يا عاقد الحاجبين بصوت فيروز : لحنٌ للأخوين رحباني نُسب خطاً لسليم الحلو ، احتوى حرف مد ولَّد لوحده تلويناً في نبض جملة المذهب اللحنية و أكسبها طيفاً تعبيرياً عابراً!

شعار كتاب الأغاني الثاني

رأينا في نشرة سابقة ، أنه إذا كان اللحن موضوعاً سلفاً ، فلابد من إيجاد نصٍ ، يتحقق فيه أحد الشرطين التاليين ، إما أن تتوافق مواقع الأحرف التي تسمح بالمد ، أو الخطف فيه ، مع مواقع المد والخطف في الجملة اللحنية الموضوعة سلفاً ، وهو ما أسميه في الإجمال : نبض الجملة اللحنية ، أو أن تكون كثافة الأحرف الصوتية التي تسمح بالمد والخطف كافية لتحقيق التوافق المطلوب ، ولكن تحقق التوافق الأمثل ، بين بيت شعري محدد و جملة لحنية محددة ، قد لا يستمر مع البيت التالي ، إذ أن مواقع الأحرف الصوتية ، تتغير مع تغير الأبيات ، وحتى في القصيدة الواحدة ، لأن التقطيع العروضي لا يفرق بين حرف ساكن وحرف صوتي قابل للمدّ!
وفي الواقع فإن مواقع الأحرف الصوتية تتبدل ، في الأبيات المتتالية ضمن القصيدة الواحدة والبيت الشعري الواحد ، وهذا في حد ذاته غنى كبير ، لأنه هو الذي يسمح بتلوين نبضات الجمل اللحنية ، و توليد حيويتها. فلنعرض لمثال هو الأبسط في قصيدة لبشارة الخوري : يا عاقد الحاجبين ، التي غنتها فيروز في فيلم بنت الحارس ، عام 1968 من ألحان الأخوين رحباني . نعم الأخوين رحباني ، رغم أن قائمة أغاني السيدة فيروز في موسوعة ويكيبيديا ، تعيدها للأستاذ سليم الحلو!


وهو ما جعل أغلب مواقع الانترنت تعتمد ذلك !

صورة ياعاقد الحاجبين سليم الحلو


ونظراً لأنني أعتمد دائماً على البحث والتقصي ، قبل تأكيد المعلومات ، والاستناد إليها في التحليل ، فقد تبين لي من البداية أن هذه المعلومة غير صحيحة ، إذ يمكن لأي مدقق عارف ، أن يكتشف بسرعة أن مسار اللحن وشخصيته ، لا علاقة لهما من قريب أو بعيد ، بشخصية الأستاذ سليم الحلو التلحينية.
فلنتعرف أولاً على القصيدة

قصيدة يا عاقد الحاجبين

جاءت الأغنية في ثمانية أبيات مختارة ، من قصيدة للأخطل الصغير بشارة الخوري ، التي أتت أصلاً في 12 بيتاً ، حيث تم استبعاد أربعة أبيات ، وضعت باللون الأحمر ، منها ما يشير إلى الشاعر مباشرة:

يـاعاقد الـحاجبين على الجبين اللجين
إن كنت تقصد قتلي قـتلتني مـرتين
مـاذا يـريبك مني ومـاهممت بـشين
أصُـفرةٌ في جبيني أم رعشة في اليدين
تَـمر قـفز غزالٍ بين الرصيف وبيني
وما نصبت شباكي ولا أذنت لـعيني
تـبدو كأن لاتراني ومـلء عينك عيني
ومـثل فعلك فعلي ويلي من الأحمقين
مولاي لم تبق مني حـياً سوى رمقين
صبرت حتى براني وجدي وقرب حيني
ستحرم الشعر مني وليس هـذا بهين
أخاف تدعو القوافي عليك في المشرقين

جاء اللحن في خلاياه متَّبعاً الأسلوب الرحباني في التلحين ، وأشير إلى أن المقدمة الموسيقية ابتدأت بعزف على آلة الجيتار ، فهل كان من الممكن أن يكون اللحن للأستاذ سليم الحلو، وهو الملحن الكلاسيكي المتعلق بتلحين الموشحات ، إذ لحن 20 موشحاً ضمَّها كتابه : الموشحات الأندلسية ، وكذلك بتلحين القصائد التقليدية!

سبب الخطأ

أعتقد أن سبب الخطأ يعود إلى سببين : أولهما  أن الأستاذ سليم الحلو لحن فعلاً قصيدة يا عاقد الحاجبين ، و لكن اللحن كان للمطربة نازك ، وليس لفيروز ، وذلك كما أوردت في مقالي حول الأستاذ سليم الحلو ودوره في التركيز على الموشحات الأندلسية و الغناء العرببي الكلاسيكي ، وثانيهما إلى أنه لحن لفيروز قصيدة ” نحن سر في الليالي ” ، — نحن سر في الليالي لفيروز —  ، التي أتت في أسلوبه التلحيني المعتمد على الأساليب الكلاسيكية. الآن .. لو قارنا بين هذا اللحن ، وألحانه لنور الهدى ، وموشحاته ، المنشورة أيضاً ضمن مقالي المشار إليه أعلاه ، من جهة ، ولحن يا عاقد الحاجبين ، لاكتشفنا بسهولة أن يا عاقد الحاجبين تندرج في إطار الأسلوب الرحباني في التلحين ، مع التركيز على اعتماد لحن الأخوين رحباني على الجيتار ، وهو ما لا يمكن أن يقوم به سليم الحلو !

الإثبات الأخير لصحة ما ذهبت إليه :

ليس من عادتي أن أقطع بعائدية لحن بشكل نهائي ، دون أن أدعم الرأي الاستنتاجي بوثائق ما أمكن .. وهنا كان الإثبات التالي:

درج الأخوين رحباني في أعمالهما ، على اعتبار أن الأعمال لفيروز هي في الأصل لهما ، مع التنويه ، في غلاف الأسطوانات مثلاً ، إلى أي عنصر من الأعمال إذا كان لشاعر أو ملحن آخر .. وبالعودة إلى مقدمة فيلم بنت الحارس ، حيث وردت أغنية يا عاقد الحاجبين ، نجد أنهما نوها إلى أن قصيدة يا عاقد الحاجبين هي للأخطل الصغير شعراً ، وأن لحن طيري يا طيارة ، لفيلمون وهبي ، كما تدل الصورة المرفقة ، فيما لم يكن هناك أي إشارة ، إلى أن لحن يا عاقد الحاجبين ليس لهما !!

إثبات عائدية يا عاقد الحاجبين للأخوين رحباني وليس سليم الحلو مصغرة


لنأتِ الآن إلى ما كنت بدأت في البحث فيه : تأثير تغير مواقع أحرف المد الصوتية ، ضمن أبيات القصيدة الواحدة على اللحن.
لنأخذ البيتين الأولين من القصيدة:
يـاعاقد الـحاجبين * على الجبين اللجين
إن كنت تقصد قتلي * قـتلتني مـرتين
وللتبسيط لنعتبر الشطرة الأولى من كل بيت : ( يا عاقد الحاجبين ، إن كنت تقصد قتلي ) نلاحظ بسهولة أن مواقع أحرف المد ليست متماثلة . فالشطرة الأولى : يا عاقد الحاجبين ، فيها 3 أحرف صوتية ، فيما في الشطرة الأولى من البيت الثاني ، هناك حرفٌ صوتي واحد ، والمواقع مختلفة تماماً . عند استماعنا إلى الأغنية نلاحظ أن لحن الشطرة الأولى ، ليس فيه أي مد ، عند الأحرف الصوتية الثلاثة ، التي تسمح بالمد ، واللحن يتوافق إذاً تماماً مع إيقاع الألفاظ ، بينما يظهر المدُّ في الشطرة الاولى من البيت الثاني عند : ” قتلي ” ، فيولِّدُ تنويعاً في نبض الجملة اللحنية ، وحيويةً في اللحن ، نظراً للتغيير الذي حدث في نبض الجملة اللحنية ، بعد إيقاعية متكررة في البيت الأول ، توافقت تماماً مع إيقاع اللفظ.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المد ، أعطى تعبيراً عن المعنى ، إذ أنه أكسب كلمة ” قتلي ” أهمية ، نسبة لباقي الكلمات وهكذا نلاحظ أن امتداد لحن كلمة ” قتلي ” ، بالاستفادة من حرف المد في نهايتها ، ولَّد تنويعاً في النبض العام للجملة اللحنية ، و أكسب الكلمة أهمية تعبيرية خاصة!
لعلَّ هذا المثال هو الأبسط ، على كيفية إغناء نبض الجمل اللحنية ، من خلال تغيير مواقع خطف و مد الأحرف ، على مسار أبيات القصيدة المتتالية.

لنتعرف على القصيدة التي  قدمتها السيدة فيروز في سياق فيلم بنت الحارس عام  1968 .


 نسخ أخرى للقصيدة

كثيراً ما تداول الملحنون قصيدة الأخطل الصغير ” يا عاقد الحاجبين ” ، و من المفيد التذكير بأن المطربة العراقية عفيفة اسكندر المولودة في سورية عام 1921 والمتوفاة عام 2012 ، قدمت هذه القصيدة بلحن للملحن العراقي رضا علي ، باختيارات أخرى من أبيات القصيدة .


كما غناها المطرب الكويتي حسين جاسم على أسلوب فن الصوت أيضاً باختيارات أخرى من الأبيات .

 د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.