المستمعين الإحساس بأجواء تميز ذلك الإيقاع. قد يلجأ الملحن إلى اعتبار ذلك التسلسل ، كتلة إيقاعية جوهرية  ، قابلة للتناوب ، مع كتلٍ جوهرية أخرى مختلفة التركيب ، للتوصل إلى ما يسمى الإيقاعات المركبة ، التي تولّد من تركيبات ذوقية بترتيب معين مما سبق اعتماده من تركيبات ذوقية إيقاعية أولية . من المهم هنا أن نشير إلى أن تسلسلاً إيقاعياً محدداً للنبضات القوة والضعيفة وومضات السكون ، قد يسمى بأكثر من اسم ، حسب السرعة المعتمدة لأدائه ، وهو ما يظهر أثناء تدوينه بالعلامات الموسيقية.

من هنا كان الاختلاف واضحاً بين مساري الشعر والموسيقا ، على الأقل في قابلية التطوير في اللغة الموسيقية ، فالملحن حر تماماً في ابتداع إيقاعات جديدة ، مبنية على المبادئ الموصوفة أعلاه ، أمام صعوبات تبني الموقف ذاته في الشعر ،حيث التمسك بالأصول التي وضعها الخليل بن أحمد حادٌ وصريح .

ولكن هناك فارقاً أساسياً يميز بين الإيقاعين  الشعري والموسيقي ( إلى  جانب الفارق في التنوع ، و فوارق أخرى بعيدة عن موضوعنا ) ، فالإيقاع الموسيقي تُحدد فيه السرعة والأزمنة والنبضات القوية والضعيفة ومواقع الصمت وأدوار التكرار الداخلية ، أما الإيقاع الشعري ، فهو عبارة عن ترتيب ، يجب حفظه بين الأحرف الساكنة والمتحركة ، حتى يتألف منها كلام يلذ سماعه ، دون أن تتحدد سرعة لفظ ذلك الكلام ، ولامواقع الضغط القوي أو الضعيف ، فكأن الخليل بسط لنا مادة الإيقاع وطوى صورته!

الغناء العربي في بداياته

كتاب الموسيقى الكبير 1ارتبط الغناء العربي منذ نشأته بالشعر ، واكتسب منه في البداية إيقاعه ،  إذ أنه كان إنشاداً للقصائد ، عبر ألحان بسيطة ، تبنى على  إيقاع الشعر المغنى نفسه ،  وكأنه كان بالنتيجة إنشاداً محسَّناً للشعر .
ولكن رغبة الموسيقيين ، وخاصة طًويس وعزة الميلاء ، في التخلص من قيود الإيقاع الشعري ، بسبب الاختلاف الموصوف بين الخلايا الإيقاعية الأساسية في بنية الإيقاعين الموسيقي والشعري ، سرعان ما قادتهم إلى توليد ما سمي  ” الغناء المتقن ” ،  وهو نمط غنائي جديد   ، ولد في الحجاز في منتصف القرن الأول الهجري ، اعتمد اللحن فيه على إيقاع موسيقي مستقل عن الإيقاع الشعري ، مركب بشكل ذوقي ، وإن كان على اللحن أن يحقق التوافق مع الإيقاع الشعري ، لضرورة ألا يشذ اللفظ المغنى ، في مدته الإيقاعية ، عما تعودت العرب أن تسمع ، في عملية تركيبية فطرية عجيبة ، يصفها الفارابي في مؤلفه الهام ” الموسيقى الكبير” ، مقدراً روح التجريب عند طويس ، مبتدع هذا الشكل الغنائي الجديد ، الذي يمكن تسميته بالتوافق الإيقاعي أو “البوليرتمي”.
يورد  الفارابي أن طويساً كان يزين لباسه بالأجراس ، ويهز جسمه حسب الإيقاع الموسيقي المختار ، ويترنم بالشعر حسب إيقاعه الشعري ، ويستمر في هذه العملية التجريبية ، إلى أن يجد التوافق الإيقاعي المطلوب، فيولد اللحن. وكم أحب أن أشابه هنا بين هذا الأسلوب ، والأسلوب التجريبي الفطري ، الذي ابتدعه سيد درويش أثناء وضعه للحن ” دقت طبول الحرب ” في مسرحيته شهرزاد.


كان طويس إذاً أول من تغنى بهذا الأسلوب في قوله :

كيف يأتي من بعيد     وهو يخفيه القريب
نازح بالشام عنا        وهو مكسال هيوب
قد براني الحب حتى    كدت من وجدي أذوب

وقد قال عنه صاحب الأغاني إنه أول من غنى الغناء المتقن ، و أول من صنع الهزج والرمل في الإسلام ، وهما نمطان من الغناء المتقن الخفيف ، على إيقاعين موسيقيين جديدين ، هما الهزج والرمل. أما الغناء الثقيل ضمن الغناء المتقن ، فقد نُسب لعزة الميلاء وسائب خاثر . وكان أول صوت صنعه سائب منه هو:

لمن الديار رسومها قفر     لعبت بها الأرواح والقطر

حيث بناه على إيقاع سمي الثقيل.

في الفترة الأموية والعباسية

رسائل إخوان الصفا

من مخطوطة لرسائل إخوان الصفا

بالتدريج ، تنوعت الإيقاعات الغنائية في العهد الأموي لتصبح ستة إيقاعات : الثقيل الأول – الثقيل الثاني – خفيف الثقيل – الرمل – خفيف الرمل – الهزج ، وأضيف إليها فيما بعد ، خفيف الثقيل الثاني ، وخفيف الهزج ، لتصبح ثمانية إيقاعات . ومع ذلك فقد بقي الشعر هو الأساس ، وكان جل اهتمام الملحن ينحصر في أن يطابق بين أزمنة لفظ الأحرف ، حسب الإيقاع الشعري ، مع الإيقاع الموسيقي ، بطريقة فطرية.

ولكن ، و ككل إبداع تجريبي ، كان لابد من أن تأتي فترة هضم وتمثل له ، وصياغة لقواعدَ تقوننه ، وتجعله صنعة مدروسة. كان إسحاق الموصلي أول من تمكن من قوننة التوافق المطلوب بين الإيقاعين الشعري والغنائي ، عبر تقسيم نبضات الإيقاعين على الورق ، لتحقيق مواقع التوافق بينهما ، في ظل عدم إمكان التهاون في أي إساءة للفظ والنطق العربيين ، مع إمكانية التلوين في إيقاع الغناء لكي يفتح أمامه مجالات جديدة في عالم التلحين ، معتمداً على إمكانيات المد والخطف في ذلك.

بالمقابل ، وفي ظل غياب أي تركيبات إيقاعية جديدة من قبل الموسيقيين التطبيقيين ، اندفع الباحثون الموسيقيون ، مستفيدين من الحرية الكاملة التي يتيحها الإيقاع الموسيقي ، في إجراء تركيبات نظرية جديدة له ، فجاءت طروحات الفارابي في كتابه ” الموسيقى الكبير ” لتفتح آفاقاً واسعة لإجراء تركيبات لانهائية ، استند فيها إلى أسلوب رياضي ، يعرف حالياً بالمتوافقات والمتبادلات ، في تشكيل مجموعات إيقاعية معقدة ، استناداً ْإلى خلايا إيقاعية أصغر ، مع فحصها ذوقياً لتبيُّن مدى تقبل الأذن لها.

تابع إخوان الصفا المسيرة في رسالتهم الموسيقية ، ليعطونا مبدءاً آخر للتركيب ، سيكون له تطبيقاته الشعرية بعد مئات السنين ، حيث طلبوا من الموسيقي الحاذق ، إذا أحس بملل الناس ، أن يغير الإيقاع حسب أسلوب فريد ، يتلخص في التوقف عند خلية إيقاعية صغيرة من خلايا الإيقاع المركب المتداول (كانت الإيقاعات المتداولة ثمانية إيقاعات) ، ثم المتابعة في إيقاع آخر ، تكون الخلية المذكورة سابقاً ، موجودة في بداية تركيبه ، وتصبح كالجسر بين إيقاع وآخر. أليس هذا مبدأ شعر التفعيلة  اليوم ، حين ينتقل الشاعر من تفعيلة إلى أخرى ، ضمن القصيدة ذاتها؟

من كتاب الأدوار للأرموي

من كتاب الأدوار للأرموي

تابع صفي الدين الأرموي المسار ، في أبحاثه النظرية التي احتواها كتابه الأدوار، حيث أدخل بالإضافة إلى التركيبات الرياضية للإيقاع ، فكرة استخدام الدوائر لتمثيل الإيقاع ، ( كما فعل الخليل في دوائره العروضية ) ،ومن ثم تدوير الدائرة بمقدار نبضة إيقاعية واحدة ، بحيث قد ينتج عن ذلك إيقاع جديد.

الأندلس

بقيت أبحاث النظريين دون تطبيق فعلي في المشرق العربي ، نظراً للتمسك الصارم بقواعد نطق اللغة أثناء الغناء ، ولكن الأندلس ، تلك البقعة العربية في قلب أوربا ، البعيدة جغرافياً عن المشرق ، أتاحت لموسيقييها  أن يبدعوا في إطار حر ، وأن يطبقوا التركيبات الإيقاعية الجديدة في أعمالهم الغنائية ، وخاصة في الموشحات ، التي أصبحت تُلحن ، ثم ينظم لها الكلام حسب الإيقاع الموسيقي، مع إضافة لفظات كمتكآت لفظية ، حين يقصر النظم عن اللحن، مما أطلق حرية الملحنين وخلصهم من قيد الإيقاع الشعري أصلاً ، وهكذا وصل عدد النبضات الإيقاعية في أحد الإيقاعات إلى 176 نبضة إيقاعية ، تم تركيبها حسب قواعد الفارابي ، حيث سمي هذا الإيقاع :إيقاع الفتح ، ولا يُعرف من الألحان المبنية على هذا الإيقاع في أيامنا هذه إلا بشرف إسحق البياتي ، الذي سجله سامي الشوا مع فرقته الموسيقية. بشرف إسحق البياتي سامي الشوا وفرقته

تجدر الإشارة هنا ، إلى أن هذا التطور في عدد النبضات الإيقاعية ، كان في فترة لم يكن فيها تدوين حقيقي للموسيقى ، ولنا أن نتصور صعوبة أن يتم تنفيذ الإيقاعات الطويلة ، دون أي مساعدة بصرية ، و إنطلاقاً من إدارةٍ ذهنية خالصة!

و كان أن تطور إيقاع الموشحات في الأندلس في اتجاه جديد ، مع ابتداع الإيقاعات المتناوبة ضمن الموشح الواحد ، الذي أصبح يبنى على إيقاعين مختلفين متناوبين. هذا الامتداد الإيقاعي قابله أيضاً امتداد إيقاعي من نوع آخر ، تمثل فيما سمي مراسيم زرياب، حيث أصبح العمل الغنائي يتشكل من مجموعة من الألحان المتتالية ، المبنية على إيقاعات متنوعة متسارعة . دعي العمل الناتج النوبة الأندلسية.

من المفيد أن نذكر هنا ، أن الإيقاعات الطويلة قد تمتد دورتها الإيقاعية على طول الأبيات والأقفال المتناوبة في الموشح الأندلسي ، وتتكرر مع تكرار تلك الأبيات والأقفال ، في تطور جديد . فبعد التطور الذي حصل في تناوب الإيقاعات مع تناوب الابيات والأقفال في الموشح ، أتى تشكيل جديد للإيقاعات الطويلة التي أصبحت دورتها الإيقاعية الواحدة تضم ذلك التناوب . يمكن أن نورد هنا كمثال على تلك الحالة موشح ” نبه الندمان صاح ” على مقام الحجاز كار، وعلى إيقاع نقش الهزج ، الذي يصل عدد نبضاته إلى 40 نبضة ، وهو مشكل من ثلاثة إيقاعات : الهزج وعدد نبضاته 22 نبضة ، والمدور التركي وعددها 12 نبضة ، و المدور العربي وعددها 6 نبضات ، ليكون المجموع 40 نبضة ، تمتد على طول الدورة الإيقاعية الواحدة. نتابع هذا الموشح في تسجيل نادر للأستاذ صباح فخري ، و سيليه موشح ” أفديه ظبياً إن ابتسم ” ،  وهو على إيقاع اليوروك ، وعدد نبضاته 6 نبضات ( 6/8) ، وقد رأيت المتابعة في نشر التسجيل ،  لأن عازف الرق سيؤدي الإيقاع مباشرة ، وبشكل واضح ، قبل الدخول في الغناء ، ما يوضح التغير الإيقاعي بين موشحين متتاليين ، مع تسارع الإيقاع ، وفق مراسيم زرياب ، في ضرورة تسارع الإيقاعات ضمن وصلة الموشحات . سيكون هناك المزيد من التفصيل في الدراسة حول الموشح الأندلسي وأسلوب تلحينه المعمول به في حلب لاحقاً.

مع انتقال عناصر الغناء الأندلسي إلى المغرب العربي وشرقه ، و مع مرور الزمن ، تبنى المشرق الأساليب الجديدة ، وأصبحت موشحات المشرق وقصائده تلحن وفق الأسلوب الأندلسي مع تطوير سنعرض له في دراسة خاصة كما أسلفت.

بالنتيجة ، استطاعت الإيقاعات الموسيقية أن تتنوع ، حتى تجاوز عددها المئات ،نتابع هذا امعتمدة في ذلك على الأساليب الرياضية التي ابتدعها الفارابي لتشكيل إيقاعات جديدة  ، عبر تراكيب من خلايا إيقاعية أبسط ، شريطة قبولها ذوقياً ،  فيما بقيت الإيقاعات الشعرية كما حددها الخليل.

العصر الحاضر

تميزت الموسيقى العربية بتنوع الإيقاعات فيها ، إذ أمكن حصر حوالي 342  إيقاعاً موسيقياً متداولاً في العالم العربي ، وثَّقها بتفاصيلها شقيقي الدكتور أحمد رجائي آغا القلعة في كتابه : أوزان الألحان بلغة العروض ، ومن أشهرها إيقاع السماعي الثقيل ، المشكل من 10 نبضات ، على الترتيب ( نبض قوي – سكون – نبضان ضعيفان – سكون – نبضان قويان – نبض ضعيف – سكون – نبض ضعيف ) و الذي بنيت عليه أغلب المؤلفات الموسيقية في العصر العثماني ، في قالب موسيقي خاص ، سمي قالب السماعي الثقيل ، — سماعي شت عربان تسجيل إذاعة حلب — ، كما صيغت على هذا الإيقاع موشحات كثيرة.

يمكن ذكر إيقاعات أخرى بنيت عليها أيضاً موشحات كثيرة ، كالنوخت و اليوروك و الـدور الهندي والمصمودي والأقصاق والعويص .. كما يمكن ذكر إيقاعات أصبحت رائجة في العصر الحديث كإيقاع الوحدة الكبيرة والوحدة لصغيرة والملفوف والجورجينا .. نتابع في الفيديو المرفق موشح غاب حِبي عن عيوني ، من أداء الأستاذ صباح فخري وصحبِه ، وكلهم من طلاب الشيخ عمر البطش ، ملحن الموشح ، في حلقة من برنامج العرب الموسيقى ، كنت خصصتها له في الثمانينات . الموشح على إيقاع الـدور الهندي ، المشكل من سبع نبضات حسب الترتيب : نبض قوي – نبضان ضعيفان – نبض قوي – سكون – نبض ضعيف – سكون ، وهو إيقاع أعرج ( أي أن عدد نبضاته مفرد ).


رقص السماح والتعبير عن الإيقاع بحركة الجسد

اعتمدت حلب ، في تعاملها مع الموشحات الأندلسية بصورتها الحلبية ، أسلوباً جديداً في تجسيد الإيقاعات المركبة بصرياً ، إلى جانب الأسلوب البصري الشعري والمعماري ، الذي اعتُمد في الأندلس ، والذي كنت قد شرحته بشكلٍ وافٍ في برنامجي التلفزيوني ” نهج الأغاني ” ، والمقالة المقتطفة عنه حول السمع والبصر.
سُميَ هذا الأسلوب الجديد ” رقص السماح ” ، و تمثل في تجسيد الإيقاع من خلال حركة الجسد. سيكون هناك دراسة خاصة عن ” رقص السماح ” ، ولكنني سأعرض له هنا ، من خلال تسجيلٍ مقتطف من برنامج ” نغم الأمس ” للأستاذ صباح فخري ، وهو من إخراج الأستاذ هيثم قوتلي ، وسيناريو الأستاذ جميل ولاية .

يتضمن التسجيل أولاً ، مسمعاً من سماعي المحير لجميل بك ( خانة وتسليم ) ، على إيقاع السماعي الثقيل ، وعدد نبضاته 10 نبضات (8/10 ) ،  ثم موشح بدت من الخدر ، على مقام البيات ، يؤديه الأستاذ صباح فخري ، ممسكاً بالرق ، و مؤدياً الإيقاع . الموشح جاء على إيقاع نقش المحجر ، المشكل من ثلاثة إيقاعات متتالية : المحجر وعدد نبضاته 14 نبضة ( 4/14 ) ، ويمكن اكتشاف دورته الإيقاعية ، إذ تبدأ بثلاث نبضات قوية في كل مرة ، ونستطيع بسهولة أن نعد النبضات الأربعة عشر المشكلة للدورة الإيقاعية ، إذ بعدها تبدأ الدورة الإيقاعية التالية ، مع النبضات الثلاث القوية التالية ،   ثم يأتي إيقاع الست عشر المصري ، في قسم تالٍ من الموشح ، وعدد نبضاته 32 نبضة ( 4/32)  ، ثم إيقاع اليوروك ، وعدد نبضاته 6 نبضات  ( 8/6 ).

أشير إلى أهمية التسجيل ، إذ أنه يمكن من خلاله متابعة النقرات على  الرق التي يؤديها الأستاذ صباح فخري ، ومقارنتها بحركات الجسد، التي يؤديها الراقصون متزامنة ، ما يوضح بشكل جليّ ، مبدأ رقص السماح ، كما أبين فيما يلي ، كلمات الموشح مع التغيرات الإيقاعية ،  لتسهيل المتابعة:

الإيقاع الأول / الـدور الأول
بدت من الخدر في هيكل الأقمار
الإيقاع الأول / الـدور الثاني
تزهو على البدر و تخجل الأقمار
الإيقاع الأول / الـدور الثالث
من ريقها السكري و ثغرها الخمّار
الإيقاع الثاني / الخانة
قم يا ساقي الراح نستجلِ الأقداح
الإيقاع الثالث / متابعة الخانة
و املالي جريالي تُجلى لي يا صاح
لقد تهيأ سُكري مع الملاح
الإيقاع الأول / الغطاء
سحَّت و ما شحَّت من عالم الأسرار


في بدايات عصر النهضة الموسيقية العربية الحديثة ، اعتمد المغنون ، وخاصة عبده الحمولي و أبو العلا محمد ، على مبادئ الغناء المتقن في غناء القصيدة ،  مع فارق واحد ، يكمن في التسامح في مد الحروف المغناة ، لأكثر من مدتها المعتادة، مع ثبات الإيقاع الواحد فيها ، فيما تنوع الإيقاع في قالب الموشح ، كما تم تطويره في حلب ، ليداخله التناوب في الإيقاعات ، فيما سمي نقش الأوزان ، كما رأينا قبل قليل ، وتسارعها ، فيما سمي وصلة الموشحات ، وفي قالب الدور ، الذي طوره محمد عثمان وعبده الحمولي في مصر ، وبني على تسلسل من الفقرات اللحنية مختلفة الإيقاع ، في اقتراب في الحالتين ( وصلة الموشحات والدور ) من قالب النوبة الأندلسية ، إذ تتسارع الإيقاعات ، و  تتصاعد الألحان بالتدريج إلى منطقة الأصوات الحادة ، وفق مراسيم زرياب المذكورة أعلاه.

من ناحية أخرى ، جاء المونولوج الرومنسي الذي ابتدعه محمد القصبجي ، على منظومات لأحمد رامي ، محققاً لتركيبات إيقاعية جديدة و متنوعة في العمل الواحد ، لتتنوع الأجواء أكثر ، عندما قام كل من محمد عبد الوهاب  فريد الأطرش و رياض السنباطي ، منذ الثلاثينات من القرن العشرين ، بمزج أسلوب المونولوج في التركيب الإيقاعي، مع القوالب الغنائية الأخرى ، التي كانت ذات بعد إيقاعي واحد ، وكذلك بإدماج إيقاعات غربية راقصة في الغناء العربي ، كان من أهمها إيقاعات الرومبا والتانغو والفالس والبوليرو ، عبر إدماجها في قالب المونولوج من جهة ، و تقديم أغانٍ خالصة بنيت ألحانها على تلك الإيقاعات الغربية ، من جهة أخرى ، ماجعل النهضة الموسيقية العربية في النصف الأول من القرن العشرين ، تكتسب من الناحية الإيقاعية ، نكهة إبداعية خاصة.


تجدر الإشارة إلى أن تلك التجارب الإيقاعية الحديثة ،  اعتمدت على إيقاعات بسيطة في غالبها ، و ابتعدت عن الإيقاعات الطويلة والمركبة ، فيما يمكن التوقف عند تجربتين هامتين : مونولوج ” كتير يا قلبي ” لمحمد عبد الوهاب ،  الذي أتى على إيقاع الأقصاق ( 8/9) ،  كتير يا قلبي لمحمد عبد الوهاب ، و قصيدة ” ختم الصبر بعدنا بالتلاقي ” لفريد الأطرش ، التي أتت على إيقاع الدور الهندي ( 8/7) ، و كنت قد شرحت العلاقة المعقدة بين الأغنيتين ، وخاصة في أسلوب الدخول في الإيقاع ، في الحلقة الحادية عشرة من برنامجي التلفزيوني ” حياة وفن فريد الأطرش “.


وأخيراً

من حيث المبدأ ، عندما يضع الملحن فكرة لحنية جديدة ، هناك احتمالان واردان : الاحتمال الأول أن تكون الفكرة اللحنية مرسلة ، أي بدون أن تترافق بالإيقاع ، أما الاحتمال الثاني فيكون بترافقها مع إيقاع محدد ، يقوم الملحن باختياره مسبقاً ، بحيث يتوافق مع موضوع العمل الغنائي ، ومع إيقاع لفظ الكلام المغنى ، المرتبط أيضاً بالبحر الشعري المعتمد. ولكن الالتزام بهذا التوافق لم يعد للأسف من الأساليب المعتمدة  ، كما تسبب بعد الملحنين الجدد عن امتلاك المعارف اللازمة لتوظيف الإيقاعات المركبة ، في حصر الإيقاعات المستخدمة في عدد محدود من الإيقاعات البسيطة ، خاصة بعد أن سيطر غناء المنوعات ، سريع الإيقاع وبسيطه ، على الغناء العربي ، فكان أن هُمِّشت التجارب في عالم الإيقاعات ، و شُكلت صورة بائسة لغناء اليوم .. بَهت فيها اللحن .. وتَسطَّح الإيقاع!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.